الاثنين، 15 أبريل 2013

تفسير سورة طه (99-119) / من دورة الأترجة

د.محمد بن عبد العزيز الخضيري



{كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آَتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا ﴿٩٩﴾ مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا ﴿١٠٠﴾ خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا ﴿١٠١﴾ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا ﴿١٠٢﴾ يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا ﴿١٠٣﴾ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا ﴿١٠٤﴾}
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
 ففي هذا اليوم نفسر الجزء المتبقي من سورة طه وهذا هو المجلس السادس أو المجلس الخامس من مجالس تفسير سورة طه في هذه الدورة المباركة دورة الأترجة المقامة في جامع شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب بحي الخليج وهذا اليوم هو الرابع والعشرون من شهر شوال من عام ألفٍ وأربعمائة وإثنين وثلاثين من الهجرة النبوية. ونبدأ هذه الجلسة بقول الله (كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِن لَّدُنَّا ذِكْرًا (99) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا (100)) أي كما قصصنا عليك خبر موسى نقص عليك أنباء ما سبق، مثلما قصّ الله علينا خبر موسى يقصّ علينا أنباء السابقين من الأنبياء ومن تبعهم أو كذّبهم وأخبارهم وكيف أهلكهم وكيف أنجى الأنبياء وكيف جعل العاقبة لهم. (كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء مَا قَدْ سَبَقَ) من أجل أن تتعظوا وتعتبروا وتنظروا إلى تدبير الله فيمن آمن وفيمن كذّب.
(وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِن لَّدُنَّا ذِكْرًا) يعني قد آتيناك من عندنا يا محمد كتاباً يُذَكِّرُكم فتتعظون به وتستفيدون منه وتجعلونه نبراساً وعِظَةً لكم والسعيد من جعل هذا الكتاب تذكرةً والشقيّ من حُرِمَ التذكرة من هذا الكتابقال الله -عز وجل-  (مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ) أي من أعرض عن هذا الكتاب فلم يعمل به ولم يحفل به ولم يجعله ذكراً له ولا هدىً (فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا) أي فإنه يأتي يوم القيامة حاملاً وزره على ظهره وبه يُحاسَب وعليه يُعاقَب. قال الله (خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاء لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا) أي خالدين في عقوبة ذلك الإثم سيكون لهم الخلود الأبدي وذلك لمن أعرض عن الكتاب جُملة وتفصيلاً.
 أما من قَبِل الكتاب ولكنه وقع في الخطأ فأعرض عن بعض ما في ذلك الكتاب مما لا يؤثر على قبوله له فإنه ليس من أهل هذا الوعيد (خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاء لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا) بئس الحمل ما حملوه من الوزر الذي يدخلهم جهنم.
قال الله -عز وجل- (يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ) أي أذكر يا محمد يوم ينفخ في الصور، يوم يقوم الملك المُوكَّل بالنفخ في الصور فينفخ في الصور وهو إسرافيل الذي وكّله الله بالنفخ في الصور. والنفخ في الصور يكون مرتين المرة الأولى ينفخ نفخة فيُصعَق من على ظهر الأرض يومئذً فلا يبقى فيها نفسٌ منفوسة إلا هلكت، ثم يمكث ما شاء الله أن يمكث ثم ينفخ فيه نفخة أخرى فإذا هم قيامٌ ينظرون. والصحيح أن النفخات إثنتان نفخة الصعق ونفخة البعث والذي ينفخ هو إسرافيل ، وإسرافيل خُلِقَ لهذه المهمة العظيمة وقد أمسك بالقرن كما أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- الآن ، يقول -عليه الصلاة والسلام- "كيف أنعَم وصاحب القرن قد إلتقم القرن؟!" يعني صاحب الصور وهو إسرافيل قد التقم الصور والصور قرن يعني مثل القرن قال "كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم القرن ينتظر متى يؤمر أن ينفخ فينفخ" كيف أتنعم وأتلذذ وأنا أعلم أن الملك الموكل بالنفخ قد أمسك بهذا الصور وهو ينتظر متى يؤمر بالنفخ فينفخ؟!
قال الله -عز وجل- (وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا) أي في ذلك اليوم يُحشَر المجرمون على هيئةٍ مُرعبة لشدة ما أصابهم من الهول وهو أن عيونهم تزْرَقّ تكون زرقاء من شدة ما يصيبهم من الرعب والهول لأنهم يعلمون أنهم لن يُقبِلوا على خير بسبب ما فعلوه في الدنيا.
قال الله -عز وجل- (يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا) أي يُسِرُّ بعضهم إلى بعض القول يقول أحدهم لصاحبه بخفية وسِرّ لبثنا عشرة أيام في الدنيا يعني مجموع ما كنا فيه هي عشرة أيام. وأنظروا يا إخواني إلى أيّ شيء تؤول هذه الدنيا في أذهان المبعوثين يوم القيامة؟! فهم لا يرون أنهم لبثوا شيئاً وفي هذا أعظم الحسرة على الكافر الذي ركن إلى الدنيا ثم بعد هذا كله وبعد ما غاص وغرق في الملذات وتنعّم في هذه الدنيا لا يذكر من نعيمها شيئاً! وهذا أيضاً فيه أعظم السلوى للمؤمن لأنه سيرى أن ما حُرِمَ منه من اللذات والأمور التي تهواها النفوس شيء لا يكاد يُذكَر وأنه شيء قليل قد فاته. ولذلك يؤتى يوم القيامة بأنعَمِ أهل الدنيا فيُغمَس في النار غمسة ثم يقال له هل مرّ بك نعيم قط؟ هل رأيت خيراً قط ؟ يقول لا والله يا ربي ما مر بي نعيم قط ولا رأيت خيراً قط، ثم يؤتى بأبأس أهل الدنيا من أهل الجنة فيُغمَس في الجنة غمسة ويقال له هل مر بك بؤس قط؟ هل رأيت شدة وضرّاء في حياتك؟ فيقول لا والله يا ربي ما مر بي بؤس قط ولا رأيت شدة قط.
فتأملوا يا إخواني كل ما نلاقيه من عنت ومشقة وتعب ونصب في عبادة ربنا أو في القيام بديننا أو في الجهاد والدفاع عن مقدساتنا كل ذلك سيُنسى ويذهب عند أول غمسة يغمسها المؤمن في الجنة.
 قال الله -عز وجل- (يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ) من شدة الرعب الذي هم فيه ومن شدة تكذيبهم لما هم فيه أيضاً لأنهم يقولون يعني نحن لا نستحق أن نُجازى ولا أن نُضَرّ أو نُعَذّب لأن كل الأيام التي بقيناها في الدنيا عشرة أيام!.
 قال الله -عز وجل- (نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا) يأتي الذكيّ فيهم المعروف بحُسن تدبيره وحُسن رأيه فيقول لا، لا، ما لبثنا عشراً أين أنتم؟! ما لبثنا إلا يوماً كان بقاؤنا ولبثُنا في الدنيا شيئاً قليلاً أقلّ من العشر، أين أنتم ذهبتم بعيداً! ما هي عشرة أيام ما هي إلا يوم واحدّ تأملوا يا إخواني كيف نسوا ذلك الطغيان الكثير والتكذيب (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ) [37 فاطر] لقد عمّركم الله سبعين، ستين ومائة وخمسين وأربعين عاماً كم فيها من الأيام والساعات؟ كم فيها من مواطن العبرة والعظة؟ لكنكم لم تتعظوا ولم تعتبروا. وإذا بُعِثتُم قلتم ما لبثنا إلا عشراً قال أذكاكم وأحسنكم رأياً إن لبثتم إلا يوماً. هذه الآية مثل قول الله في سورة الروم (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ (55) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ) أهل العلم والإيمان يخبرون بالحقيقة لأنهم صدّقوا الحقيقة في الدنيا فجعل الله لهم هذه الحقيقة باقية في الآخرة جزاءً من جنس أعمالهم.
 / قال الله -عز وجل- (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105) فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (106) لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا) قال يسألك يا محمد هؤلاء الكفّار عن الجبال (فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا(105) فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (106) لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا (107)) عندما تُذكِّرهم بالآخرة وتذكر لهم أمر الساعة والبعث يقول لك المشركون هذه الجبال يا محمد ماذا يصنع الله بها؟ فالله يقول قل لهم (يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا) أي يَذريها يجعلها كالرمال هباءً منثوراً (وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً ) (وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا) أي دُكّت ودُقّت حتى ترمّلت وعند ذلك يأمر الله الريح فتذروها فلا يبقى منها على ظهر الأرض شيئاً (وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ). والجبال قد ورد ذكرها في القرآن بصور متعددة يعني ماذا تؤول إليه أحوالها في الآخرة فإياك أن تظن أن حالها شيء واحد بل يُحمَل ما في القرآن من صور متعددة على أنها مراحل: أولاً تؤخذ فتدُكّ فتصبح كثيباً مهيلاً أو تُبَسّ فتصبح كثيباً مهيلاً ثم تكون كالعهن المنفوش ثم تأتي الريح فتسوقها (وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) ثم تكون قاعاً صفصفاً لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً.
 وبالمناسبة هذه قاعدة نستعملها في آيات القرآن التي تذكر عدداً من الصفات لشيء واحد مثل آدم مثلاً جاءت آيات تدل على أنه خُلِق من طين، ومن طين لازب، ومن صلصال كالفخار، ومن تراب، فما هي الحقيقة؟ الحقيقة هي كل هذه الآيات تحكي الحقيقة لا بد أن نجمعها ثم نعرف مراحلها، تراب خُلِط بالماء فصار طيناً ثم تُرِكَ هذا الطين حتى صار آسناً -يعني متغيراً- ثم تُرِكَ حتى جَمَد فصار طيناً لازباً صلصالاً كالفخار ثم نُفِخَت فيه الروح، فإذا جمعت هذه الآيات عرفت الحقيقة. وهكذا في أحوال المشركين في يوم القيامة، في بعضها يُذكَر أنهم لا يتكلمون، في بعضها يُذكَر أنهم يكتمون، في بعضها لا يكتمون الله حديثاً ،فيقال يُحمَل هذا على تعدد المواقف في يوم القيامة ولا يُحمَل هذا على معنى التعارض ولذلك يا إخواني لا يُستغنى ببعض القرآن عن بعضه بل كل آية لها مجالها ومحلها وهي تحكي حالاً أو وقتاً أو مكاناً أو شيئاً والبقية في الآيات الأخرى.
/ قال الله (فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا(105) فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا) القاع: هو المستوي من الأرض أي يجعلها الله كالمستوي من الأرض. وقوله (صَفْصَفًا) تأكيدٌ لهذا الإستواء أي مستوية إستواءاً لا عِوَج فيه. وقال بعض السلف : "صفصف" هي التي لا نبات فيها وهذا من لازم الأول لأن القاع الذي ليس فيه عِوَج ومستوي إستواءً شديداً يكون لا نبات به.
(لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا) يعني لا ترى فيها عوج: وادي كما هو الحال الآن في الدنيا، ولا أمتاً أي رابيةً أو جبلاً وسواء قلنا إن العوج هو وادي أو منخفض أو شقّ في الأرض أو نحو ذلك أو جمعنا هذا كله في معنى العِوَج والأمت هو المرتفع سواء كان كثيباً من رمل أو هضبةً أو جبلاً أو يعني شاهقاً من الشواهق بل هي مثل الخبزة تماماً ليس فيها مرتفعات ولا منخفضات.
/ ثم قال الله (يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ) سبحان الله! الداعي الذي دعاهم في الدنيا ما اتّبعوه وتمردّوا عليه بل وصفوه بأقبح الأوصاف وآذوه ويمكن أن يكونوا اعتدوا عليه فقتلوه ولكنهم من رهبتهم وكونهم لا يأتون بالشيء إلا بعد فوات وقته إذا جاء يوم القيامة يتبعون الداعي يقول لهم تعالوا هنا، امشوا هنا، يأتون ذليلين منقادين لا يخالفون ولا يعصون لأنهم قد تجرّدوا من كل شيء وعرفوا أن المصير البائس الذي وعدتهم به الأنبياء قد قَرُبَ منهم ودنا. (يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ) قال بعض السلف: في يوم القيامة تكون هناك ظلمة عظيمة جداً -نسأل الله العافية والسلامة- ظلمة لا يُنجي منها إلا إتّباعك للنور في الدنيا. فهؤلاء الكفار في تلك الدنيا لا يدرون أين يذهبون ولا يعرفون أين المخرج فيسمعون صوتاً يقول لهم امشوا تعالوا ثمّ إئتوا هنا فيمشون من غير تردد ولا اضطراب كما قال الله (أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا) أي ما أسمعهم وما أبصرهم عندما يأتوننا! أين سمعكم وأين بصركم عندما كنا ندعوكم إلى الله ونريكم آيته؟! ما كان لهم شيء من ذلك. قال الله -عز وجل- (لَا عِوَجَ له) يعني من دون أن يعوجّوا ولا يذهبوا يميناً ولا يساراً مستقيمين يسيرون يتبعون الصوت أو يتبعون الداعي لا يخالفون ،لا يتلكأون ،لا يخطئون لا يبطئون، لا يتأخرون.
/ قال الله -عز وجل- (وَخَشَعَت الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ) في ذلك اليوم تسكن الأصوات كلها فلا يُسمَع صوت ولا يتحرك شيء (فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا) ما تسمع إلا الهمس الخفيف الذي لا يكاد يُسمع. ولا تسمع إلا وطأ الأقدام، قال العلماء: (فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا) أي وطأ أقدامهم عندما يمشون في أرض المحشر والمنشر من شدة الهول الناس كلها مُطرِقة كلها خائفة وجلة ليس بهم قدرة على أن يتكلموا ولا على أن يرفعوا أصواتهم.
/ قال الله -عز وجل- (يَوْمَئِذٍ) أي في ذلك اليوم (لَّا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا) أي في ذلك اليوم لا تنفع شفاعة من كان إلا بشرطين: أن يأذن الله لذلك الشافِع بالشفاعة وأن يرضى قوله، ورضى قوله بأن يكون هو من أهل لا إله إلا الله وأن لا يشفع إلا فيمن يرضى الله أن يشفع فيه. ولذلك الشفاعة عند الله ليست كالشفاعة عند بني آدم غالب الشفاعات عند بني آدم تكون بغير إذنهم وبغير رضاهم. يدخل عليك إنسان وأنت ما أذنت له أن يتحدث في الموضوع أو يشفع لفلان الذي عليه لك دين أو أنت مسؤول عنه وتريد إيقاع العقوبة عليه، ما أذنت له بذلك فيشفع وأنت غير راضي عن المشفوع لأنه أساء إليك وسبّك وتهجم عليك وكتب فيك وشكاك وسرق مالك وآذى ولدك هذه شفاعة الدنيا غالبها من هذا النوع، أما عند الله فلا ، الشفاعة لا تكون ،ما أحد يشفع حتى محمد -صلى الله عليه وسلم- ما يشفع إلا بعد أن يُؤذن له "ارفع رأسك وسَل تُعطى وقُل يُسمَع" فيرفع رأسه -عليه الصلاة والسلام- ويشفع الشفاعة العظمى.
 (وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا) يرضى قوله من جهة أنه من أهل التوحيد قال لا إله إلا الله ولذلك أهل الشرك كلهم لا شفاعة لهم. ويرضى قوله في المشفوع بأن يكون شيئاً يرضاه الله يعني لا يمكن أبداً أن يشفع أحد بشيء لا يرضاه الله . وهذا يدلنا على رهبة الموقف كما قال الله -عز وجل- (اللّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ) من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه؟ لا أحد (إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ).
 قال الله -عز وجل- (يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ) هو العالِمُ بكل شيء (مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) أي ما قدّموه من عمل (وَمَا خَلْفَهُمْ) أي ما سيأتي أو (مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) ما كان حاضراً و (وَمَا خَلْفَهُمْ) ما كان غائباً، (وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ) أي لا يستطيع الخلق الإحاطة بعلم الله أو بالله علماً، فإنه لا يمكن أن يدركه أحدٌ من عباده، نعم، قد يعلم الناس شيئاً مما يعلّمهم الله إياه لكنهم لا يمكن أن يحيطوا بعلم الله ولا أن يحيطوا بالله علماً كما قال الله -عز وجل-(وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء).
/ ثم قال الله -عز وجل- مبيّناً رهبة ذلك الموقف قال (وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ) عَنَتْ أي خضعت واستسلمت وذلّت وانقادت. وما هو الذي خضع؟ الوجوه، ولماذا خصّ الوجوه؟ لأن الوجه هو موطن العزة في الإنسان لذلك يمكن أن تضرب يد الإنسان فلا يرى أنك قدحت كرامته لكن إذا صفعت وجهه أو بصقت في وجهه رأى أنك قد أهنته الإهانة البالغة. ولذلك ذكر الله هذا الوجه الذي يُصان عن الذل بأنه يعنو أي يذِلّ ويخشع ويخضع للحيّ الواحد القيوم . (وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ) في ذلك اليوم ذلّت كلها لكن المؤمن لأنه ذلّ لله في الدنيا ومرّغ هذا الوجه لربه في الدنيا عندما دُعي للسجود له يجعله الله عزيزاً ويُعقِب الله ذلك الذلّ الذي يكسو الوجوه كلها عزّة للمؤمن ورحمة وراحة، فتبيض الوجوه وتستنير تصبح شيئاً عجيباً في الآخرة. أما هؤلاء الكفار كما وصف الله وجوههم قال (لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ ) منيرة (ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ) تأمل أن يعفو الله عنها وأن يعطيها ما وعدها على ألسُن رسله (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ) أي تعلوها قترة وقتام وظلمة (أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ) الكفرة في إيمانهم والفجرة في أعمالهم. قال الله -عز وجل- (وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ) ولاحظوا ذكر الحيّ وذكر القيّوم وهذان الإسمان جامعان لأسماء الله الحسنى كلها. كل الأسماء الحسنى تدخل ضمن هذين الإسمين فالحيّ: الذي حياته كاملة تامة لم تُسبَق بعَدَم ولا يلحقها موت . والقيوم: القائم بأمر نفسه المقيم لأمر غيره وكل شيء قائم به .هي صيغة مبالغة للدلالة على أن كل شيء في العالم يقوم به (إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَن تَزُولَا وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ) ما أمسكهما أحد من بعده، من يطيق يا إخواني أن يمسك السماوات أو يمسك الأرض؟ أو يفعل مثل فعل الله ؟! لا أحد.
 قال (لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ) وقد اجتمع هذان الإسمان في القرآن ثلاث مرات:
الأول في آية الكرسي في سورة البقرة (اللّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ).
والثاني في سورة آل عمران (اللّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ).
والثالث في سورة طه -في هذه الآية- (وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ).
ولذلك ورد في بعض الأحاديث أن اسم الله الأعظم في سورة البقرة وآل عمران وفي سورة طه فإن ثبت ذلك دلّ على أن اسم الله الأعظم هو مكوّن أو بإجتماع هذين الإسمين الله الحيّ القيوم.
/ قال (وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا) خاب وخسر من حمل ظلماً من جاء يحمل ظلماً في صحائفه وما هو الظلم؟ أعظمه الشرك (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) ثم يأتي من بعده ظلم العباد ويا ويل من جاء ومعه أحد الظُلمين وأشدُّهما وأعظمُهما الذي لا يغفر الله شيئاً منه هو الشِرْك (إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء).
/ قال الله -عز وجل- بعد أن بيّن حقيقة الظالمين وخسارهم (وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا) بشارة للمؤمن (وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ) ولاحظوا كل ما ذكر عمل الصالحات استدرك بالإيمان لأن العمل الصالح لا ينفع إلا إذا كان صاحبه مؤمناً (وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا). قال (فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا) بأن يُزاد في سيئاته (وَلَا هَضْمًا) بأن يُنقَص من حسناته. / قال الله -عز وجل- (وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا) هذه معطوفة على (كذلك) الأولى (كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء مَا قَدْ سَبَقَ) قال الله -عز وجل- (وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا) أي كما قصصنا عليك قصة موسى وقصصنا عليك أنباء ما قد سبق أنزلنا عليك هذا الكتاب قرآناً عربياً لكي تتدبره وتنتفع به (وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ) من أجل أن يتقي الناس ربهم سبحانه وتعالى . قال (وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا) من أجل أن يُفهَم ويُعقل واختار الله لهذا الكتاب أن يكون عربياً لأن لغة العرب هي أوسع اللغات وهي أدقُّها وهي أجملها وهي أوعبها للمعاني لا يوجد لغة تستوعب المعاني مثل استيعاب اللغة العربية. نعم، تجد من اللغات مفرداتها كثيرة جداً لكن في إستيعاب المعاني تجدها ضعيفة ولذلك لغة العرب اللفظ الواحد يدخل تحته معاني كثيرة جداً.
قال الله -عز وجل- (وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ) أي لوّنا ونوّعنا فيه من الوعيد فمرة نذكر قصة إهلاكنا لقوم نوح أو قوم لوط أو قوم إبراهيم أو فرعون أو قوم هود أو قوم صالح ومرة نأتي بالأمثال ومرة نذكر النار والقبر والصراط. (وَصَرَّفْنَا) لوّنا مرة بالأمر مرة بالنهي مرة بالخبر مرة بالقصة مرة بالمثل مرة بالزجر مرة بالترغيب والتهديد وبكل هذه الألوان. قال (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) رجاء أن يتقوا ويتّعظوا ويتركوا المآثم (أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا) يُحدِث لهم إتعاظاً فيتّعظون واستجابة فيستجيبون ويطيعون.
قال الله -عز وجل- (فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ) أي تنزّه وتقدّس عما يقوله الظالمون في حقه -جل جلاله-  فهو الحقّ الثابت الذي لا مرية فيه ولا شكّ، ووعده حقّ وقوله حقّ وأنبياؤه حقّ والجنة التي خلقها للمؤمنين حقّ والنار التي خلقها للمكذبين حقّ وكل شيء منه حقّ فهو الحقّ ومنه الحقّ وإليه الحقّ .
(وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ) هذا أمرٌ لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأن لا يعجل بتلاوة الوحي قبل أن ينتهي جبريل من إلقائه عليه كما قال الله تعالى في سورة القيامة (لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ) أي أن نجمعه في صدرك وأن تقرأه في لسانك، لا تهتم يا محمد، لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- من شدة أمانته وحرصه على ما أوحي إليه كان إذا ألقى إليه جبريل الوحي بدأ يسارع في النطق مع جبريل يخشى أن ينسى شيئاً من الوحي فقيل له اُسكت ،استمع ،أنصِت يا محمد فإذا إنتهى جبريل من تلاوته عليك ستجده كاملاً في صدرك لم يُنقَص منه شيئاً.
(وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ) من قبل أن يتم جبريل إيحاءه إليك، وقيل لا تعجل بالقرآن أي بتبليغه وتلاوته على أصحابك من قبل أن تُفهم معناه، يعني يدلّك جبريل على المعنى المُراد منه. (وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا) لعل هذا مما يدل على المعنى الثاني وهو أن يسأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ربه أن يزيده من العلم وهذه الآية تدل على أن أعظم العلم وأجمله وأجله هو علم الكتاب لأنه يقول (وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ) اصبر حتى تسمع الوحي ثم اتله (وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا) أي زدني من هذا الوحي وزدني من فهمه والعلم به وما زال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في زيادة من الوحي حتى كان عندما جاءته الوفاة وهو أزيَدُ ما يكون من العلم قال ابن عيينة "لم يزل رسول الله في زيادة من العلم حتى توفّاه الله" ولذلك جاء في الحديث المتفّق عليه حديث ابن عباس "إن الله تابع الوحي على رسوله حتى كان الوحي أكثر ما كان يوم توفّي رسول الله -صلى الله عليه وسلم " وذلك استجابة من الله لدعاء نبيه عندما كان يقول (وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا). وهذا الدعاء دعاء مشروع ينبغي لكل واحد منا أن يدعو الله به (وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا) أدعُ الله في سجودك في قعودك في قيامك في جوف الليل (وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا) فإنك كلما ازددت علماً ازددت لله معرفة وازداد إيمانك واسأل الله أن يؤتيك العلم النافع لأنه ليس كل علم ينفع (قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا) أنا أريد العلم الراشد، موسى يقول للخَضِر أنا أريد العلم الراشد ما أريدك أن تقول لي عاصمة الدولة الفلانية كذا أو مساحة الدولة الفلانية كذا أو وزراء الدولة الفلانية هم فلان وفلان ثم ماذا؟ إذا مِتّ وأنت لم تعلم هذه الأشياء ما ضرّك شيء! ولكني أريد العلم الذي ينتفع به قلبي وأزداد به قرباً من ربي هذا هو العلم.
 قال الله -عز وجل- (وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا) أي لقد عهدنا إلى آدم من قبل أي من قبل هؤلاء الذين كذّبوك يا محمد وحصل منهم مثل الذي حصل لآدم من المعصية هذا قول، والقول الآخر (وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ) أي من قبل أكله من الشجرة. (فَنَسِيَ) نسيّ العهد وهو أن الله تعالى أمره أن يرتع في الجنة فيأكل من ثمارها وينتفع بها ويتمتع ونهاه عن شجرة واحدة الله أعلم بها. قال فنسي العهد الذي بيننا وبينه (وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا) لم نجد له قوة وإرادة على الاستمساك بالعهد بل إنه خار عندما دغدغ إبليس مشاعره وعواطفه وقال له (هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَى) رغِبَ آدم في الخلد قال هل في شجرة للخلد إذا أكلت منها سأتنعم بالخلد وأبقى؟ لا أزول ولا أحول ولا أتغير؟ لنأكل منها، فأكل وهل أكل وشبع؟ لا، (فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ) مباشرة حصلت العقوبة. قال الله -عز جل- (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ) كرّم الله آدم فأسجد له ملائكته فسجدوا جميعاً إلا إبليس و"إلا" هنا إستثناء منقطع يعني لكن إبليس لم يسجد بدليل سورة الكهف (إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) وإلا هو ليس من الملائكة والإستثناء المنقطع هو أن يكون المستثنى ليس من جنس المستثنى منه مثل أن تقول جاء القوم إلا حماراً الحمار ليس من جنس القوم ولذلك سُمّيَ هذا الإستثناء إستثناءً منقطعاً.
 قال (فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ) فإن قيل ما الذي جاء بإبليس؟ قيل كان إبليس يتعبد لله مع الملائكة ابتلاءً واختباراً فلما خلق الله آدم بيده واجتباه واصطفاه وكرّمه وأمر الملائكة بالسجود له حسده واستكبر فأوتي إبليس من هاتين الخصلتين. ولذلك قال إبن القيم أصل الكفر وأساسه يأتي من الحسد ومن الكِبْر ومن الحِرْص، أو أصول المعاصي ثلاثة الحِرْص والحَسَد والكِبْر.
قال (إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى)، (فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى) انتبه يا آدم هذا الذي لم يسجد هو عدوك وعندما يقال عدوك والمُخبِر هو الله إذاً يجب أن تتخذ العدّة الكاملة لمقابلته والحذر منه والحِرص على معاندته وعدم الاصغاء إليه ومعرفة أن كل ما يوحي به إليك ويوسوس به في قلبك أنه كله في جانب العداوة، في زاوية العداوة لا تفهمها على أنها صداقة ولذلك إذا جاءك إبليس وقال لك انظر هذه المرأة المسكينة اذهب وتصدق عليها مثلاً فهو لا يأتيك بهذا الأسلوب ويقول لك تصدّق عليها إلا وهو يقصد بذلك شراً يقصد أن تأتي إليها تقترب منها تنظر إليها ثم تقع في حبائلها أو تفتتن بها أو يحصل شيء من الشر عليك بسببها.
قال الله -عز وجل- (فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ) احذرا أن يخرجنكما إبليس من الجنة قال (فَتَشْقَى) اختصر في الشقاء على آدم لماذا؟ لأنه كان في الجنة في نعمة تامة لا شقاء فيها أبداً وإذا نزل إلى الدنيا صار مسؤولاً عن المرأة وقائماً بها ويسعى في طلب رزقها وفي حفظها وصيانتها وأشياء كثيرة جداً. ثم إن شقاءه سيستتبع شقاءها هي ولذلك عبّر بالشقاء عليه. وبالفعل أنت تجد أن الرجال يشقون شقاء عظيماً من الذي يعمر البلدان؟ ومن الذي يدفع عن البلدان العدوان ويعرّض نفسه للمهالك؟ لا شك أن الأكثر والأغلب والأهمّ والأصل في ذلك هم الرجال ، ثم إن الشقاء يصل إلى النساء من وراء شقاء الرجال.
/ قال الله -عز وجل- (إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى) يعني إن لك يا آدم إن بقيت في الجنة (أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى) (وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى) وعده الله بأربعة أمور: في الجنة لا جوع ولا عُري يعني لا يحصل للإنسان تعرّي وهذا يدل على أن التعرّي مذموم وأنه لا يليق بالإنسان حتى في حال الخلاء يقال له إستحي من ربك، ولذلك كان بعض السلف يغتسل وعليه ازار حياءً من الله مع أنه في حال الغسل يجوز للإنسان أن يخلع قميصه ويتعرّى لكن كان من شدة حيائهم لا يتعرّون حتى في حال الغسل يدخل الماء من تحت ثيابه والآن أصبح العري موضة وحضارة وجمال وشيء رائع جداً! وأصبحنا نرى النساء مع كل أسف في كل يوم يقصّون من هذه الثياب من أسفل ومن فوق وحتى من الوسط الذي ما حصل عند الأمم الماضية الآن في هذا الزمن بدأ يحصل أصبحت المرأة تبدي ظهرها وسرّتها وبطنها وما تحت الثديين وما فوق الوركين سبحان الله! هذا من وسوسة إبليس يزيّن لهم القبيح حتى يجعله حسناً.
/ قال (وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى) أيضاً هذا الوعد الثالث لا ظمأ، والوعد الرابع لا تضحى يعني لا تصيبك الشمس لأنه ليس في الجنة شمس ولا زمهرير.
 قال الله -عز وجل- (إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى) قال العلماء : جمع بين نفي ذُلّ الظاهر وذُلّ الباطن ذُلّ الظاهر بالعُري وذُلّ الباطن بالجوع ونفي حرّ الباطن وحرّ الظاهر أما حرّ الباطن فبالعطش وأما حرّ الظاهر فبورود الشمس فقال (إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى).
 أسأل الله تعالى بمنّه وكرمه أن يفهمنا كلامه وأن يفقهنا في كتابه وأن يجعلنا جميعاً من أهل القرآن الذين هم أهل الله وخاصته وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
لحفظ المقطع الصوتي :




--------------------------------------------
مصدر التفريغ ملتقى أهل التفسير (بتصرف يسير)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق