بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين واشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين ...
أن الحديث عن هداية القرآن للتي هي أقوم إنطلاقاً من قول الله سبحانه وتعالى :(إِنَّ هَـٰذَا ٱلۡقُرۡءَانَ یَهۡدِی لِلَّتِی هِیَ أَقۡوَمُ وَیُبَشِّرُ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ ٱلَّذِینَ یَعۡمَلُونَ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ أَنَّ لَهُمۡ أَجۡرࣰا كَبِیرࣰا وَأَنَّ ٱلَّذِینَ لَا یُؤۡمِنُونَ بِٱلۡـَٔاخِرَةِ أَعۡتَدۡنَا لَهُمۡ عَذَابًا أَلِیمࣰا وَیَدۡعُ ٱلۡإِنسَـٰنُ بِٱلشَّرِّ دُعَاۤءَهُۥ بِٱلۡخَیۡرِۖ وَكَانَ ٱلۡإِنسَـٰنُ عَجُولࣰا)
الحديثُ عن هداية القرآن الكريم في ضوء هذه الآية الكريمة حديث واسع جداً وحديث متنوع الأطراف والجوانب، بل هو حديث عن القرآن كله، بل هو حديث عن الدِّين كله لأن هداية القرآن للتي هي أقوم الذي هو مدلول هذه الآية الكريمة يتناول ويشمل الدِّين كله عقيدةً وعبادةً وخُلقاً فإن قول الله عز وجل : (إِنَّ هَـٰذَا ٱلۡقُرۡءَانَ یَهۡدِی لِلَّتِی هِیَ أَقۡوَمُ ) أي يهدي للطريقة التي هي أقوم ، وكما قال أئمة أهل العلم في كتب التفسير قول الله جل وعلا : (لِلَّتِی هِیَ أَقۡوَمُ ) نعت لمنعوت محذوف مقدّر وهو (الطريقة التي هي أقوم) والطريقة هُنا تتناول الدين كله عقيدةً وعبادةً وخلقاً، فدلّت هذه الآية على أن القرآن كتاب الله سبحانه وتعالى هدى لأقوم الطرائق وأعدلها وأحسنها وأصوبها وأَسَدِّها وأجملها وأعظمها عقيدةً وعبادةً وخلقاً ، أما العقيدة فإن كتاب الله سبحانه وتعالى قد اشتمل على العقيدة القويمة إيماناً بالله وأسمائه وصفاته وعظَمته وجلاله وكماله وكبريائه وربوبيته وتدبيره سبحانه وتعالى وأنه المعبود بحق ولا معبود بحقٍ سواه ، مع ما أمر سبحانه وتعالى بالإيمان به من الإيمان بالملائكة والكتب والرسل والايمان باليوم الآخِر والإيمان بالقدر خيره وشره وهذه أصول العقيدة التي يقوم عليها دين الله تبارك وتعالى ، فالقرآن هدى إلى أقوم العقائد وأصحها وأحسنها وأطيبها وأنفعها للعباد، بل لا نفع للعباد ولا صلاح للأعمال ولا زكاء للنفوس إلا بهذه العقيدة التي قام عليها كتابُ الله تبارك وتعالى، بل هي روح القرآن ولبُّه كما قال الله سبحانه وتعالى :( أَتَىٰۤ أَمۡرُ ٱللَّهِ فَلَا تَسۡتَعۡجِلُوهُۚ سُبۡحَـٰنَهُۥ وَتَعَـٰلَىٰ عَمَّا یُشۡرِكُونَ یُنَزِّلُ ٱلۡمَلَـٰۤىِٕكَةَ بِٱلرُّوحِ مِنۡ أَمۡرِهِۦ عَلَىٰ مَن یَشَاۤءُ مِنۡ عِبَادِهِۦۤ أَنۡ أَنذِرُوۤا۟ أَنَّهُۥ لَاۤ إِلَـٰهَ إِلَّاۤ أَنَا۠ فَٱتَّقُونِ ) فروح القرآن ولُبُّه وغاية مقصوده هو العقيدة الصحيحة القائمة على صحة الإيمان بالله تبارك وتعالى والإيمان بكل ما أمر الله سبحانه وتعالى عباده به ، ولعل هذا يأتي شيء من التفصيل حول بعض مضامينه.
الحديثُ عن هداية القرآن الكريم في ضوء هذه الآية الكريمة حديث واسع جداً وحديث متنوع الأطراف والجوانب، بل هو حديث عن القرآن كله، بل هو حديث عن الدِّين كله لأن هداية القرآن للتي هي أقوم الذي هو مدلول هذه الآية الكريمة يتناول ويشمل الدِّين كله عقيدةً وعبادةً وخُلقاً فإن قول الله عز وجل : (إِنَّ هَـٰذَا ٱلۡقُرۡءَانَ یَهۡدِی لِلَّتِی هِیَ أَقۡوَمُ ) أي يهدي للطريقة التي هي أقوم ، وكما قال أئمة أهل العلم في كتب التفسير قول الله جل وعلا : (لِلَّتِی هِیَ أَقۡوَمُ ) نعت لمنعوت محذوف مقدّر وهو (الطريقة التي هي أقوم) والطريقة هُنا تتناول الدين كله عقيدةً وعبادةً وخلقاً، فدلّت هذه الآية على أن القرآن كتاب الله سبحانه وتعالى هدى لأقوم الطرائق وأعدلها وأحسنها وأصوبها وأَسَدِّها وأجملها وأعظمها عقيدةً وعبادةً وخلقاً ، أما العقيدة فإن كتاب الله سبحانه وتعالى قد اشتمل على العقيدة القويمة إيماناً بالله وأسمائه وصفاته وعظَمته وجلاله وكماله وكبريائه وربوبيته وتدبيره سبحانه وتعالى وأنه المعبود بحق ولا معبود بحقٍ سواه ، مع ما أمر سبحانه وتعالى بالإيمان به من الإيمان بالملائكة والكتب والرسل والايمان باليوم الآخِر والإيمان بالقدر خيره وشره وهذه أصول العقيدة التي يقوم عليها دين الله تبارك وتعالى ، فالقرآن هدى إلى أقوم العقائد وأصحها وأحسنها وأطيبها وأنفعها للعباد، بل لا نفع للعباد ولا صلاح للأعمال ولا زكاء للنفوس إلا بهذه العقيدة التي قام عليها كتابُ الله تبارك وتعالى، بل هي روح القرآن ولبُّه كما قال الله سبحانه وتعالى :( أَتَىٰۤ أَمۡرُ ٱللَّهِ فَلَا تَسۡتَعۡجِلُوهُۚ سُبۡحَـٰنَهُۥ وَتَعَـٰلَىٰ عَمَّا یُشۡرِكُونَ یُنَزِّلُ ٱلۡمَلَـٰۤىِٕكَةَ بِٱلرُّوحِ مِنۡ أَمۡرِهِۦ عَلَىٰ مَن یَشَاۤءُ مِنۡ عِبَادِهِۦۤ أَنۡ أَنذِرُوۤا۟ أَنَّهُۥ لَاۤ إِلَـٰهَ إِلَّاۤ أَنَا۠ فَٱتَّقُونِ ) فروح القرآن ولُبُّه وغاية مقصوده هو العقيدة الصحيحة القائمة على صحة الإيمان بالله تبارك وتعالى والإيمان بكل ما أمر الله سبحانه وتعالى عباده به ، ولعل هذا يأتي شيء من التفصيل حول بعض مضامينه.
وأما العبادة فإن القرآن الكريم هدى لأقوم العبادات وأحسنها وأنفعها للعباد صلاحاً لهم في أحوالهم واستقامة لهم في أمورهم وحُسن صلة منهم بربهم تبارك وتعالى بدءاً بأعظم العبادات الدينية وأجلّها على الإطلاق الصلوات الخمس التي افترضها الله سبحانه وتعالى على العباد، وكم في هذه الصلاة من صلة وثيقة وارتباط عظيم بين المخلوق وخالقه، والمربوب وربه، فهي صلة تتوثق يوماً بعد يوم وليلة تلو ليلة بالله جل وعلا ذُلاً بين يديه، ومناجاةً له وخضوعاً وانكساراً، وذكراً وتعظيماً وتقديساً وتنزيهاً مع ركوع وسجود، وذل وخضوع وخشوع وانكسار بين يدي الرب العظيم ، وكم في أعمال الصلاة وأذكارها وما فيها من تلاوة للقرآن الكريم من صلاحٍ للعبد وهدايةٍ له، بل تأمل -والمقام مقام كلامٌ عن هداية القرآن والهداية التي لا تُنال إلا بالقرآن الكريم- تأمل كيف أن الله سبحانه وتعالى افترض علينا في كل ركعة من ركعات الصلاة، أي أنه سبحانه وتعالى افترض علينا في اليوم والليلة سبع عشرة مرة أن ندعوه جل وعلا أن يهدينا الصراط المستقيم ، هذا فرض افترضه الله على العباد، فإنك في قراءتك لفاتحة الكتاب أُم القرآن التي لا صلاة لمن لم يقرأ بها تدعو قائلاً : (ٱهۡدِنَا ٱلصِّرَ ٰطَ ٱلۡمُسۡتَقِیمَ صِرَ ٰطَ ٱلَّذِینَ أَنۡعَمۡتَ عَلَیۡهِمۡ غَیۡرِ ٱلۡمَغۡضُوبِ عَلَیۡهِمۡ وَلَا ٱلضَّاۤلِّینَ)
فكم في هذه الصلاة من هداية للقلوب، وعمارة للنفوس، وصلاح للعباد في حسن صلتهم بالله سبحانه وتعالى.
وكم في فريضة الزكاة -قرينة الصلاة في كتاب الله تبارك وتعالى- كم فيها من تهذيب للنفوس وتزكية للقلوب ،وكم فيها من تطهير للعباد وكم فيها من وقاية للنفس من الجشع والطمع والإكباب على الدنيا والغفلة عن ذوي الحاجات .
وكم في عبادة الصيام -ونحن نعيش أيام هذه الفريضة المباركة فريضة الصيام- كم في هذه العبادة من تحقيق لتقوى الله سبحانه وتعالى (یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ كُتِبَ عَلَیۡكُمُ ٱلصِّیَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ٱلَّذِینَ مِن قَبۡلِكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ ) ولهذا شُرع لنا في تمام هذه العبادة وعند انقضائها أن نكبِّر الله على ما هدانا لأن الصيام هداية من هدايات القرآن.
وكذلك الحج الذي افترضه الله سبحانه وتعالى على العباد مرة واحدة في العمر -وهو من هدايات القرآن للتي هي أقوم- كم فيه من النفع للعباد وكم فيه من التهذيب والتزكية والتنقية والتطهير (ٱلۡحَجُّ أَشۡهُرࣱ مَّعۡلُومَـٰتࣱۚ فَمَن فَرَضَ فِیهِنَّ ٱلۡحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِی ٱلۡحَجِّۗ).
وأما الأخلاق فإن القرآن الكريم هدى للتي هي أقوم في باب الأخلاق الفاضلة والآداب الكاملة والتعاملات الرفيعة.
أولاً في الخُلُق بين العبد وبين ربه وهذا بابٌ قد يُغفل عنه كثيراً، إذ كثير من الناس قد يصطنع كثير من الأخلاق أو إن شئت قل قد يواظب على كثير من الأخلاق في تعاملاته مع الناس لكنه يضعُف باب الخلق عنده في تعامله مع الرب سبحانه وتعالى، فباب الخُلق باب عظيم وأعلى الخُلق وأرفعه أدب العبد مع ربه وخالقه سبحانه وتعالى الذي أمده بهذا الجسم وهذه الصحة وهذا القوام وهذه الحواس وهذه النِعم المتنوعات، فحقُ هذا الرب العظيم والخالق الجليل أن يَلزم العبد الأدب معه وأن يكون متأدباً مع الله سبحانه وتعالى ، والأدب مع الله يتضمن توقير الله وتعظيمه ومجاهدة النفس على القيام بحقه، وأعظم ما يكون الأدب مع الله سبحانه وتعالى أن يستحي هذا العبد من ربه حق الحياء كما قال نبينا صلوات الله وسلامه وبركاته عليه : (استحيوا من الله حق الحياء)، وليس من الحياء من الله أن يستخفي العبد بالمعصية عن الناس وهو يعلم أن رب العالمين مُطّلع عليه (یَسۡتَخۡفُونَ مِنَ ٱلنَّاسِ وَلَا یَسۡتَخۡفُونَ مِنَ ٱللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمۡ إِذۡ یُبَیِّتُونَ مَا لَا یَرۡضَىٰ مِنَ ٱلۡقَوۡلِۚ) وهذا من هدايات القرآن في أدب العبد مع الله سبحانه وتعالى وأن الأدب في رتبته العليا ومنزلته الرفيعة ومكانته العلية أدب مع من خَلَق هذا العبد وأوجده وأمدَّه بالقوى والحواس والصحة والمال والمسكن إلى غير ذلك من نعم الله التي لا تُعد ولا تُحصى وآلائه التي لا تُحصى ولا تُستقصى وقد قال الله تبارك وتعالى :( وَإِن تَعُدُّوا۟ نِعۡمَةَ ٱللَّهِ لَا تُحۡصُوهَاۤۗ ).
الحديث عن هداية القرآن للتي هي أقوم في ضوء هذه الآية الكريمة (إِنَّ هَـٰذَا ٱلۡقُرۡءَانَ یَهۡدِی لِلَّتِی هِیَ أَقۡوَمُ ) حديث واسع جداً لكن لعلِّي -والتوفيق بيد الله سبحانه وتعالى ومنه وحده يُستمنح- أُشير إلى نقاط عامة في ضوء هذه الآية الكريمة ولعل جُلها قواعد وتأصيلات مستفادات من قول الله سبحانه وتعالى :(إِنَّ هَـٰذَا ٱلۡقُرۡءَانَ یَهۡدِی لِلَّتِی هِیَ أَقۡوَمُ) وأؤكد على سعة هذا الموضوع وتعدد أطرافه وجوانبه بالإشارة إلى كتابين لعلمين من أهل العلم حول هذه الآية الأول منهما للإمام محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله صاحب أضواء البيان ، في أضواء البيان عندما وصل إلى هذه الآية وأخذ يتحدث عن هدايات القرآن كتب كتابة واسعة جداً في عدِّهِ لهدايات القرآن وركّز على جوانب مهمة جداً ولاسيما فيما أخذ بعض الكفار وبعض أهل الأهواء ينتقصون من بعض جوانب هدايات القرآن ودلالاته العظيمة وَيقللون من شأنها فأخذ يبين رحمه الله تعالى فيما تكلم فيه أولئك من هدايات القرآن بما يبين كمال القرآن وعظمته فيما هدى العباد إليه وقد تَقصُر كثير من الفهوم ،وقد تصاب أيضاً كثير من النفوس بشيء من الأهواء فيقل قدر بعض هدايات القرآن عنده ولربما شوش بعض الناس وطعن في بعض هدايات القرآن، فركّز الشيخ -رحمة الله عليه- على هذا الجانب وتحدَّث بإفاضة علمية نافعة مُسدَّدَة في قضايا مهمة جداً من هدايات القرآن وأخذ يوضح وأيضاً يرد على من أخذ يقلل من شأن تلك الهدايات ويقلل من مكانتها بالردود العلمية الرصينة القويمة التي تجلوا هذا الأمر وتُزيل ما أوجده أو أثاره أولئك من شبهات داحظة وآراء فاسدة ، ولعل من الحَسَن الرجوع إلى كلامه رحمه الله تعالى عن هدايات القرآن في كلامه على هذه الآيات الكريمة وقد أُفرِد كلامه عن هذه الآية في رسالة مستقلة طُبعت مفردة.
الأمر الآخر أحد أهل العلم وهو الشيخ عبدالعزيز السلمان له كتاب عنوانه : [الأنوار الساطعات للآيات الجامعات] أخذ يتحدث عن هذه الآية باعتبارها من الآيات الجامعات ( إِنَّ هَـٰذَا ٱلۡقُرۡءَانَ یَهۡدِی لِلَّتِی هِیَ أَقۡوَمُ ) وبدأ يُعدد رحمه الله من هدايات القرآن فقال : مما اشتمل عليه القرآن من هدايات وبدأ يذكر بالأرقام واحد إثنين ثلاثة أربعة يعدد من هدايات القرآن وكل هداية يذكر معها ما تيسر من أدلتها فذكر- رحمه الله تعالى- ذكر ألفين وثمانمائة هداية وكلها داخلة تحت قول الله سبحانه وتعالى:(إِنَّ هَـٰذَا ٱلۡقُرۡءَانَ یَهۡدِی لِلَّتِی هِیَ أَقۡوَمُ ) ولهذا عدَّ العلماء هذه الآية الكريمة ( إِنَّ هَـٰذَا ٱلۡقُرۡءَانَ یَهۡدِی لِلَّتِی هِیَ أَقۡوَمُ ) عدُّوا هذه الآية أنها أجملت كل ما حوى عليها القرآن وكل ما اشتمل عليه القرآن ، فالقرآن فصَّلَ الهدايات والآية هذه الآية آية الإسراء أجملت ( إِنَّ هَـٰذَا ٱلۡقُرۡءَانَ یَهۡدِی لِلَّتِی هِیَ أَقۡوَمُ ) ولهذا قال بعض أهل العلم كلمة ثمينة في هذا الباب أن قول الله عز وجل : ( إِنَّ هَـٰذَا ٱلۡقُرۡءَانَ یَهۡدِی لِلَّتِی هِیَ أَقۡوَمُ ) هي بحد ذاتها مفتاحٌ للهداية ودعوة إلى كل أحد حتى الكفار إلى أن يعتبروا في هدايات القرآن وأن يتأملوا في دلالاته العظام ( إِنَّ هَـٰذَا ٱلۡقُرۡءَانَ یَهۡدِی لِلَّتِی هِیَ أَقۡوَمُ ) في كل باب، في جميع الأمور هداية القرآن هي الهداية الأقوم ،فهذه دعوة إلى التفكر، دعوة للاعتبار، دعوة للنظر، دعوة للتأمل في مضامين القرآن ودلالاته العظيمة، دعوة للتدبر في هذا الكتاب العظيم، هذه الدعوة أيضاً مطلوبة من الكافر أن ينظر في هدايات القرآن ليجد فيه ما هو سبب لشرح الصدور وإقبال النفوس على ما دل عليه هذا القرآن العظيم من هدايات عظيمة ولهذا يقول الله سبحانه وتعالى : ( أَفَلَا یَتَدَبَّرُونَ ٱلۡقُرۡءَانَ أَمۡ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقۡفَالُهَاۤ ) وقال جل وعلا : ( أَفَلَا یَتَدَبَّرُونَ ٱلۡقُرۡءَانَۚ وَلَوۡ كَانَ مِنۡ عِندِ غَیۡرِ ٱللَّهِ لَوَجَدُوا۟ فِیهِ ٱخۡتِلَـٰفࣰا كَثِیرࣰا ) ، وأخبر جل وعلا أن من أعرض عن هدايات القرآن والتأمل فيها أفضى به إعراضه إلى النكوص على العقبين والرجوع إلى الوراء والبقاء في الظلمات، وتأمل ذلك في قول الله سبحانه وتعالى : ( قَدۡ كَانَتۡ ءَایَـٰتِی تُتۡلَىٰ عَلَیۡكُمۡ فَكُنتُمۡ عَلَىٰۤ أَعۡقَـٰبِكُمۡ تَنكِصُونَ مُسۡتَكۡبِرِینَ بِهِۦ سَـٰمِرࣰا تَهۡجُرُونَ أَفَلَمۡ یَدَّبَّرُوا۟ ٱلۡقَوۡلَ ) أي القرآن، والمعنى أنهم لو تدبّروا القول أي تدبروا القرآن الكريم لما نكصوا على الأعقاب وهذا فيه أن تدبر هدايات القرآن حُسن التأمل لكتاب الله سبحانه وتعالى يفتح للعبد أُفقاً واسعاً في النظر الصحيح، والفهم الرصين والبعد عن ظلمة الجهل والضلالة ، ولعلنا نأخذ في هذا المقام قصة عجيبة حول هذا المعنى وأن من يوفقه الله من الكفار لحُسن التأمل والإنصات والاستماع لهدايات القرآن الكريم لابد أن يكون لهذا القرآن أثرا عليه، والقرآن تأثيره لا يُقارَن به أي مؤثر آخر في قوة إصلاحه للقلوب وإصلاحه للنفوس، تأثيره في غاية القوة ولهذا الله سبحانه وتعالى يقول : (وَإِنۡ أَحَدࣱ مِّنَ ٱلۡمُشۡرِكِینَ ٱسۡتَجَارَكَ فَأَجِرۡهُ حَتَّىٰ یَسۡمَعَ كَلَـٰمَ ٱللَّهِ )، جُبير بن مُطعِم لمّا جاء إلى المدينة وكان على غير الإسلام سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ سورة الطور حتى إذا بلَغَ ( أَمۡ خُلِقُوا۟ مِنۡ غَیۡرِ شَیۡءٍ أَمۡ هُمُ ٱلۡخَـٰلِقُونَ أَمۡ خَلَقُوا۟ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضَۚ بَل لَّا یُوقِنُونَ ) قال : "كاد قلبي يطير"،- انظر قوة تأثير القرآن وهو رجل في ذلك الوقت غير مسلم- يقول : "كاد قلبي يطير" لماذا؟ لأنه تأمل وأخذ يتدبر ، فإذا حصل من العبد -حتى وإن كان غير مسلم فكيف بالمسلم - حُسن تدبر وتأمل لهدايات القرآن الكريم وقع التأثير بإذن الله سبحانه وتعالى.
أعود إلى القصة التي أردتُ أن نقف معها وهي قصة عجيبة جداً ومؤثرة وكاشفة عن عِظَم تأثير القرآن وتأثير هداياته وهي قصة النفر من الجن الذين صَرَفهم الله سبحانه وتعالى إلى نبيّه ونحن نعلم معاشر الأخوة الكرام أن نبينا عليه الصلاة والسلام بُعث للثقَلَين للإنس والجن، أما دعوة الإنس فهي دعوة لأشخاص يراهم الإنسان ويعرف أماكنهم وأنديتهم ومواضع اجتماعهم فكان النبي عليه الصلاة والسلام يأتي أندية المشركين ويذهب إلى أماكنهم ويدعوهم إلى الإسلام مُبلِّغاً ما أمره الله سبحانه وتعالى بإبلاغه، كان يناديهم ويجمعهم، أما الجن فعالمٌ آخر (إِنَّهُۥ یَرَىٰكُمۡ هُوَ وَقَبِیلُهُۥ مِنۡ حَیۡثُ لَا تَرَوۡنَهُمۡ ) فهو عالم آخر ، ولما كانت دعوة النبي عليه الصلاة والسلام دعوة للثَّقَلَين، دعوة للإنس والجن وأمر الإنس واضح في طريقة دعوتهم لكن الجن عالم آخر لا يُرى فَصَرَف اللهُ نفراً من الجن يستمعون القرآن بصوت النبي عليه الصلاة والسلام فانظر عندما جاء هؤلاء النفر من الجن واستمعوا للقرآن كيف كان أثر القرآن عليهم قال الله سبحانه : ( قُلۡ أُوحِیَ إِلَیَّ أَنَّهُ ٱسۡتَمَعَ نَفَرࣱ مِّنَ ٱلۡجِنِّ فَقَالُوۤا۟ إِنَّا سَمِعۡنَا قُرۡءَانًا عَجَبࣰا ) انظر كيف وصفوا القرآن من أول سماع له ( إِنَّا سَمِعۡنَا قُرۡءَانًا عَجَبࣰا ) أي قرآناً بالغاً في العَجَب الغاية، عجيبٌ في مضامينه ودلالاته وهداياته وإرشاداته وعظمته وتأثيره، رأوا عجباً في فصاحته، في بيانه، في جزالة ألفاظه، في قوة معانيه، في كمال دلالاته، رأوا شيئاً عجباً ( عَجَبࣰا یَهۡدِیۤ إِلَى ٱلرُّشۡدِ ) والرُّشد كلمة جامعة للخير كله ، فما أن استمعوا إلى بعض آيات القرآن الكريم متأملين متدبرين إلا وخرجوا بهذه النتيجة بل خرجوا بهذا الإيمان العميق ( یَهۡدِیۤ إِلَى ٱلرُّشۡدِ ) يعني هذا القرآن بهذه القوة وهذه الدلالات وهذه المعاني هدايته هدايةٌ للرشد ، ماذا حصل على إثر هذا السماع وإثر هذه القناعة قالوا : ( فَـَٔامَنَّا بِهِۦۖ وَلَن نُّشۡرِكَ بِرَبِّنَاۤ أَحَدࣰا وَأَنَّهُۥ تَعَـٰلَىٰ جَدُّ رَبِّنَا مَا ٱتَّخَذَ صَـٰحِبَةࣰ وَلَا وَلَدࣰا وَأَنَّهُۥ كَانَ یَقُولُ سَفِیهُنَا عَلَى ٱللَّهِ شَطَطࣰا ) نعم يقولون فينا السفهاء كُثُر ، يقولون في الله وعلى الله القول الشطط أي البعيد الباطل الذي يدل على سَفَه عقل قائله وقصور فهمه .
أما هؤلاء النفر لمّا سمعوا القرآن وأثر فيهم ذلك التأثير ويسر الله أن جلب لقلوبهم ذلك الإيمان قالوا : ( فَـَٔامَنَّا بِهِۦۖ وَلَن نُّشۡرِكَ بِرَبِّنَاۤ أَحَدࣰا ) وهذا إيمان المعرفة بالدليل ، فرق بين الإيمان القائم على البرهان والحُجة والمعرفة بالدليل وقوة تمكّن القلب منه وبين الإيمان الذي هو إيمان المردى والمنشأ والعادة والتقليد ، عادةً الإيمان الذي هو من هذا النوع إيمانُ مزعزع، أدنى شبهة تؤثر فيه لأنه ليس قائم على البراهين .. الحجج .. على الأدلة، وانظر إلى هؤلاء ( فَـَٔامَنَّا بِهِۦۖ وَلَن نُّشۡرِكَ بِرَبِّنَاۤ أَحَدࣰا) إيمان قائم على البرهان مثل إيمان السَّحرة في القصة العجيبة والوقفة معها ربما تطول لكنهم لما تهددهم فرعون بالقتل والصلب وتوعدهم مع أنهم قريبوا عهد بالإيمان في الصباح كانوا سحرة كفرة وفي المساء صاروا مؤمنين بررة ، الصباح من أكفر الناس والمساء من أحسن الناس إيماناً ، فلما كان إيمانهم قائمٌ على البرهان وتهدَّدَهم فرعون ذلك التهديد قالوا له ماذا ؟ (فَٱقۡضِ مَاۤ أَنتَ قَاضٍۖ إِنَّمَا تَقۡضِی هَـٰذِهِ ٱلۡحَیَوٰةَ ٱلدُّنۡیَاۤ) افعل ما شئت لن نترك هذا الدين ، مع أنهم في الصباح كانوا على الكفر ، لكن الإيمان القائم على البرهان والقائم على الحجة يتمكن من القلب تمكناً عجيباً وهذا من قوة تأثير القرآن وهداياته ، فهؤلاء النفر من الجن عندما استمعوا للقرآن وتأملوا في هداياته خرجوا بهذه النتيجة (یَهۡدِیۤ إِلَى ٱلرُّشۡدِ فَـَٔامَنَّا بِهِ) إذاً تأمُل هدايات القرآن التي هي هدايات للتي هي أقوَم تُثمِر قوة الإيمان وهذا نأخذ منه نتيجة مهمة ينبغي حقيقةً أن نُفيد منها أنّا كلما أردنا بإيماننا قوة فلنرجع إلى هذا القرآن فهو المَعين العذب والمورد الزلال الذي منه تُستمنَح قوة الإيمان فكلما أراد العبد قوة في إيمانه.. قوة في صلته بالله سبحانه وتعالى فليقترب من هذا القرآن ، وليس المراد الاقتراب من هذا القرآن مجرد قراءة حروفه بأن يقرأ القارئ السورة وهو في نفسه يقول متى انتهي منها؟.. لا ، المراد بالقراءة قراءة التدبر أن تقرأ السورة وأنت تقول في نفسك متى أعقِل عن الله خطابه ؟ متى أفهم كلام الله ؟ متى أتدبر كلام الله ؟ متى أعي كلام الله ؟ لا يكون هم الإنسان متى أنتهي من السورة وإنما يكون همّه متى أفهم السورة ، ولهذا قال العلماء : "قراءة آية بتدبر خير من قراءة سورة أو ختمة بلا تدبّر" لأن المعنى هو في التدبر ( كِتَـٰبٌ أَنزَلۡنَـٰهُ إِلَیۡكَ مُبَـٰرَكࣱ لِّیَدَّبَّرُوۤا۟ ءَایَـٰتِهِۦ وَلِیَتَذَكَّرَ أُو۟لُوا۟ ٱلۡأَلۡبَـٰبِ ) وهذا يوصلنا أيضاً إلى نتيجة أخرى وأصل آخر في هذا الباب: أن هدايات القرآن لا يمكن أن تُنال إلا بتدبر القرآن ومجاهدة النفس على فهم معانيه وعقل دلالاته ، ولهذا قال العلماء رحمهم الله في معنى قوله تعالى : (ٱلَّذِینَ ءَاتَیۡنَـٰهُمُ ٱلۡكِتَـٰبَ یَتۡلُونَهُۥ حَقَّ تِلَاوَتِهِ ) ونظائرها من الآيات أن تلاوة القرآن ليست مجرد قراءة حروف القرآن بل لابد من أمور ثلاثة :
- الأول : القراءة .
- الثاني : الفهم للمعاني .
- الثالث : العمل بالقرآن
والعمل بالقرآن يُعد تلاوة للقرآن ، ليست تلاوة القرآن مجرد القراءة حتى العمل يُسمى تلاوة ، والله سبحانه وتعالى يقول : ( وَٱلۡقَمَرِ إِذَا تَلَىٰهَا ) أي تبعها ، فمن لم يتبع القرآن لم يتلو القرآن ، تلاوة القرآن لابد فيها من فهم للقرآن ، فإذاً هداية القرآن لابد فيها من تدبّر لهذا الكتاب العظيم وتأمل لدلالاته فيخرج المرء بمثل هذه النتائج العظيمة .
أنظر قصة هؤلاء النفر من الجن وقد بينها الله سبحانه وتعالى في موضع آخر من القرآن في سورة الأحقاف قول الله عز وجل : (وَإِذۡ صَرَفۡنَاۤ إِلَیۡكَ نَفَرࣰا مِّنَ ٱلۡجِنِّ یَسۡتَمِعُونَ ٱلۡقُرۡءَانَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوۤا۟ أَنصِتُوا۟ۖ ) (أَنصِتُوا۟ۖ) هنا موطن التأثير والأثر والله يقول : ( إِنَّ فِی ذَ ٰلِكَ لَذِكۡرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُۥ قَلۡبٌ أَوۡ أَلۡقَى ٱلسَّمۡعَ وَهُوَ شَهِیدࣱ) فالأثر -أثر القرآن وأثر هدايات القرآن على القلوب- لابد فيها من حُسن الإنصات وحُسن التأمل للمعاني والدلالات والهدايات -هدايات القرآن الكريم- ( فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوۤا۟ أَنصِتُوا۟ۖ فَلَمَّا قُضِیَ ) ماذا ؟ ( وَلَّوۡا۟ إِلَىٰ قَوۡمِهِم مُّنذِرِینَ) سبحان الله ( فَلَمَّا قُضِیَ وَلَّوۡا۟ إِلَىٰ قَوۡمِهِم مُّنذِرِینَ) سماع في مجلس واحد لكلام الله سبحانه وتعالى مع حُسن فهم وتدبّر لدلالات كلام الله سبحانه وتعالى تحولوا من ساعتهم تلك دعاةً ومنذرين لأقوامهم ( وَلَّوۡا۟ إِلَىٰ قَوۡمِهِم مُّنذِرِینَ) أيُّ شيء قالوا لقومهم ؟ ( يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَىٰ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَىٰ طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ یَـٰقَوۡمَنَاۤ أَجِیبُوا۟ دَاعِیَ ٱللَّهِ وَءَامِنُوا۟ بِهِۦ یَغۡفِرۡ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمۡ وَیُجِرۡكُم مِّنۡ عَذَابٍ أَلِیمࣲ وَمَن لَّا یُجِبۡ دَاعِیَ ٱللَّهِ فَلَیۡسَ بِمُعۡجِزࣲ فِی ٱلۡأَرۡضِ وَلَیۡسَ لَهُۥ مِن دُونِهِۦۤ أَوۡلِیَاۤءُۚ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ فِی ضَلَـٰلࣲ مُّبِینٍ ) فانظر هذا الأثر ما أعجبه، في مجلسٍ واحد استمعوا فيه لكلام الله سبحانه وتعالى فخرجوا بهذا الإيمان القوي، الإيمان المتمكن، وأيضاً خرجوا نُذُراً ورسلاً ودعاةً لقومهم إلى الإيمان بهذا الكتاب العظيم والإيمان بهداياته .
قول الله سبحانه وتعالى : ( إِنَّ هَـٰذَا ٱلۡقُرۡءَانَ یَهۡدِی لِلَّتِی هِیَ أَقۡوَمُ ) من دلالاته: أن هذا القرآن العظيم أعظم الكتب المنزّلة واجلّها على الإطلاق وهو آخر الكتب المنزًلة وأحدثها عهداً بالله سبحانه وتعالى وأوسعها علوماً، وإذا قرأت أول السورة - سورة الإسراء- قال الله سبحانه وتعالى في منّته على عبده موسى عليه السلام في إيتائه التوراة وأنها هدىً لبني اسرائيل، جعل التوراة المنزّلة على بني اسرائيل كتاب هداية لهم ، منَّ الله سبحانه وتعالى عليهم بذلك ، في التوراة هدى لبني اسرائيل ولمّا جاء للقرآن قال : ( إِنَّ هَـٰذَا ٱلۡقُرۡءَانَ یَهۡدِی لِلَّتِی هِیَ أَقۡوَمُ ) في التوراة قال : ( هُدࣰى لِّبَنِیۤ إِسۡرَ ٰۤءِیلَ ) وفي للقرآن قال : ( إِنَّ هَـٰذَا ٱلۡقُرۡءَانَ یَهۡدِی لِلَّتِی هِیَ أَقۡوَمُ ) فأخذ من ذلك أهل العلم: أن هداية القرآن أجمع الهدايات وهو أجمع الكتب السماوية وأعظمها هدايةً ، الكتب السماوية المنزّلة كلها كتب هدايات لكن هذا القرآن العظيم الذي ختم الله سبحانه وتعالى به الكتب المنزّلة أجمع هذه الكتب وأشملها وأوعبها وهذ مما يدل على عظمة القرآن ومكانته العلية ومنزلته الرفيعة وما حواه من خير عظيم في باب الاعتقاد وباب العبادة وباب العمل.
أيضأٌ إذا تأملت هذا السياق تجد أن أول السورة ذكر الله سبحانه وتعالى أمور حصلت لبني إسرائيل ، ضربات قوية بسبب صدوفهم وبعدهم عن الكتاب المنزّل الذي هو كتاب هداية لهم فترتب على ذلك حصول عقوبات دنيوية مُعجّلة لهم ،فإذا قرأ المسلم من أول السورة تلك العقوبات التي أحلّها الله سبحانه وتعالى ببني إسرائيل وأنزلها بهم يأتي إلى القلب الخوف، خوف من عقوبة الله وخوف من الذنوب التي توجب عقوبة الله فيأتي إلى هذه الآية لتضع له الدواء والشفاء ( إِنَّ هَـٰذَا ٱلۡقُرۡءَانَ یَهۡدِی لِلَّتِی هِیَ أَقۡوَمُ ) إذا كنت تخاف من عقوبة الله المُعَجًلة أو المؤجلة فالزم هداية القرآن، اهتدِ بهداية القرآن لتنجو.. لتسعد .. لتسلم مما وقع فيه من قبلك وما أحلّه الله سبحانه وتعالى بهم من عقوبات فيامن تطلب النجاة لنفسك إلزم هداية القرآن ، ولهذا جاء عن قتادة -رحمه الله تعالى- في قوله تعالى : (إِنَّ هَـٰذَا ٱلۡقُرۡءَانَ یَهۡدِی لِلَّتِی هِیَ أَقۡوَمُ ) قال : "إن هذا القرآن فيه ذِكرُ دائكم ودوائکم" فيه الداء وفيه الدواء،الداء الذي يجلب لك المشاكل والمصائب والعقوبات في الدنيا والآخرة مذكور في القرآن، وفيه الدواء "إن هذا القرآن فيه داؤكم ودواؤكم أما داؤكم الذنوب وأما دواءكم الإستغفار" ( وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِیُعَذِّبَهُمۡ وَأَنتَ فِیهِمۡۚ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ مُعَذِّبَهُمۡ وَهُمۡ یَسۡتَغۡفِرُونَ ) فانظر هذا الفقه وارتباطه بالسياق الذي بُدأت به هذه السورة الكريمة .
أيضاً إذا قرأت ( إِنَّ هَـٰذَا ٱلۡقُرۡءَانَ یَهۡدِی لِلَّتِی هِیَ أَقۡوَمُ ) تتشوف نفسك لشي من هدايات القرآن وكأنك تريد شيئاً معجَّلاً خلاصةً مُنجَزَة في هدايات القرآن .
وتستمر في القراءة في هذه السورة العظيمة المباركة فيأتي في الربع نفسه التي فيه الآيات الكريمة آيات متتالية في الأوامر والنواهي ملخصة لك جملة هي من أهم وأعظم هدايات القرآن ودلالاته بدءاً من قوله سبحانه وتعالى : (لَّا تَجۡعَلۡ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهًا ءَاخَرَ فَتَقۡعُدَ مَذۡمُومࣰا مَّخۡذُولࣰا ۞ وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعۡبُدُوۤا۟ إِلَّاۤ إِیَّاهُ وَبِٱلۡوَ ٰلِدَیۡنِ إِحۡسَـٰنًاۚ إِمَّا یَبۡلُغَنَّ عِندَكَ ٱلۡكِبَرَ أَحَدُهُمَاۤ أَوۡ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَاۤ أُفࣲّ وَلَا تَنۡهَرۡهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوۡلࣰا كَرِیمࣰا) فجاءت أوامر ونواهي متتالية كلها هدايات القرآن فكأنك وقد قرأت (إِنَّ هَـٰذَا ٱلۡقُرۡءَانَ یَهۡدِی لِلَّتِی هِیَ أَقۡوَمُ ) أردت شيئاً مُنجَزَّاً جامعاً في هدايات القرآن فجاءت هذه الآيات العظيمة المتتالية تبين لك جملة عظيمة من أهم هدايات القرآن بُدأت بالتوحيد ( لَّا تَجۡعَلۡ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهًا ءَاخَرَ ) ماذا يحصل لمن جعل مع الله إله آخر ؟ قال : ( فَتَقۡعُدَ مَذۡمُومࣰا مَّخۡذُولࣰا ) (تقعد) هذه صفة لكل مشرك - بالعبارة المعاصرة مكانك راوح - المشرك لا يتقدم، المشرك لا يُحصّل خيراً، المشرك لا ينال فضيلة، المشرك لا ينال رفعة، لا يحصل طمأنينة، المشرك قاعد في مكانه محروم من الخير لأن الشرك أعظم موجبات الحرمان والخسران في الدنيا والآخرة فجمع لنفسه في شركه بين القعود والخذلان تقعد مذلولاً مخذولاً فهو مذموم ومخذول محروم من الخير كله في الدنيا والآخرة فالشرك مُعطِّل للخيرات مُذهِب للبركات مُبطل للأعمال هادم للفضيلة وهو أخطر الذنوب وأعظم الجرائم ولهذا في في هدايات القرآن ( إِنَّ ٱللَّهَ لَا یَغۡفِرُ أَن یُشۡرَكَ بِهِۦ وَیَغۡفِرُ مَا دُونَ ذَ ٰلِكَ لِمَن یَشَاۤءُ ) ( وَلَقَدۡ أُوحِیَ إِلَیۡكَ وَإِلَى ٱلَّذِینَ مِن قَبۡلِكَ لَىِٕنۡ أَشۡرَكۡتَ لَیَحۡبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ ٱلۡخَـٰسِرِینَ بَلِ ٱللَّهَ فَٱعۡبُدۡ وَكُن مِّنَ ٱلشَّـٰكِرِینَ) ( وَمَن یُشۡرِكۡ بِٱللَّهِ ) أنظر المثل المشرك ( فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ ٱلسَّمَاۤءِ فَتَخۡطَفُهُ ٱلطَّیۡرُ أَوۡ تَهۡوِی بِهِ ٱلرِّیحُ فِی مَكَانࣲ سَحِیقࣲ ) فَذَكَر في أول هذه الهدايات التحذير من الشرك، ثم ذكر جملةً من الهدايات بدأً ببر الوالدين وصلة الأرحام وإيتاء الفقير والمسكين حقه والبعد عن التبذير البعد عن الإسراف البعد أيضا عن التقتير ( وَلَا تَجۡعَلۡ یَدَكَ مَغۡلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ) ،التحذير من قتل الأولاد خشية إملاق، التحذير من الزنا، التحذير من قتل النفس المعصومة، التحذير من أكل مال اليتيم بغير حق، التحذير من أن يقفو المرء ما ليس له به علم وأن يتكلم في دين الله وفي شرعه وأحكامه بلا علم، التحذير من الخيلاء والتكبر ( وَلَا تَمۡشِ فِی ٱلۡأَرۡضِ مَرَحًا) ، جاءت سياقات عديدة ثم ختمها الله عز وجل بقوله :(ذَ ٰلِكَ مِمَّاۤ أَوۡحَىٰۤ إِلَیۡكَ رَبُّكَ مِنَ ٱلۡحِكۡمَةِۗ وَلَا تَجۡعَلۡ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهًا ءَاخَرَ فَتُلۡقَىٰ فِی جَهَنَّمَ مَلُومࣰا مَّدۡحُورًا ) فبدأ بالتحذير من الشرك وختم بالتحذير منه ، وهذا نصٌ منه إلى قاعدة عظيمة ومتينة في هذا الباب: أن قاعدة الهداية التي عليها تُبنى وأن أساسها العظيم الذي يقوم توحيد الله والبعد عن الشرك، فمن لم يكن موحداً وبعيداً من الشرك فلا حظ له ولا نصيب لأن الأساس الذي تقوم عليه الهداية وتنبني عليه عُدِم عنده فلا حظ له ولا نصيب من الهداية إطلاقاً حتى وإن وُجد عنده أعمال حسنة من بر أو صلة أو صدقات أو غير ذلك فإن الشرك قد أبطلها وهدمها ( وَمَن یَكۡفُرۡ بِٱلۡإِیمَـٰنِ فَقَدۡ حَبِطَ عَمَلُهُۥ وَهُوَ فِی ٱلۡـَٔاخِرَةِ مِنَ ٱلۡخَـٰسِرِینَ ).
هدايات القرآن أمرها عجب وأنت تتأمل في هذه الآية الكريمة ( إِنَّ هَـٰذَا ٱلۡقُرۡءَانَ یَهۡدِی لِلَّتِی هِیَ أَقۡوَمُ ) قد تتساءل وأنت تقرأ هذه الآية الكريمة ما حظ الناس من هذه الهداية ؟ وما مدى نصيبهم من تحصيلها ؟
يأتيك الجواب : ( إِنَّ هَـٰذَا ٱلۡقُرۡءَانَ یَهۡدِی لِلَّتِی هِیَ أَقۡوَمُ وَیُبَشِّرُ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ ٱلَّذِینَ یَعۡمَلُونَ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ أَنَّ لَهُمۡ أَجۡرࣰا كَبِیرࣰا وَأَنَّ ٱلَّذِینَ لَا یُؤۡمِنُونَ بِٱلۡـَٔاخِرَةِ أَعۡتَدۡنَا لَهُمۡ عَذَابًا أَلِیمࣰا ) فالناس مع هداية القرآن على قسمين:
قسم مُبشَّر له النعيم وهو الذي أقبل على القرآن وعمل بهداياته
وقسم أعرض عن القرآن وأعرض عن الذكر الذي في القرآن الكريم فنال العذاب الأليم ( فَإِمَّا یَأۡتِیَنَّكُم مِّنِّی هُدࣰى فَمَنِ ٱتَّبَعَ هُدَایَ فَلَا یَضِلُّ وَلَا یَشۡقَىٰ وَمَنۡ أَعۡرَضَ عَن ذِكۡرِی فَإِنَّ لَهُۥ مَعِیشَةࣰ ضَنكࣰا )
فليس كل الناس يُقبِلون على هدايات القرآن، نعم القرآن يهدي للتي هي أقوم .. لا أقوم من هدايات القرآن .. لا أنفع للقلوب من هدايات القرآن .. لا أصلح للقلوب من هدايات القرآن، لكن ليس كلٌ يُقبل على هذا القرآن، أكثر الناس معرضين عن القرآن ولهذا لا يُحصّلون شيئا من هداياته ، مع قوة هذه الهدايات هدايات القرآن وأنه يهدي للتي هي أقوم تأمل ماذا جاء بعدها في السياق قال جل وعلا : (وَیَدۡعُ ٱلۡإِنسَـٰنُ بِٱلشَّرِّ دُعَاۤءَهُۥ بِٱلۡخَیۡرِۖ وَكَانَ ٱلۡإِنسَـٰنُ عَجُولࣰا ) من أعظم ما ذكره المفسرون تحت هذه الآية (وَیَدۡعُ ٱلۡإِنسَـٰنُ بِٱلشَّرِّ ) قول المشركين عندما عُرضت عليهم هداية القرآن الواضحة البينة الساطعة المؤثرة أقوى التأثير ماذا قالوا ؟ انظر يدعوا بالشر، قالوا : (ٱللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـٰذَا هُوَ ٱلۡحَقَّ مِنۡ عِندِكَ فَأَمۡطِرۡ عَلَیۡنَا حِجَارَةࣰ مِّنَ ٱلسَّمَاۤءِ أَوِ ٱئۡتِنَا بِعَذَابٍ أَلِیمࣲ ) أنظر الهداية أمامهم ما أوضحها وأبينها ثم يدعو على نفسه بماذا ؟ بالشر (وَیَدۡعُ ٱلۡإِنسَـٰنُ بِٱلشَّرِّ دُعَاۤءَهُۥ بِٱلۡخَیۡرِۖ وَكَانَ ٱلۡإِنسَـٰنُ عَجُولࣰا ) هذا من عجلة الإنسان وطيشه، من سفهه وقلة عقله، وإلا لو أن الإنسان وقف متأملاً متدبراً محفِّزاً نفسه لتنتفع من هدايات القرآن ودلالاته العظيمة لكان له الأثر العجب على قلبه .
الحديث حول هذا الموضوع حديث واسع جداً وله أطراف كثيرة جداً وما ذكرته شيء يسير جداً مما يُقال أو يُذكر حول هذا الموضوع وإلا فإن الحديث عن هدايات القرآن للتي هي أقوم حديث من أوسع ما يكون وأطرافه واسعة جداً وهذا هو المتيسر في هذا الوقت في هذا اللقاء. واختم بأن أدعو نفسي وإخواني إلى أن نُقبل على هذا القرآن ونحن في شهر القرآن وليكن هذا الشهر انطلاقةً لنا مع هذا الكتاب العظيم وكما قال بعض السلف : "إذا دخل رمضان إنما هو إطعام الطعام وقراءة القرآن".
والقرآن في رمضان له خصوصية لأن القرآن نزل في رمضان فينبغي على العبد أن يُحسن القراءة وأن يُحسن التدبر وأن يحاسب نفسه وهو يقرأ القرآن ما حظه من هذا القرآن؟ لا يكن حظه من القرآن مجرد القراءة وحفظ الحروف لأن النبي عليه الصلاة والسلام يقول : ( والقرآن حجة لك أو عليك ) ويقول : (إن الله يرفع بهذا القرآن أقواماً ويضع به آخرين ) فلينظر ماذا حظه من هذا القران، يقول ابن مسعود " إذا سمعت الله يقول :(یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟) فارعها سمعك فإنه إما خير تُؤمر به وإما شر تُنهى عنه" ، فهذه الايات التي تقرأها في القرآن وتمر عليها لا تمر عليها وكأن الأمر لا يعنيك بل قف وتأمل وحاسب نفسك، كيف أنا مع هذا القرآن؟ وقد قال الحسن البصري رحمه الله : "أُنزل هذا القرآن ليُعمل به فاتخذ الناس قراءته عملاً" يعني بعض الناس حظه من القرآن مجرد التلاوة أما التأمل والتدبر والفهم لمعاني القرآن والوقوف مع هدايات القرآن العظيمة حظه من ذلك ضعيف إن لم يكن معدوماً .
أسأل الله الكريم رب العرش العظيم بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يوفقنا أجمعين لكل خير وأن يجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا ونور صدورنا وجلاء أحزاننا همومنا وغمومنا وأن يُذكِّرنا منه ما نُسينا وأن يعلمنا ما جهلنا وأن يرزقنا تلاوته أناء الليل وأطراف النهار على الوجه الذي يرضيه عنا وأن يجعلنا من أهل القرآن الذين هم أهل الله تبارك وتعالى وخاصته وأن يهدينا ويهدي لنا ويهدي بنا وأن ييسر الهدى لنا ، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير والموت راحة لنا من كل شر ، اللهم آتِ نفوسنا تقواها وزكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها ، اللهم يارب العالمين نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العليا أن تصرف عن المسلمين أينما كانوا الفتن ما ظهر منها وما بطن وأن توفق المسلمين أينما كانوا إلى عودة صادقة إلى كتاب ربهم وأن تشرح صدورهم أجمعين لتلاوة هذا القرآن العظيم وتعظيمه والاهتمام بهداياته ونسأل الله تبارك وتعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العليا أن ينصر إخواننا المسلمين المستضعفين أينما كانوا وأن ينصر من نصر دينه وكتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وأن يحفظ المسلمين أينما كانوا بما يحفظ به عباده الصالحين وأن يحقن دماءهم وأن يُؤمن روعاتهم وأن يستر عوراتهم وأن يؤلف بين قلوبهم وأن يصرف عنهم الفتن ما ظهر منها وما بطن ، ونسأله جل في علاه الأمن في الأوطان اللهم آمنا في أوطاننا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يارب العالمين ، اللهم أقسم لنا من خشيتك ما يحول بيننا وبين معاصيك ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك ومن اليقين ما تهوِّن به علينا مصائب الدنيا اللهم متعنا باسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا واجعله الوارث منا واجعل ثأرنا على من ظلمنا وانصرنا على من عادانا ولا تجعل مصيبتنا في ديننا ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا ولا تسلط علينا من لا يرحمنا .
وهذه الورقة المستديرة فيها أن الوقت انتهى فسبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد وآله وصحبه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق