الأحد، 17 مارس 2013

من الدرس الرابع عشر : مسائل مهمة ( 2/2) /(لا إِكْرَاهَ في الدِّينِ)

1- وإنما وقعت المخاصمة في هؤلاء من كفار قريش لما نزل قوله تعالى: (إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) [الأنبياء:98] وقد جعل الله تعالى في هذا الأمر فتنة للمشركين هي من مزيد إقامة الحجة عليهم فإنها دعتهم للتفكر في ما بلَّغهم الرسول من آيات ربهم وعرفوا معانيها فقامت عليهم الحجة ولكنهم لم يؤمنوا بها ولم يستجيبوا لها ولم يحذروا مما أنذرهم الله من العذاب الشديد في نار جهنم، بل قابلوا ذلك بالمجادلة بالباطل ظلماً وطغياناً وعناداً واستكباراً، ليغرَّ بعضهم بعضاً بما استحسنوه من زخرف القول. ولو أنهم تفكروا في أنفسهم لعرفوا أن الله تعالى لا يكون في كلامه خطأ ولا قصور ، ولا يكون في حكمه ظلم ولا جهل ، لكنهم انصرفوا عما أمروا به من توحيد الله إلى مخاصمة الله ورسوله واستمرؤوا المحادَّة والمشاقَّة وفي هذا من سوء الأدب مع الله ومع رسوله ما يستحقون عليه العذاب الشديد، وقد جعل الله هذا الأمر فتنة لهم ليظهر ما في نفوسهم من الكِبْرِ والطغيان . روى الطبراني عن ابن عباس أنه قال: لما نزلت : (إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ) قال عبد الله بن الزِّبَعْرَي : أنا أخصم لكم محمداً. فقال: يا محمد أليس فيما أنزل عليك : (إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ) ؟ قال : (( نعم )). قال: فهذه النصارى تعبد عيسى، وهذه اليهود تعبد عزيراً، وهذه بنو مليح تعبد الملائكة؛ فهؤلاء في النار ؟ فأنزل الله عز و جل: (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ).ورواه الطحاوي في مشكل الآثار بزيادة، وفيها أنه قال: فضجَّ أهل مكةَ؛ فنزلت: إن الذين سبقت لهم منا الحسنى عيسى وعزير والملائكة أولئك عنها مبعدون.
 قال: ونزلت (وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ) وهو الضَّجيج. (يصِدون) بكسر الصاد أي يضجّون. قال الله تعالى: (وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاءً وَتَصْدِيَةً) قال الله تعالى: (وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57) وَقَالُوا أَآَلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ) الذي ضرب هذا المثل هو عبد الله بن الزبعرى كما تقدَّم؛ فضج أهل مكة فرحاً بهذا المثل، وقالوا: إذا كان عيسى ليس في النار؛ فآلهتنا خير منه. أَآَلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ استفهام إنكاري جوابه المتقرر عندهم أن آلهتهم خير منه، حتى إنهم قدموا ذكر آلهتهم وأخروا ذكره ورمزوا له بالضمير تقليلاً من شأنه. ونسب الضرب إليهم جميعاً فقال: (مَا ضَرَبُوهُ) لأنهم وافقوه على قوله، وإن كان الضارب واحداً في الأصل، لكن لمَّا فرحوا بضرب هذا المثل نسب إليهم جميعاً. وقول الله تعالى: (مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا) دليل على أنهم يعلمون أنهم مبطلون لا حجة لهم ، وإنما أرادوا الجدال والمخاصمة.
 قال جماعة من أهل العلم باللغة والتفسير: قوله تعالى:(إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) "ما" هي لغير العاقل، فالآية لا تشمل هؤلاء الصالحين بدلالة اللفظ أصلاً ؛ لأن العرب تخبر عن غير العاقل بـ "ما" فيكون المراد بقوله: بما يعبدون من دون الله الأوثان من الأصنام والأحجار والأشجار، وأما هؤلاء الصالحين فيخبر عنهم بـ"من)" وليس بـ"ما"، ولذلك قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم) ولم يقل لها. وقال في الأوثان:(وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا) فليس قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى..) الآية استثناء من الآية التي قبلها، وإنما هو تقرير لحكم هؤلاء الصالحين الذين سبقت لهم الحسنى من الله تعالى أنهم مبعدون عن نار جهنم لا يسمعون حسيسها، وأنهم آمنون يوم القيامة من الفزعٍ الأكبر الذي لا أكبر منه، وفي هذا تهديد لهؤلاء المشركين وإنذار وتخويف بأنهم إن لم يكفروا بالطاغوت ويؤمنوا بالله كانوا من المعذبين بذلك الفزع الأكبر وأنهم وما يعبدون من دون الله حصب جهنم، والعياذ بالله.
 2- قوله تعالى: (لا إِكْرَاهَ في الدِّينِ) [البقرة:256] أي إنَّ الدين لا إكراه فيه على أحد، فلا يستطيع أحد من الخلق أن يجبر أحداً على دينٍ لا يرتضيه؛ لأن الله تعالى لم يجعل للمخلوقين سلطاناً على القلوب. وقد يسَّر الله الدين تيسيراً عظيماً؛ فمن اختار الإيمان فلا يستطيع أن يمنعه منه أحد من الخلق بإكراه على الكفر، لأن الدخول في الدين أصله الاعتقاد والقول ولو بالإسرار والإخفاء وهذا أمر لا سلطان لأحد من الخلق على منعه والإكراه عليه. وأما من اختار الكفر على الإيمان فهو كافر وإن كان مستضعفاً في الظاهر. ولذلك فإن المستضعفين الذين قصَّ الله خبرهم في القرآن في قوله تعالى: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآَنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32) وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) فهؤلاء المستضعفون قد جاءهم الهدى وعرفوه ولم يؤمنوا به، بل اختاروا طاعة الطواغيت المستكبرين اختياراً قلبياً منهم ، وإلا فإن هؤلاء الطواغيت لا سلطان لهم على قلوب المستضعفين ، ولا يستطيعون أن يكرهوهم على اختيار الكفر. ولو أن هؤلاء المستضعفين آمنوا بقلوبهم لجعل الله لهم مخرجاً ولأعزهم ونصرهم، ولكنهم اختاروا الكفر إرضاء للطواغيت فاستحقوا العذاب. ولذلك قال لهم المستكبرون باستنكار: (أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ) ؟ فإنه لا سلطان لهم على قلوب المستضعفين يصدونهم به عن قبول الهدى. وقال الله تعالى لنبيّه: (أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ) وهذا استفهام إنكاري، أي لا تستطيع أن تكره الناس على الإيمان. فمن تمام عدل الله أن جعل الاختيار بين الكفر والإيمان لا إكراه لأحد فيه. إذا تبيَّن هذا فقوله تعالى: (لا إِكْرَاهَ في الدِّينِ) يشمل معاني لا تعارض بينها: المعنى الأول: أنه لا يقع إكراه من مخلوق لمخلوق على الدين، كما سبق بيانه.
 المعنى الثاني: أنها خبر بمعنى النهي أي: لا يجوز أن يُكره أحدٌ بتهديد بضرب أو قتل أو حبس أو نحوه على الدخول في دين الإسلام. وهذا الإكراه إنما هو فعل ما يستطيعه المُكْرِه من التهديد والتعذيب؛ فإذا هدَّد أو عذَّب حتى يوافقه المُكرَه ظاهراً فهو مُكْرِه، فنُهِيَ عن هذا ، وهو لا يقتضي الإكراه على الاختيار القلبي، لأن المُكْرَه قد يوافق ظاهراً ويخالف باطناً. وهذا لا يعارضه قتال الكفار وإقامة الحد على المرتد فإن الكفار يقاتلون على منعهم تبليغ الدعوة وتمكين المؤمنين من الأرض ليحكموا فيها بما أنزل الله ويحطّموا ما أمر الله بتحطيمه من الطواغيت التي تعبد من دون الله فمن دافع عن هذه الطواغيت وقاتل في سبيلها استحق القتال، وليس قتاله على أن يكره على أن يدخل في دين الإسلام كرهاً. وكذلك المرتد يقتل تنفيذاً لحكم الله فيه.
 المعنى الثالث: (لا إِكْرَاهَ في الدِّينِ) أي لا يجوز للمؤمنين أن يكره بعضهم بعضاً على أي أمر من الأمور ، فمعنى لا إكراه في الدين أي لا يجوز الإكراه في دين الإسلام لأن الإكراه إضرار، والإضرار محرم . وقد روى ابن أبي شيبة عن حنش بن الحارث النخعي عن أبيه أنه قدم المدينة مع قومه فأمرهم عمر بالمسير إلى العراق مدداً للمسلمين في القادسية؛ فقالوا: لا بل نسير إلى الشام، فقال عمر: لا بل إلى العراق فإني قد رضيتها لكم، فجادلوه حتى قال بعضهم: يا أمير المؤمنين لا إكراه في الدين.
 * قوله تعالى : (قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ) أي إن طريق الرشد والصواب والخير قد تبيَّن بياناً لا لبس فيه، وكذلك طريق الغي والشر والفساد. (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ) أي يكفر بما يُعبد من دون الله ، ويقوم بما يقتضيه واجب الكفر من البراءة من الكفر وأهله. (وَيُؤْمِنْ بِاللهِ) أي يوحد الله ويسلم وجهه وقلبه له.
 * (فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالعُرْوَةِ الوُثْقَى) العروة هي ما يُسْتَمْسَكُ به لطلب النجاة. وأصل هذا اللفظ أن الدلو توثق بعروة تمسكها؛ فإذا أُلْقِيت الدلو في البئر وامتلأت ماءً جذبها المستسقي بحبل قد ربطه في عروة الدلو فإن كانت تلك العروة وثيقة جيدة والحبل جيداً استخرج الدلو، وإن كانت العروة غير وثيقة انفصمت العروة فسقط الدلو.
 قال امرؤ القيس :
 كالدلو ثبت عُرَاها وهي موقرة = إذ خانها وذَم منها وتكريب
 الكَرَبُ: حبل يشدُّ به وسط العراقي، والعراقي: خشبتان متقاطعتان على شكل صليب يوضع على فم الدلو، ويكون طرف كل خشبة في أذن من آذان الدلو الأربعة.
 والوذم سيور تربط آذان الدلو بالعراقي، واحدتها: وَذَمَة.
 فالعروة اسم لهذه الأجزاء التي تتكون منها ، وهي التي تمسك الدلو . يقال: عروة وثيقة، إذا كانت قوية مأمونة؛ فتجمع بين القوة والأمان بحيث يوثق بها ويُطمئَنُّ إليها. ويقال: عروة أوثق من عروة؛ على التفاضل في صفتي القوة والأمان.
 والعروة الوُثقى هي التي بلغت الغاية في القوة والأمان فلا أوثق منها. فإذا كانت العروة وثقى، والاستمساك جيداً نجا المستمسك بهذه العروة من الهلاك فهذه العروة الوثقى التي وصفها الله بقوله: (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالعُرْوَةِ الوُثْقَى) هي أوثق أسباب النجاة وأفضلها وأجلها, بل لا أفضل منها، ولا ينجو العبد بغيرها وهي : أن يؤمن بالله ويكفر بالطاغوت. كما يقال: الطريقة المثلى، أي التي لا أمثل منها، ولا أحسن. فالله تعالى يريد أن يقطع على الناس البحث عن أسباب نجاة أخرى؛ فإذا علم العبد أن هذا السبب هو أعظم الأسباب وأنفع الأسباب لم يلتفت قلبه إلى غيره.
 * (فَقَدِ اسْتَمْسَكَ) لفظ الاستمساك فيه بناء لغوي أقوى دلالة من المَسْكِ, لأنه يجمع معاني قوة التمسك والحرص والمداومة عليه. فما دام العبد مستمسكاً بهذه العروة فالله تعالى ضامن له ألا تنفصم وألا تنقطع به دون بلوغ ما يأمل من النجاة والفوز الكبير .
 * قوله: (لا انْفِصَامَ لَهَا) تأكيد على أن هذه العروة لا تنفصم أبداً، ولا تتقطع أجزاؤها، وفي هذا ضمان عظيم لمن استمسك بهذه العروة الوثقى ألا يُخذل من جهتها أبداً. قال الله تعالى: (لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا)  دلَّ بمنطوقه على أن كل من جعل مع الله إلها آخر فهو مذموم مخذول. ودل بمفهومه على أن من وحَّد الله تعالى فلا يكون مذموماً ولا مخذولاً. فسبيل النجاة من الذم والخذلان هو توحيد الله . وإنما يقع العبد في شيء من الذم والخذلان إذا ضعف تحقيقه للتوحيد. فأما إذا أشرك بالله فقد أحاط به الذم والخذلان والخسران من كل جانب - والعياذ بالله - ، ومن حقق التوحيد فلا يخاف من الذم ولا الخذلان؛ لأن هذه العروة التي استمسك بها عروة وثقى قد ضمن الله تعالى لمن استمسك بها أن لا تنفصم به. فقوله تعالى: (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ) بيان لمعنى تحقيق الاستمساك بالعروة الوثقى ، لأن حرف "قد" يفيد التحقيق.
 * (وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) أي سميع مجيب لدعاء من يدعوه مخلصاً له الدين، عَلِيمٌ بما في قلوبهم من التوحيد والإسلام وهذا يقتضي عنايته بعباده، وأنه لا يخفى عليه شيء من أمرهم. فانظر كيف اقتلعت هذه الآية جذور الخوف من الخذلان والهلاك من قلوب أولياء الله المؤمنين الموحدين فاطمأنَّت قلوبهم بذكر الله ومعرفته والإيمان به ألا بذكر الله تطمئنُّ القلوب.
___________
ملتقى أهل التفسير

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق