الأربعاء، 31 ديسمبر 2025

| الدرس السابع والخمسون | تفسير سورة البقرة: من الآية (٨٣) (وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله…)


الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللمسلمين والمسلمات أما بعد: فيقول الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله: 
ن/ «قوله (وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحسانا وذي القربى)
(وقالوا لن تمسنا) اقرأ الآيات وكلام الشيخ:
ن/ «(وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة قل أتخذتم عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده أم تقولون على الله ما لا تعلمون* بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون* والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون) ذكر أفعالهم القبيحة ثم ذكر مع هذا أنهم يزكون أنفسهم ويشهدون لها بالنجاة من عذاب الله والفوز بثوابه وأنهم لن تمسهم النار النار إلا أياما معدودة أي قليلة تُعد بالأصابع، فجمعوا بين الإساءة والأمن، ولما كان هذا مجرد دعوى رد تعالى عليهم فقال قل لهم يا أيها الرسول (أتخذتم عند الله عهدا) أي بالإيمان به وبرسله وبطاعته فهذا الوعد الموجب لنجاة صاحبه الذي لا يتغير ولا يتبدل؟ أم تقولون على الله ما لا تعلمون؟ فأخبر تعالى أن صدق دعواهم متوقف على أحد هذين الأمرين الذين لا ثالث لهما: إما أن يكونوا قد اتخذوا عند الله عهدا فتكون دعواهم صحيحة، وإما أن يكونوا متقولين عليه فتكون كاذبة فيكون أبلغ لخزيهم وعذابهم. وقد علم من حالهم أنهم لم يتخذوا عند الله عهدا لتكذيبهم كثيرا من الأنبياء حتى وصلت بهم الحال إلى أن يقتلوا طائفة منهم ونكولهم عن طاعة الله تعالى ونقضهم المواثيق فتعين بذلك أنهم متقولون مختلقون قائلون عليه ما لا يعلمون، والقول عليه بلا علم من أعظم المحرمات وأشنع القبيحات.
ثم ذكر تعالى حكما عاما لكل أحد يدخل فيه بنو إسرائيل وغيرهم وهو الحكم الذي لا حكم غيره لا أمانيهم ودعاويهم بصفة الهالكين والناجين فقال (بلى) أي ليس الأمر كما ذكرتم فإنه قول لا حقيقة له ولكن (من كسب سيئة) وهو نكرة في سياق الشرط فيعُم الشرك فما دونه والمراد به هنا الشرك بدليل قوله (وأحاطت به خطيئته) أي أحاطت بعاملها فلم تدع له منفذا، وهذا لا يكون إلا الشرك فإن من معه الإيمان لا تحيط به خطيئته، (فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) وقد احتج بها الخوارج على كفر صاحب المعصية وهي حجة عليهم كما ترى فإنها ظاهرة في الشرك، وهكذا كل مُبطل يحتج بآية أو حديث صحيح على قوله الباطل فلابد أن يكون فيما احتج به حجة عليه،  (والذين آمنوا) أي بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر (وعملوا الصالحات) ولا تكون الأعمال صالحة إلا بشرطين: أن تكون خالصة لوجه الله متبعا بها سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فحاصل هاتين الآيتين: أن أهل النجاة والفوز هم أهل الإيمان والعمل الصالح والهالكون أهل النار المشركون بالله الكافرون به»

ت/ بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علما وأصلح لنا إلهنا شأننا كله ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين أما بعد: قول الله جل وعلا (وقالوا لم تمسنا النار إلا أياما معدودات) إلى قوله (هم فيها خالدون) مر الكلام على معاني هذه الآيات ويقول الشيخ رحمه الله في تفسيره لها: ذكر الله جل وعلا أفعالهم القبيحة - يعني في الذي سبق هذه الآيات - ثم ذكر أنهم يزكون أنفسهم ويشهدون لها بالنجاة من عذاب الله والفوز بثوابه وأنهم لن تمسهم النار إلا أياما قليلة، أياما معدودة، وأيضا قالوا - كما في آية أخرى (لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى) الشيخ - كما سيأتي – يقول: هذه أماني ودعاوي والله قال (ليس بأمانيكم ولا أمانيّ أهل الكتاب من يعمل سوءا يجزى به) الحسن البصري رحمه الله تعالى يقول: «ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي ولكن الإيمان ما وقر في القلب وصدقته الأعمال» ليس الإيمان دعاوى تُدعى أو أماني ترتجى، ولو كان الايمان بالتمني فانظر حال هؤلاء مع القبائح العظيمة التي يذكرها الله عنهم يقولون في تزكيتهم لأنفسهم (لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى) يقولون (نحن أبناء الله وأحباؤه)، ويقولوا (لن تمسنا النار إلا أياما معدودة) هذه دعاوى فجة، دعاوى كاذبة، والدعاوى لا تجدي وإنما الذي يُجدي البيّنات أن يقيم المرء البيّنة بصحة الإيمان، وصحة العمل، والاستقامة على طاعة الله سبحانه وتعالى، (وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين) ما هو البرهان؟ (بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن) هذا هو البرهان (بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن) (بلى) للإضراب، هم يقولون أنه لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى فيقول الله (هاتوا برهانكم) هاتوا البينة على ما تدعون، ثم يبين من هم أهل الجنة قال (بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون).
هنا قال (أتخذتم عند الله عهدا) ميثاقا، موعدا. وعلى المعنى الآخر في تفسير قوله (أتخذتم عند الله عهدا) أي هل وحّدتم الله توحيد عهد، توحيد ميثاق - كما سيأتي- (وإذا أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله) هل عندكم هذا الميثاق الذي هو التوحيد والطاعة؟ هل وحدتم الله أخلصتم دينكم لله فلن يخلف الله عهده (أم تقولون على الله ما لا تعلمون) يقول الشيخ: «فأخبر أن صدق دعواهم متوقفة على أحد هذين الأمرين الذين لا ثالث لهما: إما أن يكونوا قد اتخذوا عند الله عهد فتكون دعواهم صحيحة، وإما أن يكونوا متقولين فتكون كاذبة، فيكون أبلغ لخزيهم وعذابهم وقد عُلم من حالهم أنهم لم يتخذوا عند الله عهدا لم يتخذوا عند الله عهدا لتكذيبهم كثيرا من الأنبياء حتى وصلت بهم الحال إلى أن قتلوا طائفة منهم، ولنكولهم عن طاعة الله ونقضهم المواثيق فتعين بذلك أنهم متقولون مختلقون قائلون عليه ما لا يعلمون، والقول عليه بلا علم من أعظم المحرمات وأشنع القبيحات.
ثم ذكر جل وعلا حكما عاما لكل أحد قال (بلى) أي ليس الأمر كما ذكرتم (من كسب سيئة) وهو نكرة في سياق الشرط فيعم الشرك فما دونه، والمراد به الشرك، يقول الشيخ المراد بالسيئة هنا الشرك، من أين؟ من دلالة السياق من وجوه، دل السياق أن المراد الشرك الكفر الأكبر قال بدليل قوله (وأحاطت به خطيئته) أي أحاطت بعاملها فلم تدع له منفذا وهذا لا يكون إلا الشرك لا يكون إلا الشرك، والسياق دل على أن المراد الشرك من وجوه عديدة أشرت إلى عدد منها بالأمس أعيدها تذكيرا:
 الوجه الأول: أن السيئة هنا جاءت منكرة في سياق الشرق فتفيد العموم فهي متناولة للشرك الأكبر فما دونه قال (بلى من كسب سيئة)
والوجه الثاني: قوله (وأحاطت به خطيئته) والخطيئة لا تكون محيطة بالعاصي، عنده إيمان لا تكون الخطيئة محيطة إلا بالكافر المشرك.
والأمر الثالث: قوله بعد ذلك (والذين آمنوا وعملوا الصالحات) إذا الذين قبلهم من الكفار (والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة) إذا الحديث عن فريقين فريق الكفر وفريق الإيمان، فريق الجنة وفريق السعير فالذي قبلها الكفار، وقوله (والذين آمنوا وعملوا الصالحات) هؤلاء أهل الجنة هم فيها خالدون.
والوجه الرابع: أن قوله (بلى من كسب سيئة) جاء في سياق الرد على اليهود في قولهم (لن تمسنا النار).
فهذه وجوه أربعة تدل على أن المراد بالسيئة والخطيئة هنا الشرك الأكبر،  الكفر الأكبر الناقل من الملة - كما عرفنا- هذا يبين فساد استدلال الخوارج بهذه الآية وتنزيلهم لها على عصاة الموحدين.
ذكر الشيخ قاعدة وهي: كل مُبطل يحتج بآية أو حديث على قوله الباطل فلا بد أن يكون فيما احتج به حجة عليه. 
هذه قاعدة عظيمة جدا، وابن تيمية رحمه الله تعالى التزم مع كل مُبطل يحتج على حجته بآية من القران أو حديث من أحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام أن يرد عليه بالآية نفسها التي يحتج بها ويكشف أن الآية التي هو يحتج بها هي حجة عليه، وهذا واضح لكم الآن هنا يحتج بها الخوارج على تكفير مرتكب الكبيرة والآية نفسها رد عليهم، والسياق نفسه رد عليهم قال (والذين آمنوا) أي بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر (وعملوا الصالحات) ثم بين الشيخ أن العمل الصالح لا يكون صالحا إلا بشرطين: الإخلاص للمعبود والمتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم. قال: «فحاصل هاتين الآيتين أن أهل النجاة والفوز أهل الإيمان والعمل الصالح والهالكون أهل النار المشركون بالله الكافرون به من قوله تعالى (وقالوا لن تمسنا النار) إلى قوله في أهل الجنة (هم فيها خالدون) نظيرها تماما لو تتأمل قول الله سبحانه وتعالى في سورة النساء (ليس بأمانيكم) الآن لما يقول (لن تمسنا النار)، (لن يدخل الجنة إلا من كان هودا) إلى آخره هذه ما هي؟ قال (ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجزى به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا*ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا) هذه مثلها تماما» نعم

ن/ قال رحمه الله قوله: «وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحسانا وذي القربى واليتامى والمساكين وقولوا للناس حسنا وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ثم توليتم إلا قليلا منكم وأنتم معرضون) فهذه الشرائع من أصول الدين التي أمر الله تعالى بها في كل شريعة لاشتمالها على المصالح العامة في كل زمان ومكان، فلا يدخلها نسخ كأصل الدين ولهذا أمرنا الله تعالى بها في قوله (واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا) إلى آخر الآية، فقوله (وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل) هذا من قسوتهم أن كل أمر أُمروا به استعصوا فلا يقبلونه إلا بالأيمان الغليظة والعهود الموثقة (لا تعبدون إلا الله) هذا أمر بعبادة الله تعالى وحده ونهي عن الشرك به وهذا أصل الدين فلا تُقبل الأعمال كلها إن لم يكن هذا أساسها فهذا حق الله تعالى على عباده، ثم قال (وبالوالدين إحسانا) أي أحسنوا بالوالدين إحسانا وهذا يعم كل إحسان قولي وفعلي مما هو إحسان إليهم، وفيه النهي عن الإساءة إلى الوالدين أو عدم الإحسان، والإساءة لأن الواجب الإحسان والأمر بالشيء نهي عن ضده، وللإحسان ضدان: الإساءة وهي أعظم جرما، وترك الإحسان بدون إساءة وهذا محرم لكن لا يجب أن يُلحق بالأول، وكذا يقال في صلة الأقارب واليتامى والمساكين وتفاصيل الإحسان والمساكين، وتفاصيل الإحسان لا تنحصر بالعدّ بل تكون بالحد - كما تقدم - ثم أمر بالإحسان إلى الناس عموما فقال (وقولوا للناس حسنا) ومن القول الحسن أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، وتعليمهم العلم، وبذل السلام والبشاشة، وغير ذلك من كل كلام طيب، ولما كان الإنسان لا يسع الناس بماله أُمر بأمر يقدر به على الإحسان إلى كل مخلوق وهو الإحسان بالقول فيكون في ضمن ذلك النهي عن الكلام القبيح للناس حتى للكفار ولهذا قال تعالى (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن) ومن أدب الإنسان الذي أدب الله تعالى به عباده أن يكون الإنسان نزيها في أقواله وأفعاله غير فاحش ولا بذيء ولا مشاتم ولا مخاصم، بل يكون حسن الخلق، واسع الحلم، مجاملا لكل أحد، صبورا على ما يناله من أذى الخلق امتثالا لأمر الله تعالى ورجاء لثوابه، ثم أمرهم بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة لما تقدم أن الصلاة متضمنة للإخلاص للمعبود، والزكاة متضمنة للإحسان إلى العبيد. ثم بعد هذا الأمر لكم بهذه الأوامر الحسنة التي إذا نظر إليها البصير العاقل عرف أن من إحسان الله تعالى إلى عباده أن أمرهم بها وتفضل بها عليهم وأخذ المواثيق عليكم ثم توليتم على وجه الإعراض لأن المتولي قد يتولى وله نية رجوع إلى ما تولى عنه وهؤلاء ليس لهم رغبة ولا رجوع في هذه الأوامر، فنعوذ بالله من الخذلان. وقوله (إلا قليلا منكم) هذا استثناء لئلا يوهم أنهم تولوا كلهم فأخبر أن قليلا منهم عصمهم الله تعالى وثبتهم»

ت/ ثم قال جل وعلا (وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله) 
(وإذ أخذنا) أي: واذكروا حين (أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله) (أخذنا ميثاق بني إسرائيل) أي في التوراة المنزلة على موسى عليه السلام، أخذ عليهم الميثاق الذي هو: العهد الشديد، العهد المؤكد، العهد الغليظ الذي هو أعظم العهود وأكبر المواثيق أن يكونوا موحدين لله مخلصين الدين له سبحانه وتعالى.
(وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله) (لا تعبدون) بالخطاب وقرئ (لا يعبدون) بالغيبة، (لا يعبدون الا الله) بالغيبة إخبارا عن الأولين. قال: (وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله) (لا تعبدون) هذا نفي لكن بمعنى النهي ولكنه بمعنى النهي قال (لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحسانا) ذُكر أولا التوحيد الذي هو أعظم الحقوق وأكبر الواجبات، في قوله (لا تعبدون إلا الله) هذا التوحيد، (لا تعبدون إلا الله) وهذا هو معنى لا إله إلا الله، لا إله إلا الله معناها: لا تعبدون إلا الله، أن يُخلص الدين لله (فاعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا) هذا هو المعنى، وأكبر الحقوق وأعظمها (وبالوالدين إحسانا)، (وبالوالدين إحسانا) عطف حق الوالدين على حق الله جل وعلا وهذا يدل على عظم شأن حق الوالدين، وهذا تراه في مواطن كثيرة جدا من القرآن يعطف حق الوالدين على حق الله سبحانه مثل (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا)، (واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا)، (قل تعالوا أتلوا ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا)، (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون أولئك أصحاب الجنة خالدين فيها جزاء بما كانوا يعملون) هذا التوحيد، (ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا حملته أمه كرها) الخ الآية، فتجد في آيات كثيرة أن اشكر لي ولوالديك، آيات كثيرة في القرآن يقرن حق الوالدين بحق الله مما يدل على عظم شأن حق الوالدين وكبره. قال (وبالوالدين إحسانا) أي تحسنون إليهما إحسانا، وأُطلق الإحسان ليعُم كل إحسان مقدور عليه من قولي أو فعلي بكل ما أوتي، هو ميدان منافسة  بين الأبناء مع والديهم يحسنون إليهم إحسانا بما يقدرون عليه من قول أو فعل.
(بالوالدين إحسانا وذي القربى) أي وإحسانا لذي القربى أي قرابة الإنسان وهذا فيه الحث على صلة الرحم، واليتامى بكفالتهم والإنفاق عليهم ورعايتهم وتربيتهم وتعويضهم عن فقد والدهم، والمساكين الذين أسكنهم الفقر، اشتدت بهم الحاجة.
(وقولوا للناس حسنا) أي كلموا الناس بالكلام الطيب والقول المعروف ويدخل في ذلك أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، ودعوتهم إلى الله باللطف في الخطاب واللين في القول والبعد عن الألفاظ السيئة والشتائم وغير ذلك. (وقولوا للناس حُسنا) وفي قراءة (وقولوا للناس حَسَنا) بالفتح على أنه وصف لمصدر محذوف تقديره: قولا حسنا، (قولوا للناس حَسَنا) أي: قولا حسنا.
(وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة) على أي صفة؟ على الصفة التي بينت لهم في التوراة، والله يقول (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا)، (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ثم توليتم إلا قليلا منكم وأنتم معرضون) استثنى قليل منهم لم يحصل منهم هذا التولي، ثبتوا وهذا يتناول من ثبت على الدين قبل أن يبدل ويحرف، بقي عليه ولم يدخل في شيء من التبديل والتحريف، ويشمل من أدرك بعثة النبي عليه الصلاة والسلام وآمن به وصدق بما جاء به.
(ثم توليتم إلا قليلا منكم وأنتم) الواو هنا حالية والحال أنكم معرضون،  يعني بإعراض - سياتي معنا في كلام الشيخ - يعني بعض الناس يحصل منه تولي وعنده خط رجعة لكن هؤلاء تولي وعزم على عدم الرجوع، إعراض تام عن هذا الدين وهذا أبعد الناس عن الهداية ونيلها.
قال الشيخ رحمه الله: «فهذه الشرائع - يعني المذكورات في الآية لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحسانا هذه إلى آخرها - هذه الشرائع من أصول الدين التي أمر الله بها في كل شريعة لاشتمالها على المصالح العامة في كل زمان ومكان فلا يدخلها نسخ كأصل الدين» يعني في كل الشرائع مأمور الناس بقول القول الحسن، مأمورون بالصلاة، الصلاة في كل الشرائع لكن قد تختلف الصفة من من شريعة إلى أخرى (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا) لكن كل الشرائع فيها صلاة، كل الشرائع فيها زكاة، كل الشرائع فيها بر الوالدين، فيها صلة الأرحام، فيها الإحسان لليتيم،  فيها مساعدة الفقير، هذا في كل الشرائع، انظر يعني هنا هذا الميثاق وانظر مثله تماما كالآية في النساء (واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم) هي نفسها هذه كلها في كل الشرائع. فقوله (وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل) هذا من قسوتهم أن كل أمر أُمروا به استعصوا، يعني استعصوا، تأبّوا، تمنّعُوا فلا يقبلونه إلا بالأيمان المغلظة، مر معنا أنهم ما قبِلوا إلا لما رُفع الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم  في السياق هناك (خذوا ما آتينا كم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون)، قال: (وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل) هذا من قسوتهم أن كل أمر أمروا به استعصوا فلا يقبلون إلا بالأيمان الغليظة والعهود الموثقة. 
 (لا تعبدون إلا الله) هذا أمر بعبادة الله وحده ونهي عن الشرك وهذا أصل الدين فلا تُقبل الأعمال كلها إن لم يكن هذا أساسها، فهذا حق الله على عباده. 
ثم قال: (وبالوالدين إحسانا) أي أحسنوا بالوالدين إحسانا وهذا يعم كل إحسان قولي وفعلي مما هو إحسان إليهم ويتضمن أيضا النهي عن الإساءة للوالدين، ويتضمن عدم الإحسان والإساءة لأن الواجب للوالدين الإحسان والأمر بالشيء نهي عن ضده، فقوله أحسِن للوالدين هذا يتضمن النهي عن الإساءة، ويقول الشيخ كلام جميل، يقول: للإحسان ضدان: الإساءة - الذي يسيء إلى والديه هذا بعيد عن الإحسان وهي أعظم جرما- وأيضا يتضمن ترك الإحسان، لا يقوم بأعمال الإحسان لوالديه بدون إساءة، لا يسيء لهما لكن لا يقدم لهم إحسانا وهذا محرم لأنه لم يمتثل أمر الله له بالإحسان لوالديه، لكن لا يجب أن يُلحق بالأول، لا يُجعل مثل الذي يسيء لوالديه، وكذا يقال في صلة الأقارب واليتامى والمساكين في الإحسان إليهم، وتفاصيل الإحسان لا تنحصر بالعدّ بل تكون بالحد - كما تقدم- الإحسان القولي والفعلي يتناول كل إحسان يتهيأ للعبد وهو ميدان منافسة بين الأبناء كلٌ يجتهد في بذل الإحسان لوالديه.
قال: «ثم أمر بالإحسان إلى الناس عموما قال (وقولوا للناس حسنا)» ومن القول الحسن أمرُهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر وتعليمهم العلم وبذل السلام والبشاشة وغير ذلك من كل كلام طيب. قال: «ولما كان الإنسان لا يسع الناس بماله أُمر بأمر يقدر عليه» هذا كلام جميل (إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم) لا يسع الناس بماله لكن يسعهم بخُلقه، بأدبه، بلطفه، بجميل معاملته.
 قال: «ولما كان الإنسان لا يسع الناس بماله أُمر بأمر يقدر على الإحسان إلى كل مخلوق وهو الاحسان بالقول» الاحسان بالقول فيكون في ضمن ذلك النهي عن الكلام القبيح للناس حتى للكافر، الكافر أيضا يقال له القول الحسن ويُلان له الكلام ويُلاطف في الحديث حتى يكون أيضا هذا سبب لهدايته، رأيت لو كان لا يعامله المسلم إلا بغلظة وشدة وجفاء كيف يحب الإسلام؟! وكيف يُقبِل على الدين؟! ولهذا الله في سورة الممتحنة (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين)  أول السورة (لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة) وهنا يقول (لا ينهاكم) هذا لا يتنافى - ننتبه لهذا- هذا لا يتنافى، نعم لا يكون في قلبك مودة له ولا تولي له لكن تقول له حسنا تلاطفه بالقول تكلمه بالكلام الطيب اللطيف تهدي له، باب الهدية للمشرك هذا في الأدب المفرد الإمام البخاري وأورد عن ابن عمرو ذبح شاة قال: أعطيتم جارنا اليهودي؟ قالوا: اليهودي أصلحك الله؟ قال: نعم، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (لا يزال جبريل يوصيني بالجار) يتناول حتى غير المسلم، هذا له منافع له فوائد من ضمنها، من أعظمها أنه يكون فيه تأليف لقلبه لعل الله سبحانه وتعالى يهديه، وهذا مطلوب هداية الناس لهذا الدين وهو لا يتنافى مع البراءة من المشرك، قال: «حتى للكافر» ولهذا قال تعالى (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن) ومن أدب الإنسان، - سبحان الله- انظر قول الله (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن) وتأمل في العنف الذي يحصل أحيانا بين بعض طلبة العلم، والغلطة على بعضهم، والشدة عندما يختلفان في مسألة وينتصر أحدهما للآخر، أحيانا يصل إلى شتم أخيه ورفع الصوت عليه واسماعه الكلام الغليظ يقول لأخيه يا سفيه يا جاهل يا كذا، ينزل عليه بالكلام والله يقول (لا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن)، (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن) هذا أدب يؤدبنا الله سبحانه وتعالى به قال: «ومن أدب الإنسان - هذا من أدب الإنسان - الذي أدبه الله به أن يكون الإنسان نزيها في أقواله وأفعاله غير فاحش ولا بذيء ولا شاتم أو مشاتم ولا مخاصم بل يكون حسن الخلق واسع الحُلم مجاملا لكل أحد - يلاطف الناس يترفق بهم - صبورا على ما يناله من أذى الخلق امتثالا لأمر الله ورجاء لثوابه سبحانه وتعالى، ثم أمرهم بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة لما تقدم أن الصلاة متضمنة للإخلاص للمعبود والزكاة متضمنة للإحسان للعبيد ثم بعد هذا الأمر لكم بهذه الأوامر الحسنة التي إذا نظر إليها البصير العاقل عرف أنها من إحسان الله على عباده أن أمرهم بها وتفضل بها عليهم، وأخذ المواثيق عليكم ثم توليتم على وجه الإعراض (وأنتم معرضون) لأن المتولي قد يتولى وله نية رجوع إلى ما تولى عنه وهؤلاء ليس لهم رغبة ولا رجوع في هذه الأوامر يُستفاد هذا من قوله (وأنتم معرضون)، وقوله (إلا قليلا) هذا استثناء لئلا يُوهم أنهم تولوا كلهم فأخبر أن قليلا منهم عصمهم الله سبحانه وتعالى وثبتهم».
 نفعنا الله أجمعين بما علمنا وزادنا علما وتوفيقا وأصلح لنا شأننا كله وهدانا إليه صراطا مستقيما سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك، اللهم صلِ وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.. جزاكم الله خيرا

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق