الأحد، 11 نوفمبر 2012

تفسير سورة النصر

د.محمد بن عبد العزيز الخضيري



أحمد الله إليكم ، وأصلي وأسلم على الهادي البشير والسراج المنير محمد بن عبد الله وآله وصحبه ومن سار على منهجه واقتفى أثره إلى يوم الدين ، (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا)اليوم موعدنا مع سورة عظيمة ، يحفظها - بحمد الله - أكثر المسلمين ، وهي سورة فيها معاني جليلة ، وحِكم ربانية عظيمة دعونا نتأمل هذه السورة الكريمة ، إنها سورة النصر .
 السورة التي قال العلماء فيها ومنهم حبر الأمة وترجمان القرآن إنها آخر سورة أُنزلت على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وتأملوا إنها آخر سورة أُنزلت وليست آخر آية ، لأن آخر آية موجودة في سورة البقرة يقول الله - عز وجل - (وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ) وهي الآية التي قبل آية الدين ، يعني قبل نهاية السورة بوجهين ، هذه الآية هي آخر آية أُنزلت من القرآن ، وأما السورة التي معنا فهي آخر سورة أنزلت من القرآن .
 والعلماء رحمهم الله كانت لهم عناية تامة فيما أُنزل من كتاب الله - عزّ وجل - ، أول ما نزل ، وآخر ما نزل ، وما نزل في الشتاء وما نزل في الصيف ، وما نزل بمكة ، وما نزل بالمدينة ، وما نزل في الليل وما نزل في النهار ، وما نزل في الحضر ، وما نزل في السفر ، وهذا لم يحصل لكتاب على وجه الأرض منذ خُلق آدم إلى يومنا هذا إلا للقرأن الكريم يقول ابن مسعود - رضي الله تعالى عنه - "والله ما من سورة أُنزلت إلا وأنا أعلم أين أُنزلت ، وما من آية نزلت إلا وأعلم في أي شيء نزلت ولو أن رجلا أعلم مني بشيء من كتاب الله لضربت إليه أكباد الإبل حتى آتيه وأتعلم منه " أو كما قال - رضي الله تعالى عنه وأرضاه - إن هذا يدل على أن الصحابة كانوا معنيين بالقرآن ، مهتمين به وقد جعلوه دستور حياتهم .
 دعونا نقف مع هذه السورة ولكن بعد أن نقرأها ونتلوها :

 
هذه هي سورة النصر ، هذه السورة أُنزلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أوسط أيام التشريق ، أي في اليوم الحادي عشر أو الثاني عشر من شهر ذي الحجة في حجة الوداع التي كانت في العام العاشر ، أُنزلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - فعرف النبي - صلى الله عليه وسلم - بما أُوتي من الحكمة والفهم التام العظيم أن نفسه قد نُعيت إليه ، يعني أن هذا دلالة على أن أجله قد قرُب ، ولذلك لما أُنزلت هذه السورة دعا ابنته فاطمة فقال : يا بنيتي قد نُعيت إليّ نفسي ، فبكت ثم ضحكت ، فسُئلت : لِم بكيتي ؟ ولِم ضحكتي ؟ قالت : بكيت عندما قال نُعيت إليّ نفسي ، قالوا : ولِم ضحكتي ؟ قالت : لأنه قال لي : أبشري فإنك أسرع أهلي لحوقا بي فضحكت .
/ هذه السورة عندما تتأملها تجد أنها تقول لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد فتح الله عليك وجاء الله بالخير إليك وهذا نصر الله سبحانه قد نزل ، وقد دخل الناس في دين الله أفواجا فاستعدّ للقاء الله بكثرة التسبيح والاستغفار فإن الله توّاب رحيم .
 وهاهنا قصة طريفة يحسُن بي أن أذكرها لكم لتعلموا أن فهم القرآن درجات ومراتب . كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب يُدخل أشياخ بدر ويجتمع إليهم ، وكان يُدخل معهم ابن عباس ، وكان ابن عباس شابا صغيرا فكأن بعضهم قد وجد في نفسه ، قالوا كيف يدخل هذا الغلام معنا فنحن أشياخ ولنا أبناء مثله فلم لا يُدخلهم معنا ؟ فأراد عمر أن يُريهم ، قال ابن عباس : فدعاني ذات مرة فعلمت أنه لم يدعني إلا لشيء أراده من هذا الباب . قال : فلما اجتمعوا قال ما تقولون في قول الله - عزّ وجل - (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ*وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا*فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا) ؟
قالوا : أُمرنا في كتاب الله إذا نصرنا الله وفتح علينا أن نستغفره ونتوب إليه أي أن نُكثر من استغفاره وذكره وشكره لما أنعم به علينا . فقال عمر : ما تقول فيها يا ابن عباس ؟ قال : قلت أقول فيها هذا أجل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -كيف يكون أجل رسول الله ؟ يعني إذا فتح الله عليك يا محمد وجاءك نصر الله ودخل الناس في دين الله أفواجا فاستعد للقاء الله فإن أجلك قد دنا وموتك قد قرُب .فقال عمر : والله ما أعلم منها إلا ما تعلم .
 أرأيتم أحبتي الكرام كيف فهم ابن عباس وفهم عمر منها ما لم يفهمه بقية الصحابة - رضوان الله تعالى عليهم - ، وفهم الصحابة الذي فهموه ليس فهما خاطئا بل هو فهم صحيح لكن الذي فهمه ابن عباس وابن عمر أزيد منه وأعظم وأعمق ، ولذلك نحن نقول من فتح الله عليه فتحا ومن نصره الله على عدوه فليشكر نعمة الله بكثرت التسبيح والصلاة ، ولذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - عندما فتح الله عليه مكة صلى ضحى ذلك اليوم - كما في حديث أم هانئ - ثمان ركعات ، صلى ثمان ركعات يُسلّم من كل ركعتين - عليه الصلاة والسلام - وقد سمّى بعض العلماء هذه الركعات ركعات الفتح أو صلاة الشكر ، وثبت ذلك عن عدد من الصحابة كما ثبت عن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - عندما فتح المدائن صلى شكرا لله - سبحانه وتعالى - وهكذا أنت كذلك إذا أنعم الله عليك بنعمة فبادر إلى الصلاة واشكر نعمة الله .
 / يقول الله - عز وجل - (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ) ، إذا جاء نصر الله الذي ينصر به عباده ، عباده الذين ينصرونه فيفعلون ما أمر الله به ويدينون لله بالدين القيّم ، والفتح كفتح مكة ، والفتح المقصود به هنا هو فتح مكة فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما زال يُقارع المشركين ويُقاومهم ويجاهدهم حتى فتح الله عليه في العام الثامن وكان الفتح فتحا عظيما ، لماذا كان فتحا عظيما ؟
لأن العرب كلها قد حطت أنظارها على أهل مكة وقالوا هؤلاء هم قومه ، هؤلاء هم أهله وهم أدرى الناس به فمتى آمنوا به آمنّا به ومتى غلبوا وانتصروا عليه كفانا الله شره فالله - سبحانه وتعالى - نصر رسوله فمن حين أن خرج من المدينة إلى أن رجع إليها لم يكن هناك فرق إلا ثمان سنوات ، الله أكبر هذا هو الانتصار الحقيقي وهذا هو الفتح الأكبر . وهنا أحبّ أن أرفع لبسا قد يقع في أذهانكم ففي سورة تُسمّى سورة الفتح يقول الله - عز وجل - فيها (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا) أتدرون ما هو ذلك الفتح ؟
 إنه صلح الحديبية فذلك الصُلح سماه الله فتحا لأن ذلك الصُلح كان فيه من الخيرات والثمرات والبركات والانتصارات ما لا يعلمه إلا الله ، أتدرون كيف كان ذلك ؟
 لما عقد رسول الله - صلى الله عليه وسلم صلح الحديبية مع أهل مكة وكانت بنود وشروط هذا الصلح جائرة في حقه عليه الصلاة والسلام ومع ذلك قبِل النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنه رأى فيها مصالح لم يرها المشركون بل ولم يرها كثير من أصحابه - رضوان الله عليهم - قبِل النبي - صلى الله عليه وسلم - تلك الشروط وكان من ضمنها ايقاف الحرب بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأهل مكة عشر سنين فعرف النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه خلال هذه المدة سيتفرغ لبقية قبائل العرب وكان أول شيء بدأ به بعد صلح الحديبية أن غزى خيبر ولما غزى خيبر غنِم منها أموالا كثيرة لأنها مدينة يهودية أو دار لليهود فغنم النبي - صلى الله عليه وسلم - منها زروعا وثمارا وأراضي وأموالا كثيرة جدا فتقوى بها - عليه الصلاة والسلام - ولم يلبث المشركون بعد عامين تقريبا إلا وقد نقضوا بنود الصلح فاعتدوا على حلفاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من بني خزاعة فعند ذلك استحقوا الجزاء فغزاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بجيش قوامه عشرة آلآف جندي مسلم فما شعُر أهل مكة إلا ورسول الله قد أطاف بهم من كل جانب فدخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكة ولم يلقَ بها حربا وكانت فتحا فتحا .
 / قال الله - عز وجل - (وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا) لما فُتحت مكة أذعن أهل مكة ثم أسلموا ، فلما أسلموا وهم سادة العرب ، وهم رؤوس الناس جاء العرب كلهم مسلمين ودخلوا في دين الله أفواجا ولذلك كان الفتح في العام الثامن لم يأتِ العام العاشر حتى جاء العرب من كل أنحاء الجزيرة مذعنين مستسلمين ، مسلمين داخلين في دين الله أفواجا أي جماعات إثر جماعات قال الله - عز وجل -(فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا) أي إذا وقع هذا يا محمد وحصل لك ذلك الفتح وذلك النصر ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا فأكثر من التسبيح بحمد الله والاستغفار ولذلك كان النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد نزول السورة يُكثر من التسبيح والاستغفار حتى قالت عائشة - رضي الله تعالى عنها وأرضاها - "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يُكثر أن يقول في ركوعه وسجوده سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي ، قالت يتأول القرآن" يعني يأخذ بما جاء في القرآن فيعمل به في ركوعه وفي سجوده وقد كانت أم سلمة - رضي الله تعالى عنها - تلاحظ بعد نزول هذه السورة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُكثر من التسبيح بحمد ربه فلا يكاد يفتر لسانه عن قوله (سبحان الله وبحمده اللهم اغفر لي ، سبحان الله وبحمده اللهم اغفر لي ) وهكذا ينبغي مني ومنك أن نُكثر من التسبيح بحمد الله والاستغفار لماذا ؟ لأنك إذا سبحّت الله نزهته أي نفيت عنه كل نقص ومشابهة للمخلوقين ، وإذا حمدت الله أثبت له كل كمال سبحانه وتعالى يستحقه ويليق به ، إذاً ، إذا قلت "سبحان الله وبحمده" أثبت له كل كمال وقبل ذلك نفيت عنه كل نقص وهذا غاية التنزيه والتعظيم والحمد والتمام والكمال لله عز وجل .
 ثم جاء من بعد ذلك الاستغفار ، والاستغفار طلب العفو والمغفرة من الله - سبحانه وتعالى - وتعرفون في اللغة العربية يُقال المِغفر وهو شيء يُوضع على رأس المحارب يتقي به المحارب ضربات السيوف والسهام التي يمكن أن تقع على رأسه ، فالمجاهد يضع المِغفر ليتقي بها ضربات السيوف وأنت أيضا تستغفر لتتقي آثار الذنوب فإذا قلت "استغفر الله" أنت تطلب شيئين انتبه لهما : الشيء الأول أنك تطلب من الله - سبحانه وتعالى أن يعفو عنك ويسامحك عن ذلك الذنب ، والشيء الثاني هو أنك تطلب من الله أن يستر هذا الذنب عليك فلا يُؤاخذك به .
 هكذا مشاهدي الكرام نحن بالاستغفار نطلب الأمرين ، والاستغفار نوعان : استغفار كاذب ، واستغفار صادق أما الاستغفار الكاذب فهو ذلك الذي يقوله الإنسان بلسانه وهو مقيم على المعصية لا يُغارد منها شيئا ، وأما الاستغفار الصادق فهو الاستغفار الذي يتراجع فيه الإنسان عن ذنبه ويتوب إلى ربه ، وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول موصيا أصحابه (أيها الناس توبوا إلى الله واستغفروه فإني أتوب إلى الله واستغفره في اليوم مئة مرة) وقال ابن عمر إن كنا لنعُدّ للنبي - صلى الله عليه وسلم في المجلس الواحد يقول سبعين مرة "استغفر الله وأتوب إليه اللهم اغفر لي" أو كما قال - رضي الله عنه وأرضاه .
 إذا لابد لنا من ذلك ولنعلم أن ربنا توّاب أي كثير التوبة على عباده ويفرح بالتوبة من عبده إذا تاب إليه يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - (لله أفرح بتوبة عبده من أحدكم على ناقته في أرض فلاة فأضلها وعليها طعامه وشرابه حتى أيس منها فاستلقى في ظل شجرة ينتظر الموت ثم نام ثم قام فوجدها مربوطة عنده فقام فقال من شدة الفرح : اللهم أنت عبدي وأنا ربك ، أخطأ من شدة الفرح ) هذه أبلغ ما يكون من الفرح عند الناس لأن الرجل قد انتظر الموت وأيس من الحياة فجاءته الحياة ، فالله يفرح بتوبتك أشدّ من فرح هذا الرجل بناقته التي عليها حياته . وهكذا يجب علينا أن نجتهد في التوبة وأن نعلم أن ربنا سبحانه وتعالى يفرح بتوبتنا بل يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل .
 / هذه السورة تضمنت عددا من المعاني :
 الأول : أن لله نصرا ينصر به عباده ، ينصر به من نصره .
 الثاني : أن من أنعم الله عليه بنعمة فليبادر إلى الإكثار من ذكر الله واستغفاره قدر ما يستطيع.
 الثالث : أن من أعظم النِعم التي ينبغي أن يفرح بها المسلم دخول الناس في دين الله أفواجا ، فتلك نعمة عظيمة (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ.
 الرابع : أنه إذا أنعم الله عليك بنعمة فبادر لشكر الله ولا تؤجل أو تؤخر ، صلِ ركعتين أو أربعا أو ستا أو ثمانيا ، حسبما يتسع له وقتك وتقدر عليه ، فتُبشر بالنجاح أو تُبشر بالولد أو تُبشر بالسلامة من المرض ، بادر إلى الصلاة شكرا لله - عز وجل - فإن الصلاة من أعظم ألوان الشكر .
بهذا نصل إلى نهاية حلقتنا على أمل اللقاء بكم في حلقة قادمة والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .

لحفظ الملف الصوتي :





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق