هذه الوقفة الثانية من الجزء الحادي عشر عند قول الله - جل وعلا - :
(أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ*الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ*لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)
هذه "ألا" استفتاحية ، والعرب لها حروف ، مفردات تستفتح بها الكلام ولهذا قال بعض العلماء - من المعاصرين - وهو المراغي - رحمه الله - قال : "إن حمل فواتح السور مما عُرف بالحروف
المقطعة على أنه استفتاح كديدن العرب في كلامها أولى" . والحق أن هذا أجمل ما وقفت عليه في مثل هذه المسألة - والعلم عند الله - .
/ قال أصدق القائلين (أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ) لم يترك الله لأحد أن يُبيّن من هم أولياؤه وإنما أجاب عنها في الآية التي تليها فقال (الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ)
فأهل الإيمان والتقوى هم أولياء الله لكن قطعا أن الناس في الإيمان والتقوى درجات ومحال أن يكونوا بمنزلة واحدة كما هو مُشاهد عيانا لكن قال بعض العلماء : "إن لم يكن الفقهاء العاملون
هم أولياء الله فليس لله ولي" إذا أعلى منازل الأولياء أن يكون هناك علم شرعي في صدر ذلك الرجل أو تلك المرأة ثم يكون هناك عمل بمقتضى ذلك العلم فيجتمع العِلم والعمل ، وأعظم العِلم
العِلم بالله ، فإذا اجتمع هذا في قلب أحد كان حقا من أعظم أولياء الله ، وليس المقصود بالعمل الخالي من التعبّد لأن الناس في هذا على أربعة أحوال :
- رجل عالم لكن ليس له حال تعبدية ، ليس له كثرة عبادة .
- رجل قليل علمه لكن له كثرة عبادة .
- رجل لا عبادة عنده ولا عِلم .
- رجل عنده عبادة وليس عنده علم .
والمقصود من هذا أيا كان ذالكم التقسيم أن الغاية الكبرى التي أعلى منازل الولاية العِلم مع العمل وهي التي حازها النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو أعلم الناس بالشرع
، بالدين كله وهو أعظم الخلق عبادة .
عبادته - صلى الله عليه وسلم - هي السنَن الحق ، وهي المعيار في معرفة أن فلانا
زاد أو قلّ (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ) وحيازة هذا الموئل الكريم مما ينبغي أن تنصرف إليه الهمم ، ومن طرائقه : أن الإنسان
يحرص على أنه ما أن يتلقى عِلما يصنعه ولو مرة حتى يشعر أنه لم يأثم في عِلمه ، يعني إن كان ذالكم العلم مما يوتأتى عمله فاعمل به ولو مرة . كان الإمام أحمد
يكتب المُسند فمرّ على حديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - احتجم وأعطى الحجّام كذا وكذا فذهب واحتجم وأعطى الحجّام حتى لا يكون قد دوّن الحديث وهو لم يعمل .
ويقع هذا - أعاننا الله وإياهم - على خطباء الجمعة أكثر فلو أن الإنسان بيّت أن يقول فضلا ما ، في جمعة ما ، إن استطاع أن يقوم بهذا العمل قبل أن يرقى المنبر كان خيرا له
وأعظم أن يتأثر الناس بما قال .
/ قال الله (أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ)
(لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) مما هو قادم ، (وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ) ولا حزن يعتريهم على ما قد مضى ، وهذا إنما يتأتى ويعظُم عند ساعة الاحتضار لأن الإنسان في ساعة الاحتضار
يكون على يقين أن سينتقل إلى دار أخرى فيخاف من أهوالها ويقع في قلبه ما كان فيه من حياة سلفت ، وأيام مضت ، وزوجة ووالدين ، وأهل وخلان ، فربما صابه شيء
من الحزن فيحتاج إلى ما يُذهب عنه الحزن على ما قد يفوته ويُذهب عنه الخوف مما هو قادم عليه ولن يكون هذا إلا بالله ، وجعل الله الطريق إلى ذلك عن طريق ملائكته
فقول الله - جل وعلا - هنا (لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ) يُحمل على المعنيين ، على الدنيا وعلى الآخرة :
- أما على الدنيا : فيكون في ساعة الاحتضار قال ربنا (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا) فيكون هذا عن طريق الملائكة .
- واما يوم القيامة : فإن دخولهم الجنة كافل بأنهم يعلمون أن الجنة قطعا لا خوف فيها ولا حزَن قال الله عن أوليائه (وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ) .
(الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ) ثم قال (لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ) العلماء يحملون قول الله - جل وعلا - (لَهُمُ الْبُشْرَى) على الرؤيا الصالحة يراها العبد أو تُرى له
لكن ينبغي ألاّ يتكل الإنسان كثيرا على مثل هذا فإن الإنسان لا يُدرى - عياذا بالله - أن يكون ما يراه أو يُرى له نوع من الاستدراج ، وكل أحد أعلم بسريرة نفسه ولا يغرنك
ثناء الناس عليك ، ولا يرهبنك قدح الناس فيك ، فكل أحد أعلم بنفسه ، لكن العاقل يكون مع الناس على حال سواء مما يُلائم حاله فلا يتكلف مفقود ولا يرد موجود ليس في
الإطعام لكن في سائر ما يعتريه ويحرص أن تكون له سريرة مع ربه إذا خلا بربه ، والله يقول (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ) العدل : أن تستوي سريرة الإنسان وعلانيته
والإحسان : أن تكون سريرته أعظم من علانيته ، ولا ريب أن ذلك دونه خرط القتاد ، هذا مُرتقى صعب لكن نعود للآية :
(أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ*الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ*لَهُمُ الْبُشْرَى) قلنا بالإيمان والعمل الصالح ، (فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ) هذا بقول الملائكة
لهم (ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ) ، (لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ) .
/ ثم قال الله : (لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ) كلمات الله تُطلق ويُراد بها أمرين :
- إما ألفاظ المصحف نفسه
- وإما ما قضاه الله - جل وعلا - وقدّره .
فأما ألفاظ المصحف نفسه فأي أحد يقدر أن يبدلها ، يأتي إنسان لا يحفظ القرآن فيقرأه على إنسان فيأتي بآيات من عنده ويجعل هذه قبل هذه ، وهذه بعد هذه . لكن
ليست المقصودة في الآية ، المقصود في الآية : ما قضاهُ الله - جل وعلا - وحكمَه ، هذا المقصود (لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ) ولهذا قال الله - جل وعلا - (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً)
"صدقا" في أخباره ، و "عدلا" في أوامره ونواهيه .
إذا ما معنى (لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ) ؟
يعني أنه قد قضى أمر الله وأنهم مكرمون عند ربهم ، وأنهم لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، هذا
الذي قضاه الله - جل وعلا - لا يمكن لأحد أن يُغيره ولا أن يُبدله ولا أن يأتيه من أي وجه .
/ (لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ) ثم سمّى الله هذا فوزا فقال وهو رب العالمين (ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) وكل أحد ينشد الفوز ، والفوز العظيم في الإيمان به - جل وعلا -
وتقواه والإنسان يعيش بين نفختين :
نفخة مَلَك غير محدد ينفخ فتدب في ذالكم الجسد الروح ، ثم يأتي مَلَك مُعين ، في الأول اسم جنس ، في الثاني مُعين وهو ملك الموت فما نفخه أخوه الملَك من قبل ودبّ في الجسد وانتشر لا يختص بجزء منها يأتي ملك آخر يقبض تلكم النفخة ولذلك تُنزع الروح من الجسد كله لأنه لا يوجد مكان مخصص للروح في الجسد ، ما بين هاتين ، ما بين من ينفخ و من ينزع ، يقبض ، بين من يتولى أمر إخراجها يعيش الإنسان ، فمن النفخة الأولى إلى أن يبلغ لا يجري عليه قلم التكليف ، ومن أن يبلُغ إلى أن يُنزع - تؤخذ الروح - يجري عليه قلم التكليف ، وما الأيام والليالي وطيّهن إلا وعاء لعمل صالح . فإذا قُبض الميّت تُرد روحه وتُخالط الجسد مخالطة غير كاملة فإما أن يقول قدموني ، قدموني ، أو يقول يا ويلاه أين يذهبون بي ، ثم تُعطى الروح للجسد بصورة أكبر فيُجيب الملكين كل بحسب حاله ، ثم تتردد الروح ما بين ومكانها ثم إذا جاءت النفخة الأخرى لإسرافيل تُعاد الروح بالكامل ، هذا الاتصال بين الروح والجسد بعد النفخة الثانية هو الاتصال الكامل والذي بعده إما إلى جنة - جعلنا الله وإياكم من أهلها - وإما إلى نار - أعاذنا الله وإياكم من شرها - فتُنعّم النفس ، هذه النفس ترى ما كان في تلكم الأيام التي ذكرنا زمنيها ، تراه أمام عينيها يوم القيامة قال الله (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ) ثم أعقبها ربنا بقول تطمئن له القلوب قال (وَاللَّهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَادِ) ولولا أن الله أخبرنا بعظيم رأفته وسعة رحمته لهلكنا قبل أن نصِل إليه فالمعوّل كله ، الاتكال كل الاتكال على رحمته مع الإيمان والعمل الصالح .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق