الأحد، 29 يوليو 2012

جـ10 / الوقفة الثالثة / آية السيف


قال الله - جل وعلا -  (فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ)
نتكلم عن الآية من عدة أوجه :
 أولها : قول الله - جل وعلا - ( فَإِذَا انسَلَخَ) الفعل "سلخ" أصل وضعه نزع جلد الحيوان .
 (فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ) اختلف العلماء في ما المقصود بالأشهر الحُرم :
- ذهب الزهري - رحمه الله - على مكانته ، على أن المقصود بها الأشهر الحُرم المعروفة ، وبعضهم قال وهذا قول الزهري أنها بدأت من شوال وتنتهي في مُحرم - شوال ، ذو القعدة ، ذو الحجة ، محرم - . وهذا القول بعيد لأننا إذا قلنا بهذا فمعناه أن الناس كُلفوا بما لم يبلغهم لأن النداء لم يتم إلا في عشر ذي الحجة .
- وجمهور العلماء على أن المقصود بالأشهر الحُرم هنا هي شهور الإمهال التي قال الله فيها (فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ) ليست الأشهر الحُرم المعروفة الثلاثة سرد ذو القعدة وذو الحجة ومحرم وواحد فرد وهو رجب إنما المقصود به هاهنا الأشهر الحُرم العائدة على الأربعة أشهر التي فيها العهد. 
/ قال ربنا (فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ) أي انتهت الأشهُر التي أمهلنا الناس فيها عند عشر ربيع الثاني قال (فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ) هذا إطلاق مُقيد مكانا ، ومُقيد أُناسا، مقيد مكانا بالمسجد الحرام فقول الله (فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ) قيدته آية (وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) فقيدت المكان ، أي مكان إلا المسجد الحرام . وقوله - جل وعلا - (فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ) كأشخاص قيدته السُنّة لا يُقتل امرأة ولا صبي ولا راهب (فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ) ثم بين - جل وعلا - التوبة لهم وأخبر ماذا سيكون إن أعرضوا وقال في خاتمة الآية (فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ) وبهذه الآية احتج أبو بكر - رضي الله عنه - في قتال المرتدين .
هذه الآية هل هي منسوخة أو غير منسوخة ؟ صعب أن يُقال إنها منسوخة وهي آخر ما نزل ، لكن بعض محققي العلماء يقول : إن مثل هذه الآية وأضرابها إنما يُحمل على وضع المسلمين فقول الله - جل وعلا - في القرآن المكي (فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ) (وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا) (فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا) هذا كله محمول على حال المسلمين ، فولي الأمر الذي بيده الشأن أوكله الله - جل وعلا - إليه ينظر ما حال أهل الإسلام ، فإن كان حالهم حال قدرة فيُحكّم آية السيف وإن كان حالهم غير حال القدرة فيُحكّم آيات الصُلح وإن كان حالهم أضعف قد يأتي فيُحكّم ما كان عليه عهد المسلمين في مكة . هذا أكمل وأوفق وأولى بفقه الدين ونصوص الشرع يصبح العمل بالقرآن كله خير من نسخ آية وعمل بأخرى . 
قولنا هذه آية السيف دليل على أن هناك آيات من القرآن سُميت لوحدها ومن أشهرها آية الكرسي وهي أعظم آية كما أن الفاتحة أعظم سورة ، وآية المباهلة وهذه في سورة آل عمران (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ) وكذلك آية الدين وهي قبلها في سورة البقرة وهي أطول آية في القرآن. إذا مرّ معنا الآن : السيف ، والدين ، والمباهلة ، والكرسي . منهن كذلك ما يُعرف بالمجادلة وهي صدر سورة المجادلة وهي قوله - جل وعلا - (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا) هذه الخمس هي أكثر الآيات نعتا في القرآن.
/ أما آية المباهلة : ففيها فضل لفاطمة والحسن والحسين وعلي بن أبي طالب - رضي الله تعالى عنه وأرضاه - وهم أصحاب الكساء .
/ وأما آية الدين : فقد قال بعض العلماء - وهذا من الفقه - إنها أرجى آية في كلام الله ، والذي جعلهم يقولون إن آية الدين هي أرجى آية في القرآن قالوا : إذا كانت هذه الآية الطويلة في القرآن التي لا يبلُغ طولها آية أنزلها الله في حفظ مال المسلم فكيف إذا بحفظ الله للمسلم يوم يحتاج إلى أن يحفظه ربه إذا قام الأشهاد وحُشر العباد وبلغت القلوب الحناجر ، قالوا هذا من أعظم الدلائل على رحمة الله - جل وعلا - بخلقه . 
/ وآية الكرسي : هي أعظم آية في القرآن ، ومن قرأها دُبر كل صلاة مكتوبة لم يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت .
/ وآية المجادلة : لم يرد فيها فضل لكن الله قال فيها (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا) وهذه إمرأة قدِمت للنبي - صلى الله عليه وسلم بعد أن قال لها زوجها وهو كبير في السن حادّ في الطبع - رضي الله عنه - أوس بن الصامت : أنت عليّ كظهر أمي فذهبت تشتكي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحتى يُعلم النبي - صلى الله عليه وسلم - أمته أن الكلام في الدين جليل لم يُجب لأن القرآن ما نزل ليه بالفصل في المسألة إنما قال (لا أراكِ إلا قد حرُمتي عليه) أجراها مجرى الطلاق ، فما زالت هذه المرأة تُلاطف النبي وتقول : يا رسول الله إن لي منه صبية إن ضممتهم إليّ جاعوا وإن ضممتهم إليّ ضاعوا ، لأنه كبير ، طاعن ، وعائشة في كِسر البيت تقول اسمع شيئا ويغيب عني أشياء - يعني من الكلِم - فأنزل الله - جل وعلا - قوله (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ) فلما كانت صادقة في أنها تشتكي إلى الله خلّد الله شأنها وإن لم يذكر اسمها وأجاب عنها نبيه - صلى الله عليه وسلم - أي واجابها نيابة عن رسوله - صلى الله عليه وسلم - . المقصود أن الله لم يكل لأحد أن يُجيبها وقال قوله (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ) والله - جل وعلا - وسع سمعه الأصوات لا تختلف عليه اللغات - جل جلاله - وأنت لو رأيت الناس في يوم عرفة لا تكاد تجد بقعة من الأرض إلا وفيها أخلاط كل هؤلاء حوائجهم تختلف ما يرهبونه يختلف وما يرغبونه يختلف وألسنتهم تختلف لكن ربهم واحد لا رب غيره (وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ) فيدعونه ويلجؤون إليه ، وأسعد الناس بالدعاء من علم أن الله قادر أن يُجيبه، وأسعد الناس بالدعاء من وقع في قلبه الانكسار من عظمة ربه ، وأسعد الناس في الدعاء من كان يفرح أنه يدعو الله . من الناس من يدعو دعاء تخلص ، ومن الناس من يدعو دعاء تعبد يفرح بأن الله - جل جلاله - أكرمه بأنه يُناجيه ، ووالله كونك تدعو ربك هذا توفيق عظيم لكن ينبغي أن يُخلط هذا ويُقرن بانكسار في القلب وثناء على الرب يقول - صلى الله عليه وسلم - (لا أحد أحبّ إليه المدح من الله فلذلك مدح نفسه) فيبدأ المؤمن دعاءه بالثناء على ربه تبارك وتعالى ويُجله - جل وعلا - ويُعظمه ويُثني عليه بما هو أهله ثم بعد ذلك يُصلي على نبيه - صلى الله عليه وسلم - ثم يتخير من الدعاء أعجبه أو ما هو محتاج فقير إليه والمقصود أن الله قال (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا) وهذه قضية أخرى في قضية أن الإنسان يُراقب الله في كل آن وحين فحتى والإنسان يتلفظ بقول أو يتهم أحدا أو يقع منه قول في عِرض أحد فقد لا يسمعه من تُكلم فيه والذين يسمعونه مأمونون أن يصلوا بالكلام إليه لكن ينبغي أن نؤدب أنفسنا على أن يكون خوفنا ووجلنا من ربنا - تبارك وتعالى - لا من كلام الناس .
 ومثل هذه الآيات وغيرها يُرقق القلب في أنه تبيّن لك عظمة ربك ، فالله مستو على عرشه بائن عن خلقه ومع ذلك لا يعزُب عنه مثقال ذرة من خلقه ، ولما أراد لقمان يُبيّن لابنه كيف ينصحه كيف يُحسن مقصده ويُعلمه الخوف من الله قال (يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ) وحبة الخردل لا يُرجح بها ميزان لأنها لا أثر لها (يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ) هذا يجعل الابن يعرف حقا مراقبة الله ، فإذا كتنت حبة من خردل لا تُرجح ميزانا أينما كانت في السموات أو في الأرض أو في صخرة فإن الله يأتِ بها ولا يأتِ بها إلا وقد علِم مكانها لأن هذا من لوازم الإتيان بها (يَأْتِ بِهَا اللَّهُ) ولهذا قال بعدها (إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ) مثل هذا هو المقصود الأعظم من نزول القرآن ، أما ونحن نُفسر فنقو قال البلاغيون ، قال النحويون ، قال المؤرخون ، نستشهد بشوقي ، نذكر أبياتا للمتنبي ، هذه لطائف على هامش القرآن لكن التفسير الحق ، التدبر الحق هو : أن يقع للقرآن أثر في قلبك ، أن يكون للقرآن أثر في قلبك أن تخرج بعد أن تسمع قراءته أو تدبره أو تفسيره وقد تغير حالك ، لا تقول ما أجلّ علم الشيخ ، ما أفقه هذا ، ما أعلم هذا ، هذا غير مقصود ولا ينبغي أن تنصرف همتك إليه لكن الذي ينبغي أن تنصرف إليه الهمة إلى تعظيم وإجلال من أنزل هذا القرآن ، ربك يقول (وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ) ويقول عن أعمالنا وغدونا ورواحنا وألفاظنا وما يكون منا وهذه تذكرها وأنت ذاهب للمسجد قال (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ) ولو أن الإنسان وهو ينقل خطواته إلى المسجد يحتسب هذه الخطوات عند الله ويتلو - ليس هذا تعبدا أو ذكرا لم يرد هذا - لكن الإنسان يستحضر القرآن (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ) فلئن كنت تذهب إلى المسجد فيُكتب لك أجر خطوات إلى المسجد فغيرك أضله الله يخطو إلى حانة ، يخطو إلى بار يجمع نصف عمره مالا ليُنفقه في شهوة محرمة ، وقد يوجد من لا مال له وهو يبحث كيف يُقرض ، كيف يُعطي خوفا من الله ومن قوله (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ) والعلم لا يكاد يجهله أحد لكن العبرة بالعمل ولا عمل إلا بتوفيق من الله ولا توفيق إلا بالانكسار بين يديه . رزقني الله وإياكم تقواه والحمد لله رب العالمين . 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق