هذه الوقفة الثانية من الجزء العاشر :
/ قال ربنا - جلّ ذكره - (وَأَذَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ)
الأذان في اللغة : الإعلام ، فإذا كان مقرونا بالتهديد فهو إنذار (وَأَذَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) كما أن الأُذن يُطلق على الجارحة المعروفة ، وقد جاءت ذكرها في القرآن في سورة التوبة وقد جمع شوقي - رحمه الله - ذكر الأُذن الجارحة والأذان بمعنى الإعلام في بيت واحد ، لما داهم الفرنسيون دمشق بكاها شوقي بقوله :
أنادي جُلق وأبكي رسم من بانوا ** مضت على الرسم أطلال وأزمان
مررت بالمسجد المحزون أسأله ** هل في المصلى أو في المحراب مروان
فلا الأذان أذان في منارته **إذا تعالى ولا الآذان أذان
فهو يقول إن المسجد حُفّ بالنصارى واحتلوه فلا الذي يُنادي باقٍ إذا تعالى ، "ولا الأذان أذان" أي ولا الذي يسمع هو عربي مسلم إنما هو جيش الفرنسيين في دمشق ، وقوله "أنادي جلق " جلق اسم من أسماء دمشق .
وكفائدة لغوية : الجيم والقاف قلما تجتمع في كلمة في اللغة إلا في ثلاث أو أربع يُقال جلق بمعنى دمشق ، ويُقال المنجنيق الآلة المعروفة ، ويُقال جوالق أي أوعية كبيرة ، هذه الثلاث قد يُزاد عليها كلمة أو كلمتين لكن لا توجد كلمة في العربية يكثُر فيها الجيم والقاف إلا هذه كما أن الراء واللام قلما تجتمع في لغة العرب إلا في ثلاث أو أربع كلمات ، هذه كفوائد لغوية .
/ قال الله - جل وعلا - (وَأَذَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ) اختلف العلماء ما المراد بـ"يوم الحجّ الأكبر" : قال عطاء - رحمه الله - : إنه يوم عرفة ، وجمهور العلماء ويدل عليه ما في الصحيح على أن يوم الحجّ الأكبر هو يوم النحر ، لكن اختلفوا لِمَ سُمي يوم النحر بيوم الحجّ الأكبر والأظهر - والعلم عند الله - أن فيه من أعمال الحجّ ما لا يكون في غيره ، ففيه طواف الإفاضة ، ورمي جمرة العقبة ، والحلق أو التقصير ونحر الهدي . وهذه أربعة أعمال جليلة لا تجتمع إلا في يوم الحجّ الأكبر .
(وَأَذَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ)
"أن" الحرف الناسخ المعروف ، ولفظ الجلالة اسمها منصوب ، و "بريء" خبرها
(أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ) "من" حرف جر ، "المشركين" اسم مجرور ، أما "ورسوله" فالـ"الواو" : إما أن تكون استئنافية فيصبح المعنى : ورسوله كذلك بريء من المشركين وإما أن تكون عاطفة للفظ رسول على لفظ الجلالة على محله لا على لفظه ، أي : قبل دخول "أن" عليه ، وهذا معروف في كلام العرب قال امرؤ القيس : " إني وقيار بها لغريب " ، الذي يعنينا هنا أنه لا يمكن أن يُقال : أن الله بريء من المشركين ورسولِه - بالكسر - لأنه يصبح لفظ كفر لأن الله لا يتبرأ من رسوله - صلى الله عليه وسلم - . (وَأَذَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ).
ثم دعاهم الله - جل وعلا - إلى التوبة وأخبر إنهم إن تولوا فإن توليهم ليس بمعجز لله ودعا نبيه أن يبشرهم بالعذاب الأليم قال (وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) والعذاب هنا يُراد به عذابين : عذاب في الدنيا بالقتل والتشريد ، وعذاب في الآخرة هو عذاب النار . والذي حملنا إلى حمل المعنى على هذا أن القرآن لم يُقيده لكن إن قيده القرآن يجب أن تبقى على قيد القرآن مثاله : الله يقول (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجًا * قَيِّمًا لِّيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِن لَّدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا) الكهف فلو جاء أحد وقال الأجر الحسن هنا في الدنيا وفي الآخرة مثلها مثل براءة ، نقول غير صواب لأن الله قال أن لهم أجرا حسنا قال بعدها (مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا) ولا يوجد خلود في الدنيا إنما الخلود في الآخرة ، فقول الله - جل وعلا - (مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا) قيد واضح على أن المقصود هو نعيم الآخرة وجزاء الآخرة ، لكن هنا قال (وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) ولم يحدده فحملناه على الضربين ، على عذاب الدنيا وعلى عذاب الآخرة .
/ ثم قال (إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ) أي إنما قلناه من أن الأربعة الأشهر هي الميقات المحدد قال (إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ) ثم ذكر أنه لا يجوز أن نُخل بالشرط معهم إلا في حالتين : إما أن ينقضوا هم العهد - ينقصوه - ، وإما أن يُظاهروا أحدا علينا ، فإن صنعوا هذين أو أحدهما فليس لهم عندنا عهد .
/ ثم قال الله - جل وعلا - يختم هذه الآية (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) خُتمت هذه الآية بـ (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) حتى يحث المؤمنين على تقوى الله في العهود التي مع غير المؤمنين إذا وقع بيننا وبينهم عهدة ، فذكّرهم الله - جل وعلا - بالتقوى لأن العدل والوفاء بالعهد قيم مطلقة لا تدخلها النسبية ، العدل والوفاء بالعهد هذه قيم مطلقة لا تدخلها النسبية ، ليس لها علاقة بالطرف الآخر ، بالعدل قامت السموات والأرض (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ) فلأجل هذا قال الله - جل وعلا - هنا (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) .
هذا صدر سورة براءة الذي بيّنه النبي - صلى الله عليه وسلم - في خطابه مع أبي بكر ومع علي ، إنما تولى عليٌ ما يتعلق بالعهد والمواثيق ، وتولى أبو بكر وأبو هريرة ومن معهما ممن بعثهم أبو بكر قضية بعث هذا في الناس حتى يكون الناس في جزيرة العرب على بيّنة ، والمؤمن يكون على بيّنة في أمره مع غيره فالله - جل وعلا - يقول (فَقُلْ آذَنتُكُمْ عَلَى سَوَاء) أي على أمر بيّن ، وهذا هو حال المؤمن مع غيره يكون ظاهرا جليا في تعامله . وسيأتي بعد قليل ذكر آية السيف (فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ) وهذه هي الوقفة الثالثة وما يتعلق بها وبأضرابها من الآيات ، أما ما سلف بيانه في الوقفة الأولى والثانية فكنا نتكلم عن صدر هذه السورة المباركة ، سورة براءة وتُسمى أحيانا بسورة الفاضحة لكثرة ما ذكرت من أحوال المنافقين جتى قال بعض الصحابة "خفنا ألاّ تترك أحدا " وهي من آخر ما نزل في القرآن ، ونزل أكثرها بعد العودة من جيش العُسرة ، وجيش العسرة كان في عام تسع من الهجرة ، كان إلى تبوك فلما عاد النبي - صلى الله عليه وسلم - كشف الله له أحوال أهل الإشراك .
وفي السورة نفسها خبر بعض المنافقين لكن قلنا إن الوقت لا يسمح بالحديث عن الجزء كله لكن مما ذكره الله - جلا وعلا- مسجد الضرار ، ومسجد الضرار بناه من بناه إرصادا لحرب الله ورسوله فجاؤا للنبي ليُلبس القداسة على المسجد وقالوا إنا صنعنا مسجدا لليلة المطيرة والرجل البعيد فصلِ فيه فأعتذر الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه على جناح سفر قبل الذهاب إلى تبوك فلما عاد نزل عليه جبريل وأخبره بأمر المسجد (وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا ) فلما قال له ربه (لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا) بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - بعض أصحابه منهم وحشي ومنهم غيره أن يحرقوا المسجد ، فذهبوا إلى المسجد وحرقوه قال ربنا (لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ) وعلى الأرجح أنه مسجد قُباء وجاء في حديث أبي سعيد الخدري أنه المسجد النبوي لكن يمكن توجيه الآية توجيها آخر .
المقصود أن هذا كله وقع بعد عودة النبي - صلى الله عليه وسلم - من غزوة تبوك ووقع كله مذكور في سورة التوبة التي قال عنها عثمان - رضي الله عنه - "إنها من آخر ما نزل" . في اللقاء الثالث - إن شاء الله - سنتدارس آية السيف .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق