الخميس، 26 أبريل 2012

تفسير سورة البقرة من الآية ( 243- 274) من دورة الأترجة

د . محمد بن عبدالله الخضيري




بسم الله الرّحمن الرّحيم، الحمد لله رَبِّ العالمين، وصلَّى الله وسلّم وبَارك على نبيِّنا محمد وعلى آله وصحبه ومن دَعَا بدعوته، واقتفى أثره وسَار على نهجه إلى يوم الدِّين .
نستمر في الحديث عَن الآيات من سورة البقرة، وإن كانَ الحديث عن أحكام الطَّلاق قد مضَى، وتأتي الآيات هنا لتتحدَّث عن أصناف النَّاس، وعن بَني إسرائيل - كما قُلتُ لَكُم- إنَّ بني إسرائيل جُلُّ الحَديث عنهم كان بعد قصّة آدم، وحتى بَدَأ الجزء الثّاني بقوله تعالى: (سَيَقُولُ السُّفَهَاء مِنَ النَّاسِ) ثمّ عادت الآيات مرّة أخرى لتتحدَّث وتُذَّكِر وتُحذِّر مَمَّا وقعوا فيه، فتبدأ قصّة الذِّين خَرجوا من ديارهم وهم أُلُوف،ثُمَّ من نَجَا ومن ثَبَت ونَزَل النَّصر عليه هم قليلٌ من قليل من أولئك القوم ، ثمّ بعد ذلك أيضاً جاءت آية الكُرسي ثمّ بعدها آيات المُحاجّة ومَوقف النَّاس من مسألة البَعث من مُطمئن، ومُترِّدد، ومُنكِر، ثمَّ أيضاً خُتِمت السُّورة كُلَّ السُّورة ببيان أحوال النّاس في المال، بين مُنفقٍ ، ومُرَابٍ، وتَاجِر ، مُنفقٌ لله عزَّ وجل وجَاءت الآيات لتُبيِّن وتُدَّقق وتُحَقِّق في آداب النَّفقة .
وأرجو أن يتَّسِع الوَقت وأن نَمُرَّ على هَذِه، أمَّا مَسائل الرِّبا، ومسائل آيات الدَّين فستكون إن شاء الله في الأسبوع القادم مع صاحب الفضيلة الدُّكتور / أحمد البُريدي سيُتم .
يقول الله عزّ وجل { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (٢٤٣) وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٤٤) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٤٥)} [1] هُنا الآيات مُتَّصِلَة ببعضها، فقَال الله عزّ وجل (أَلَمْ تَرَ إِلَى ) والعَادة أنّه لمّا يُؤمر بنظرٍ عِلميّ لا يتعدَّى بـ" إلى" إلاَّ إذا أُريدَ منه التّأكيد وكأنّه رأيَ العين .
( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ) إمَّا أنَّ المُراد بـ" وَهُمْ أُلُوفٌ " :
· هُم أُلُوف كما قال بعضُ المُفسِّرين أنَّه أربعة آلاف
· ومنهم من قال عَشرة آلاف.
· ومنهم من قال ثلاثين ألف.
لا يَهُمُنَّا العدد، وإن كان الذِّي يَهُمُنّا شيءٌ في اشتقاق العدد فالحَقيقة أنّ العَدد فوق العشرة آلاف، لأنَّه قال (أُلُوف)، أو يَكونُوا مُؤتَلِفِين.
( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذرَ المَوت) سواءٌ كانوا عددهم كبير، والعادة أنَّ الخُروج بهذه الكثرة، أو يكونوا مُتآلفين على أمرٍ معيّن خرَجوُا بهذه الكثرة، لكن كان خُرُوجهم وهدفهُم حذَرَ الموت ، وجاءهم الموت :
· إمَّا على قَولِ كثيرٍ من المُفسِّرين أنّهم جاءهم الطَّاعُون (المرض) فانتشر فيهم المَرَض ومَاتُوا ثُمّ بعد ذلك أحياهُم.
· أو أنَّ الله أَمَاتهم إِماتة بلا مرض، كأنَّ الآية تُرشِد إلى أنَّكم خَرجتم خوفَ الموت فقد جَاءكم المَوت، وخاصّةً أنَّ الآية التّي بعدها، قال الله - عزّ وجل - (وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ)
فهل فرُّوا خوفاً من المرض، أو خوفاً من القتال؟ ظاهر الآية أنّهم فرُّوا من القتال بدلالة السِّياق ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ) أيّ موت ؟ لأنَّ الله عزوجّل قال( وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) فكأنَّ الخوف وقع منهم خشيةَ أن يُقاتلوا، واجتمعوا وخَرَجُوا فَجاءهم ، فأمر الله - عزّ وجل - بهم أن يَمُوتُوا ثمّ أحياهُم، وبَقُوا أيّاماً حتّى أنَّ بعض الرِّوايات الإسرائيلية تقول بَقِيت فيهم ريحة الموت، والنَّتن، لأنَّهم بَقُوا أيّاماً موتى ثُمَّ أُحيُوا فبَقِيَ في أجسادهم، على كُلٍّ هذه روايات إسرائيلية، لا يَهُمُنَّا عددهُم،ولا يَهُمُنَّا كيف ماتُوا، وما هي الرائحة، كُلُّ هذه من روايات بني إسرائيل لا تُصَّدَق ولا تُكَذَّب ، ولَيس فيها طَائِل فائدة من ناحية الجَهل بها، أو العلم بها، الأمر في ذلك يَسَع بِعلمِهَا أو بعدم عِلمها .
يقول الله نعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ) الذِّين أحياهُم {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (٢٤٣) وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٤٤) }وهذه مُقدِّمة لِقصَّة المَلأ من بني إسرائيل،
وفيها تحذيرٌ لأَهل الإيمان أن يَسلُكُوا سُلُوكهم عندما يُفرَض عليهم الجهاد. قال بعدها (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)
وتذكُرُون قلتُ لكم في الحديث، أنّ هناك دائماً ارتباط بين مسائل القتال أو الجِهاد، وبين مسائل النَّفقة المالية، وأتمنى أن يُيَّسِر الله بعض البَاحثين يجمعوا في هذه الآيات ويُدَّقِقُوا فيها، ويُحقِّقُوا في هذه المَسألة لأنَّ هناك مواضع وهي قليلة تقدَّمَ الجِهاد بالنَّفس على المال لكنّها مواضع يسيرة، فتحتاج أيضاً إلى بيان، وإلى جَمع .
قال الله (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا) هُنّا رغَّب في النَّفقة، وبعضُهُم عدَّ أنَّ هذه الآية مُقَدِّمة لآيات الإنفاق، في قوله (مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) التّي أطال الله ـ عز ّوجل ـ وفصَّل فيها آداب النّفقة. ولاحِظُوا سبحان الله مع أنَّها كُلُّها أوامر، وكُلُّ أمرٍ يأتي على شَكل، وأَدب يأتي على شكل، فهُنا جاء بالاستفهام فقال عزّ وجل (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا) والقَرضُ المُعتاد أنّه يُعطَى ليُرَدّ، فإذا كان المُعطَى مَلِيء - سبحانه - ويُثَّمِر هذا العطاء (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا ) فأَمَر الله ـ عزَّ وجل ـ ورغَّب في هذا العطاء بمثل هذا الاستعطاف، وهذا الاستفهام، وأحالَهُ على أنَّه القَرضُ له سبحانه .
(مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا ) والله ـ عزّ َوجل ـ غنيّ عنّا يقول الله ـ عز ّوجل ـ في الحديث القدسي: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : "إن الله تعالى يقول يوم القيامة: يا ابن آدم مرضت فلم تعدني، قال: يا رب! كيف أعودك وأنت رب العالمين؟! قال: أما علمت أن عبدي فلاناً مرض فلم تعده، أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده؟! [2]
إذاً عندما يرضى الله لنا بأن نُقرِض الله ـ عزّ َوجل ـ هذا القَرض الحَسن -وخاصَّةً كما قلت- مع الجِهاد ،وآيات القتال تحتاج إلى مثل هذا المال ولذلك أفضل مصارف المال هو: الجهاد في سبيل الله ، ولذلك قال الله (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً) وقال بعض أهل العلم إنَّ الحسنة بعشر أمثالها إلاّ في الصَّبر وفي النَّفقة لأنَّها إلى سبعمائة ضِعف إلى أضعاف كثيرة، وهذه الأضعاف بعضهم قال بيّنتها قول الله (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) فكأنَّ المضاعفة جمع بين هذه الآية وتلك ، ثمّ بيَّن الله ـ عزَّ وجل ـ أنّه القابض والباسط فقال (وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) فهو القابض، وهو الباسط، والأمر من قبل ومن بعد بيده وإليه تُرجعون.
ثمّ جاءت القِصَّة (أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيل) والمُرَاد بِالمَلأ : هم الأشراف والسَّادة. وسُّمُوا ملأً:
· لأنَّه تَمتلئ الصُّدورُ مهابةً لهم.
· أو أنّهم يتَمَالــؤن على الشَّيء فيُتِّمُوا ما أرادوا.
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيل) ماذا صَنَع هؤلاء الــمَلأ ؟ وهؤلاء جاؤا بِصَريح القُرآن ( مِنْ بَعْدِ مُوسَى) (إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ) أيّ اذكُر ذاك الوقت ، (لِنَبِيٍّ لَهُمُ) وتنكير النّبي هنا يدُل على أنّه أيّ نبيّ ، فلا يعنينا هذا ، (إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) وهُم اعتادوا على أن يُقاتِلُوا مع المُلُوك। فقال لهم وهو يَعرف هذا النَّبي حال بني إسرائيل من التَّردُد والعِصيان، إذا كانُوا ترُّدُوا في البقرة أن يذبَحُوها، فكيف بأَمر الجهاد!!
وهذه تُفَاد منها أيضاً للأُمّة حتى لا يَتردّد مُتردِّد في مثلها، قال الله (قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا) فنحن نقُاتل لله، وكذلك نقاتل لأجل هذه الدِّيار التِّي أُخرِجنا منها، فعندهم من الدَّافع ما هُو لله، وما هُو لإخراجِهم من دُورِهم وبيُوتاتهم (وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ * وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ) قيل سُمِّيَ طالُوت لطُولِهِ ، (طَالُوتَ مَلِكًا) لكن هذا المَلِك الذِّي بُعِث تعجَّبُوا لأنَّهم يعرفُون سُلالة المُلُوك، وأيضاً من ليس عنده مال ، ليس من سُلالتهم التي يعتقدون أنّها فاضلة ـ ولذلك بالمناسبة كُنتُ أقرأ في بَعض الفوائد المُستنبطة حتّى من بعض كُتُب الزَّيدية يرُّدُون على الإثنا عشرية بهذه الآية، يَقولون ليست المسألة وراثة في مسألة تَسَلسُل الإثنا عشرية، مع أنّ الرَّد والاستنباط من الزيدية، وليس من أهل السُّنة في هذه الآية لكن ذكرتُ لكم عَرَضاًـ
(وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ) طبعاً بني إسرائيل مُتعلِّقين بالمال، يعني إمَّا السُلالة التي يعتقدُون فيها، أومَن يكون عنده مال. فبيّن هذه الصفات أن الله اصطفاه ، اصطفاء الله - عز وجل - وزيادته بسطة في العلم - كثرة في العلم - والجسم ( قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ) هذه مؤهلات ، والمؤهلات إذا وُجد المَلِك الذِّي تكُون عنده هذه المُؤهلات من قوةٍ ذهنية وعقلية،وسَلاَمة بدنية، فكأنّة زكّاهُ بهذه التَّزكية ، وبيَّن الله أنّه يؤتِي مُلكَهُ من يشاء ، ومع ذلك أيضاً حتّى يَطمئنُون - لأنّه كما قُلت – يَتعلَّقُون ، وعند بني إسرائيل من العِصيَان، والتَّردُد، والعِناد ولذلك أكثر الأُمم التِّي بُعِث فيها الأنبياء هُم بنو إسرائيل، وكانوا بَعضهم يَفتَخِرون بِذلك قيل : لا ، لأنّكم من أكثر الأمم عصيان، من أكثر الأُمم عِناد فأكثر ما كان يُبعث إليهم . (وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آَيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آَلُ مُوسَى وَآَلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) وقال لهم نبيّهم أيضاً ومع هذا هناك علامة واضحة حتّى تَطمئنّوا إلى صدق هذا الرَّسُول، وهذه العلامة الواضحة ذاك التَّابوت الذِّي يُوضّع فيه شيء من بقيّة ممّا تَركَ آلُ مُوسى، وآلُ هارون ، هذه البَّقية فيها السَّكينة، فكانوا يأتُون بالتّابوت فيه بقيّة من الألواح ، وعلى قول بعض الصّحابة ، وعلى الرِّوايات الإسرائيلية رِيحٌ هَفهافة، أو وجهٌ كوجه الهِرّ له جناحان. على كُلٍّ كُل هذه إسرائيليات لا يَهُمُنّا ، يهُمُنَّا أنَّ الله قال أنّ في هذا التّابوت سكينة من ربِّكم، وفيه أيضا بقيِّة آثار ممّا ترك آلُ موسى وآلُ هارون، تَحمله الملائكة حتّى تُصَّدِقُون(إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) . لمَّا جاءَ لهُم بكُلّ هذه الآيات، وهُو يَشعُر أنَّهُم أَهلُ عِناد، وأَهلُ خصام وتردُّد قال لهم طالوت (فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ) أراد أن يَختبر البقيّة الباقية (قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ) يعني أنَّهم أيضاً مع التَّخلُف السَّابق، تخلَّف أيضاً أولئك الذِّين شَربُوا وكانوا قد عطِشُوا، فأراد أن يختِبرهم بشربة الماء التِّي يشربُون حتّى يعرف أنّ هؤلاء لن يَصبروا على ما سَيأتي من القِتال ، فإن تضَّلَعُوا من هذا الماء وارتووا، جعل هذا علامة على نكُوصِهِم فلما وقع منهم ذلك (فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ) بدؤوا ينكصون قال هؤلاء القلة بثقة وعزيمة (كَمْ مِنْ فِئَةٍ) و" كم " تدُل على الكثرة (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ ) هذا وقع كثير (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ * وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) اُنظُروا البَقيِّة الصَّالحة التِّي صَبَرت، ونجَحت في ذلك الاختبار، طلبوا من الله ـ عز ّوجل ـ وانتَفُوا من حولهم وقوّتهم إلى قُوَّة الله وتَحويل الله فـ(قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) فقال الله - عز وجل - (فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ) وهم قِلّة من قلة، ولكن النّصر مع هذه القلّة، والكثرة الكَاثرة الغُثاء هذا قد لا يُفيد (لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً) [3] فقال الله تعالى ( فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ) وداود عليه السّلام نبيّ ، وكان يُقاتل مع طالُوت، ولمّا برزوا للقتال جالوت رأى نفسه فأخرجوا له داوداً وكأنَّه احتقر داود، فتقاتلا وتبارزا فقتل داود جالوت ، لأنَّ البعض وهو يَقرأ الآيات يقول أين ذهب طالوت. فطالوت هو القَائد، ودَاود معه من المُقَاتِلِين.
ثم قال الله - سبحانه وتعالى - (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ) قانون المُدافعة في مسألة القتال، يعني لولا التَّدافع بين الحَقّ والبَاطل، وكَون الحقّ يَدفَع بهذا القتال (لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ ) ثمّ قال الله ـ عزّ وجل ـ (تِلْكَ آَيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ).
بعد أن ذَكَرَ الله ـ عز ّوجل ـ جُملة مِن قَصَص بني إسرائيل وخاصَّةً قِصَّة مُوسى من قبل، ومن بعدَ موسى من الأنبياء داود وغيره، قال الله ـ عزّ َوجَل ـ : (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ) قد يكون هنا اشكال في مسألة التفضيل ، فالتّفضيل ليسَ في الرِّسالة، وإنَّما في المَزِّيات التِّي مُيَّزَ بها كُلُّ نبيّ، لأنَّ ظاهر القرآن قال الله تعالى (مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ) والتّفضيل بخاصّة لا ينبغي فالمنهج ألا نقول محمّد صلى الله عليه وسلّم أفضل من موسى عليه السَّلام، لكن محمد صلى الله عليه وسلّم سيِّد ولد آدم، نعم ، ولذلك النَّبي - صلى الله عليه وسلّم - نَهَى فقال (لا تُفضِّلوني على موسى) ونَهَى عن تفضيله عن يونس بن متّى بقوله (لا تُفضِّلُوني على بونُس بن متّى) نهى بِالمُعيِّن ، لكن أن نقول نبيّ، وهو أفضل الأنبياء ، وسيّد ولد آدم، نعم ، لكن أن يكون هناك التّعيين، فلا،والله ـ عز ّوجل ـ بيّن أنَّ هذا الفَضل فقال (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ) وضّح هذا التفضيل (مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ ) وبيّن في عيسى عليه السّلام أنه آتاه الله - عز وجل البيّنات وأيده بروح القدس ، قال الله - سبحانه وتعالى -
( وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آَمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (٢٥٣)) وهُنَا نعود إلى مسألة البيِّنات،يعني بعض الأحيان الذِّين يتعلَّمُون العلم لأجل الله ـ عزَّ وجل ـ لا يكون عندهم اختلاف، من صَدَقَ في تَعلُّمه وأَخذِهِ لهذا العِلم لا يَبغي على أَحد، لكن من يأتي لهذا العلم لأجل أن يَبغي ولذلك قال الله (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا) فليست هذه البيّنات سَبباً في الاقتتال، إنَّما السَّبب أنَّ نيَّاتهم فَاسِدة في مجيئهم وأخذهم لهذه البيِّنات، وأخذوا هذه البيِّنات لِيَبغي بعضُهم على بعض. وجاء أيضاً في سورة آل عمران ( ولا تكونوا كالذِّين تفرَّقُوا واختلفُوا من بعد ما جاءهم البيِّنات) تفرَّقُوا واختلفوا لأنَّهم تعلَّمُوا العلم لأجل البَغِي والطُّغيُان، والعلم قد يبغي بالإنسان وقد يَجِد نفسه في ذلك، ولذلك أهل الحَقّ أهل اتّفاق، وأهل البَغي أهل فُرقَةٍ وشِقاق.
جاءت آيات النَّفقة من قبل، ثُمَّ جَاءت هذه الآية مشيرة (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ) أَمرت بالإِنفاق، والبَذل وهذا البذل بعض ما رزَقنا الله ـ عزَّ وجل ـ ، والرَازق هو الله فلماذا يبخَل العبد، يُطلَب منه قليلٌ من قليل، ومن هذا القليل ليس هُو مِنك ومن جُهدك، إنّما هُوَ من رزق الله ـ عزَّ وجل ـ وليُنفِق العبد من قبل أن يأتِيَ يوم لا بيع فيه ولا خُلَّة ولا شفاعة ، ففي ذاك اليوم لا تنفع التّاجر تجارته ، فالإنسان في ذلك إمّا أن يحتاج إلى خَليل أو شَفيع أو تَاجِر، لا يوجد في ذلك اليوم تجارة أولا مال ينقذك ، بعض النَّاس في الدُّنيا إذا أراد أن يَشفع إما أن يَشفع بماله إذا كان تاجر، أو بخليله، أو بشافع يشفع له ، فقَال الله ـ عزَّ وجل ـ اجعلوا هذا المال في ذاك اليوم ينفعكُم .
/ ثمّ تأتي أعظَم آية في القرآن وهي آية الكُرسي ( اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) وهذه الآية كما أخبر بذلك النَّبي - صلى الله عليه وسلم - فقال لأُبي : (أيُّ آيةٍ أعظَمُ في كِتاب الله) فقال أُبيّ ( اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ) فَضَربَ النّبي - صلى الله عليه وسلّم - على صدره وقال: (لِيَهنَكَ العِلم أبا المُنذِر فهذه أعظم آية في كتاب الله) [4] .
ويأتينا مسألة في هذا قد يتعرَّض لها بعضُ أهلُ العلم، وهي هل
معنى هذا أنَّ في كتاب الله فاضِل ومفضُول في القرآن الكريم، وهو كلام الله كُلِّه ؟ كلام الله كُلُّه فاضل فالله - عز وجل - أخبر بهذا الكلام لكن المُخبر عنه أن يُخبر مرة عنه كما في سورة الإخلاص فلا تستوي مع آية الدَّين فِي المخبر عنه والفَضل ، هل تستوي أعظم آية في صفات الله، وفي بيان كماله، وجلاله مع آية (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ) ؟ لا تستوي ، إذاً القضية في الفضل في المُخبَر عنه فهذه أخبرت عن أبي لهب، وتلك أخبرت عن صفات الله ـ عزّ وجل ـ، هذا التّفاضل من هذا الباب .
وممَّا جَاءَ في فضل آية الكرسي القِصَّة الثَّابتة رواها الإمام البخاري في صحيحه : عن أبي هريرة قال: (وَكَّلَنِي رسول الله بحفظ زكاة رمضان، فأتاني آتٍ فجعل يحثو من الطعام، فأخذته وقلت: والله لأرفعنك إلى رسول الله ، قال: إني محتاج وعليَّ عيالٌ ولي حاجةٌ شديدة، قال: فخليت عنه، فأصبحت فقال النبي : يا أبا هريرة ما فعل أسيرك البارحة؟ قال: قلت: يا رسول الله! شكا حاجةً شديدة وعيالاً فرحمته فخليت سبيله، قال: أما إنه قد كذبك وسيعود، فعرفت أنه سيعود لقول رسول الله : إنه سيعود. فرصدته فجاء يحثو من الطعام فأخذته فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله ، قال: دعني فإني محتاج وعلي عيالٌ ولن أعود، فرحمته فخليت سبيله، فأصبحت، فقال لي رسول الله : يا أبا هريرة ما فعل أسيرك؟ قلت: يا رسول الله! شكا حاجةً شديدةً وعيالاً فرحمته فخليت سبيله، قال: أما إنه قد كذبك وسيعود. فرصدته الثالثة فجاء يحثو من الطعام، فأخذته فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله ، فهذه ثلاث مرات تزعم أنك لا تعود ثم تعود، قال: دعني وسوف أعلمك كلماتٍ ينفعك الله بها، قلت: ما هي؟ قال: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي – (اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّاهُوَ الْحَيُّ الْقَيُّوم ) (البقرة:255) حتى تختم الآية، فإنه لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربنك شيطانٌ حتى تصبح؛ فخليت سبيله. فأصبحت، فقال لي رسول الله : ما فعل أسيرك البارحة؟ قلت: يا رسول الله! زعم أنه يعلمني كلماتٍ ينفعني الله بها، فخليت سبيله، قال: وما هي؟ قلت: قال لي: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم الآية: - (اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّوم) (البقرة:255)- وقال لي: لن يزال عليك من الله حافظ ولا يقربك شيطانٌ حتى تصبح -وكانوا أحرص شيءٍ على الخير- فقال النبي : أما إنَّه قد صدقك وهو كذوب، أتعلم من تُخاطِب منذ ثلاث ليالٍ يا أبا هريرة ؟ قال: لا. قال: ذاك الشيطان). هذا الحديث أخرجه البخاري تعالى في كتاب: الوكالة، باب: إذا وكل الموكل رجلاً فترك الوكيل شيئاً فأجازه الموكل فهو جائز، ورواه كذلك في كتاب: فضائل القرآن من صحيحه.
يعني أنَّها فعلاً مَن قَرَأَهَا - ولكن يقرأها ويتأَمَل فيها (اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ) أنت تستعين بالله - عزّ وجل - ثمّ تقول (الْحَيُّ الْقَيُّومُ) الحَيّ كاملُ الحياة، وكامل القيُّومية ، فما دام أنَّه حَيّ وقيّوم فهو قائمٌ عليك وعلى غيرك ، (لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ) السِّنة : النُّعاس (لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) فاللام لام المُلكية، فله المُلكية والشفاعة ليست إلا بإذنه - سبحانه - (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) ، (يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ) كلُّها تعظيم لله - عزّ وجل - في صفاته وفي ذَاتِه، وفي مُلكِهِ، وفي شَفاعته، ولهذا عظَمتها جاءت من هذا التّعظيم لله ، قُلهَا وأنت تشعُر بهذه العظمة في هذه الآية .
(يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ) والمُـراد بالكُرسيّ هنا– كما فسَّرها فيما صحَّ عن ابن عبّاس يُرفَع إلى النّبي - صلى الله عليه وسلّم – لكن في سنده ضَعف وصح عن ابن عباس أنّه قال : الكُرسيّ: موضع القدمين لله - سبحانه وتعالى - (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) (وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا) وأنت تقرأها حتّى تُحفَظ، تأمَّل في هذه الآية، وقُلهَا وأنت تُوقِن بأنّ الله حافِظُك (وَلَا يَئُودُهُ) ولا يُكرِثُهُ، ولا يُعجزهُ - سبحانه وتعالى - أن يحفظك
(وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) . / (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ*اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ*أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) / يقول الله ـ عزَّ وجل ـ ((لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)
(لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) والآية التّي بعدها تُوضِّحُهَا (قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) قد جاء في سبب نُزولها أنَّ بعض أَبناء الأنصار، قد تهَّوَدُوا، بل قَد سَعى بهم آباءُهُم فهَّوَدُوهُم، ثمّ لمَّا جاء الإسلام وأَسلمُوا بَقُوا هؤلاء على دين اليَّهودية، فأرادوا أن يُكرهُوهم على الإسلام، فنزلت هذه الآية [5] (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) ويبقى أنَّ مَن آمنَ، ومن كَفَر فإمَّا أَن يُعطِي الجزية، وإمَّا أن يُقَاتَل .
(لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ) فهذا يدلكم على الرد على من يزعُم على أنَّ في دين الله ـ عز ّوجل ـ إكراه، لأنَّ الله قال (قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) فلا حاجة لهذا الإكراه، ولا حاجة لمن يُكرَه، ويُقبِل على هَذا الدِّين وهُو غَير مُقتنِع به قناعةً من نفسه .
(لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) ثم قال تعالى
(فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ) والطّاغوت: من الطُّغيان ، كُل من تجاوز الحد من الطغيان ، وكل مَتبوعٍ، أو معبودٍ و مُطَاع وهو راضٍ فهُو فمن الطّواغيت سواء كما قيل هو السَّاحر أو غيره من الطَّواغيت التِّي تُنَّصِّبُ نفسها (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) . / ثمّ قال الله ـ عز ّوجل ـ (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آَمَنُوا) هَذه الولاية من الله - سبحانه وتعالى - بسبب هذا الكُفر بالطَّاغوت والاستمساك بالعُروةِ الوُثقى قال - سبحانه وتعالى - (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آَمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ) ولاحظُوا قال "ظُلُمات، ونور" يُخرِجُهُم من ظُلُمَات الشَّك، والحَيرة عدد من الظُّلمات، ولكنّ النُّور واحد (يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ) ، وأمّا أولئك – عياذاً بالله -وهم أولياؤهم الشياطين (يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ) من نور الفطرة إلى الظُلمات ، إلى الحيرة ، إلى الشّك (أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) . / ثمّ جَاءت بَعد ذلك آيات المُحاجَّة ، والعَجيب في القرآن أن آيات المُحاجة في الغالب ليست كالجِدال، المُحاجَّة في الغالب أنّها تدعو للغَلَبة بغير حقّ، ولذلك لو تَأمَّلتم في آيات المُحَاجّة فإنّها تختلف عن آيات المجادَلة، ولذلك حين تقول أريد أن أُحاجّ فلان الصّواب أن تقول أريد أن أجادل فلان، وأمّا المحاجة كأنك تُريد الغَلبَة بِحُجّتك فقط، ولا تُريد للآخر أن ينتفع، ولذلك لو رجعنا لكثير من آيات المُحاجّة لوَجدناها في ذلك .
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ) يعني أن هذا لمَّا أُوتِي هذا المُلك، جَعله هذا المُلك يَطغى ويَتجبّر، فقال له إبراهيم وهو يسأله عن ربّه، قال له: من ربُّك؟ قال إبراهيم: (ربِّيَ الذِّي يُحيي ويُميت) فالمغالطة من هذا الطَّاغِية ومن هذا المُحاجّ أَن جاء بأحدهم قد حُكِم عليه بالموت فعَفا عنه، و جاء بالآخر وقتله ، فقال: أنا قتلت وأحييت ، فَتَرك إبراهيم هذه الحُجّة، وجاء له بهذه الحجة (قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ) والبَهت يدُلّ على المُفاجئة وأنّه لم يستطع أن يُحاجَّ الحُجَّة الحقيقية (فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ ) ، ثمّ أخبر الله - سبحانه وتعالى - بأنه لا يهدي القوم الظالمين ( والله لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) أنَّ هذا الظّالم لنفسه ولغيره لا يُهدى ، والله لا يُصلِح عمل المفسدين.
/ ثم قال - سبحانه وتعالى - في المتردد (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ) هذا مُنكر لله - عز وجل - (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ) والقرية قد تَكرر ذِكرها في القرآن ، أكثر من لفظ المَدينة، والقرية المراد بها القرّ وليس كالمصطلح الموجود عندنا اليوم وهو المكان الذِّي يجتمع فيه عدد قليل من النّاس، كقول : مكّة أمُّ القُرى، (وتلك القُرى) فيَرِد القُرَى بمعنى المكان الذِّي يَقِرُّ ويَكثُر فيه النَّاس ، (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا) كيف يحيي الله هذه بعد موتها (فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ) فَجَعلَ له دليل من طَعامه ومن حماره
(قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آَيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا) (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ ) بعضهُم قال أنّه نبيّ، والصَّحيح أنّه ليس بنبيّ لأنّه قال (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قال قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) . وإبراهيم ـ عليه السّلام ـ أيضاً عندما سأل عن الكيفية لم يكُن شاكّاً، بل يُريد أن يرى الكيفية، لأنّ بعض النّاس يخطُر في باله خلاف ذلك ( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) أريد أن أرى الكيفية فقال الله ـ عز ّوجل ـ له (قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ) اجمعهن إليك ثم قطع هذه الطير واخلطها (ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا) اجعلها على أماكن مُرتفعة حتى ترى أنت وغيرك كيف أن هذا الطِّير يُجمع (ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) كما قُلتُ لكم سابقاً أنّها جاءت آياتُ النّفقة، مُفرَّقة :
· في قوله تعالى
(مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا) · وفي قوله تعالى ( مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ )
ثمّ جاءت مُفصَّلة، وقلت أنّ هذه أمثلة عن أحوال النَّاس في المال، وضرب الله ـ عز ّوجل ـ أمثلة وبيّن جُملة من الآداب في أمر المال.
فقال الله ـ عز ّوجل ـ ترغيباً في النّفقة (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) والمَثل عندما يُضرَب يُراد به استحضار الصُّورة فالله - عز وجل - قال (كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ) في المثل هذا هُناك حبّة، وهُناك باذل والمال مُنِفق، ومُنفَق منه ، فقال الله ـ عزّ وجل ـ (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) في سبيل الله قد يَنصرف إلى الجهاد، وبالمناسبة بالنسبة لقوله (فِي سَبِيلِ اللَّهِ) الله ـ عز ّوجل ـ قال في سورة أخرى (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) [6] ذهب كثير من المُتقدِّمين إلى أنّ المراد في سبيل الله الجهاد وبعض الفقهاء المعاصرين كثير منهم مالُوا إلى الجهاد وغيره، وكُلُّ ما أعان على سبيل الله من جهاد الكلمة، وجهاد الكُفّار، بل لقد رأيت الحقيقة فتوى جميلة لمُجمّع الفقه الإسلامي في إحدى دوراته، تحدَّثُوا عن هذه المسألة واختلف أهل العلم المُعاصرين أيضا في هذه المسألة ، الشيخ ابن باز،وابن عثيمين وبعض المشايخ رأوا أنّ في سبيل الله في الجهاد ، وخالف في ذلك الشيخ ابن جبرين وغيره من الفقهاء المعاصرين وعلَّلوا هذا الخلاف أنّ في سبيل الله أمره واسع تكون في جهاد الكلمة وفي غيره كتعليم العلم ، وتحفيظ القرآن ، فكُلّ ما كان في سبيل الله واسع .
لكنهم عللوه تعليل جميل ، قالوا: إنّ الجهاد اليوم أصبحت تقوم به الدُّوَل على شكل وزارات، ويُنفَق عليه، لكن جهاد الكَلمة لا أحد يُنفَق عليه، وإن كان هناك نفقة لكنّها لا تكفي ما يحتاج النّاس عليه، ولذلك ما دام أن هذا المصرف – الجانب العسكري- قد تكفّلت به الدّوَل فيُصرف هذا المصرف في سبيل الله في جهاد الكلمة، وتعليم النّاس ، والدَّعوة إلى ـ عزّ َوجل ـ وفي تحفيظ القرآن وغيرها من المَصارِف
لكن هنا في الآية (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) فبلا شَكّ لو قيل لنا دفع المال للجهاد أو لغيره؟ الآية أصبحت منطوقة ، ولو تأملتم في كثير من الآيات أكثر من أربعين آية جاءت ، نصت على أنّ المراد بـ( فِي سَبِيلِ اللَّهِ) القتال، ولكن لهذا التّعليل، ولهذا التّوجيه يُصبح فعلاً باب الجهاد في هذا العصر يمكن أن يُنقَل أكثر هذا المصرف إلى المجالات الأخرى في سبيل الله من جهاد الكلمة وجهاد الفكر ولعلّه أقوى اليوم ، والمجال فيه أرحب وقد يكون ذاك المجال قد أُغلِق فيه كثير من أبوابه .
(الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى) قال أهل التفسير :
قال (ثُمَّ لا يُتبِعُون) ولم يَقُل "ولا يُتِبِعُون" ، "ثُمَّ" تدُل على أنّه لا في القريب ولا في المستقبل لا يَمنُّون، فأجمل صفة بعد أن ذكر الله المثل مثّل بالنفقة كمثل حبّة أنبتت سبع سنابل، بعد ذلك أثنى على أعلى صِنف وهم الذِّين يُنفقون أموالهم في سبيل الله، ثمّ لا في العاجل ولا في الآجل لا يُتبعون هذا المُنفق منّاً ولا أذى ، والمنّ أيضاً قد يكون منّ قلبي، ومنّ لساني. وبعضهم قال أنّ المنّ ما كان بالقلب، والأذى ما كان باللسان.
( ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُواُ مَنًّا وَلاَ أَذًى) قال الله ـ عز ّوجل ـ (لَّهُمْ أَجْرُهُمْ) الآية الثانية تُشبهها, زادت (فلهم) فلماذا؟
يقول ابن القيّم : [7] لمّا قال هنا (لهم) مباشرة كأنّهم لمّا اتصفوا بهذه الصفات لا مِنّة قبلية ولا منّة بعدية ولا أذى قَبلي ولا أذى بعدي, بأنّ الله وصفهم ،كأنّ الخصوص لهم كأنّهم أخذوا هذا الأجر واستحقّوه بخلاف الآخرين الذين ينفقون بالليل والنهار شَرطُهم إذا فعلوا ذلك (فلهم) وأيّهم أبلغ؟ الذِّي بدون الفاء (لهم)
كأنّه مختصٌ لهم, هذا خصوصاً لهم . (الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُواُ مَنًّا وَلاَ أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ) لا خَوف، ولا حُزن, لا خوف لا في الدنيا ولا في الآخرة, لا خوف عليهم من الفقر، ولا هم يحزنون أيضاً على هذا المُنفَق, وأيضاً الجزاء هناك أنَّهم لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
ثم قال الله ـ عز وجل ـ في الآداب : يعني أعطانا صُورة المَثل - مَثَل الإنفاق - حتّى يرغبّنا فيه مَثَل حيّ كأنَّك تُشاهده, ثم قال الذين يتصفّون بهذه الصِّفات في سبيل الله وليس للنَّاس، ولا يُتبِعون ما أنفقوا منّاً ولا أذى (لَّهُمْ أَجْرُهُمْ) ، ثُمَّ قال: (قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ) وهنا مُلاحظة (قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَآ أَذًى) بدأ في التفصيل في الآداب :
(قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ) يعني لو أنَّ قائلاً قال أنا الآن بين أنَّي أُنفق المَقُول أو أُنفِق المَال؟ يعني بعض الناس قد يُعدَم أو يقلّ عنده العَطاء الأخلاقي وعادَته يُعطي لكنَّه مَنّان مُؤذي, إذا جاءه الفقير قال أعطيناك، وأنت لا تشبع، ثم أهانه، ثم أعطاه أو لم يُعطِه, فقال الله ـ عز وجل ـ (قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ) لكن ما الذِّي جاء بكلمة المغفرة هنا؟ (قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ) والمعروف يعني الكلام السَّمح, بعض الأحيان يتكلم عليك الفقير كلام, فقال الله ـ عزَّ وجل ـ (قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ) سواء حتى لو مَنعته أنت ليس عندك شي, ولذلك أنا كنت أجمع جملة من الآيات
فوجدت فيه ترابط يا إخوان بين (القَول والعَطَـاء) في كلِ عطاء: · (وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُواْ الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا) [8]
· (وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا) [9] · (وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاء رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُورًا) [10] ليس لديك شيء،ليس لديك مال (وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا) أَنت تُنفِق على هؤلاء الأيتام جعلته لهم ولم تجعله لنفسك بل لهم، ومع ذلك تقول لهم قولاً معروفا, حتى أولادك يريدون شيْ وقصرّت, تُعطيهم من هذا المَال وقد أَعطيتهم قليلاً ومع ذلك تقول لهم القول المعروف في قوله تعالى: (وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا) إذا هناك ترابُط بين العَطَاء المادي، والعَطاء الأخلاقي لكن
لو تعارضت؟ نقول القول أفضل (قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَآ أَذًى) فانتبِهُوا لمسألة الأذى .
هؤلاء الذين يُؤذون بكلامهم ،هناك الذين يُؤذون بالرِّياء يُبطلون أيضاً الأعمال وهذا يدُّلُك بعض الأحيان أنّ بعض الأعمال الحسنة قد تبطل ببعض الأعمال السيئة, قال الله : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ) هو يُنفق لكنَّه يُخبِر النَّاس أَعطيت فلان، وفعلت لفلان فيُؤذيهم, وكما قلت لكم
بعض العلماء فرَّقوا بين المنّ والأذى: · فقالوا المَنّ هو أنّك تَمُنّ أمامه.
· والأَذى هو أنّك تُؤذيه في ظهره
(لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ). فهُنا يَضربُ مثلاً للذِّين يُنفقون لكن لا تنفع هذه النَّفقة عكس ذاك المثل, تلك (كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ) لكن هذا كَصفوان, تِلك الصَّفَاة التِّي عليها تراب فيظُنُّه الظَانّ أنَّ هذا التُراب يَنفع , فقال الله ـ عز وجل ـ (فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ) يعني مع أنّ التراب هذا لا يَبقى فيه شي، لكنّه كأنّه في الظاهر مُنفق, لكن (فأصابه وابل فَتَرَكَهُ صَلْدًا لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ) ولذلك هنا هذا من الخذلان ـ عياذاً بالله ـ إذا يقول الله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ) فهذا المثل فيه تنفير، وذاك المثل فيه ترغيب .
ثم قال الله أيضاً وهو يُمثِّل للمؤمنين, المثل السابق عام لكن هنا قال في صفات المُؤمنين المُنفقين قال الله سبحانه: (وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ) مثل جميل تأمّلوا فيه (وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ) جمعُوا بين ماذا ؟ الإنسان ما الذِّي يُقعده أحياناً ؟
· إمّا ضَعف تذّكُر الأجر.
· وإمّا ضَعف نفسه.
· أو كِلاهُما
لكن هذا فيه من الطِيبة (وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ) يعني هم يُخلِصُون لله ـ عز وجل ـ ونفُوسُهُم طَيِّبة بالنَّفقة , كُلما أراد أن يُخرِج عشرة تقول له نفسه أخرِج عشرين, نفس طيِّبة، وليست بنفس خبيثة (إنَّ النَّفس لأمَّارة بالسُّوء) لكن هذه نفسٌ مطمئنة مُصدِّقة بموعود الله ـ عز وجل ـ ولذلك نفسه مثبّتة
هذا مثل ماذا؟ هذا كمَثَل كجنَّة بربوة, الجنَّة زينة كيف لو كانت في ربوة ؟!! (أَصَابَهَا وَابِلٌ) يعني الجنة عندما تكون في ربوة يكون هواءَها نَقيّ والشَّمس تأتيها من جميع الجهات ومرتفعة باردة (كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ) مطر كثير (فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ) لاحظوا القوة ابتغاء مرضاة الله وتثبيتاً من أنفسهم, (فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ) يعني إن ضَعُفَت بعض الجوانب التّي عندها فطلّ (وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) . ثم خَتمت الآيات أو جاءت الآيات أيضاً بمَثَل مُخيف, وهو أيضاً له صلة بالنفقة (أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ) [11] انظروا لهذا المثل, عمر ـ رضي الله عنه ـ جمع الصحابة وقال لهم ما ترون في هذا المَثَل؟ فقال ابن عباس واستأذن بعد أن سكت الصحابة, فقال أقول يا أمير المؤمنين, قال قُل , فقال هذا مثل ضربه الله ـ عزَّو جل ـ لِرجل عمل بالصَّالحات لكن خُتم له عياذاً بالله بالخاتمة السيئة .
ولاحظوا هذا الذي ضَرب الله ـ عز وجل ـ أيودّ أصلاً ما يُحب, كيف بالودّ؟ الودّ أشدّ من الحب (أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ) تمثيل، أيتمنّى أحدكم (تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ) طبعاً لماذا النَّخيل والأعناب؟ لأنّهما هُما أبرز الثِّمار التّي كانت موجودة في الجزيرة. وأيضاً فيها من كل الثمرات وتجري من تحتها الأنهار, هذه في غاية الحُسن, أيودُّ أحدكم أن تكون له جَنَّة بهذه المثابة ولكن لاحِظُوا أنَّ عنده هذه الجنَّة التي فيها كل ما يُريده الإنسان (وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ) طبعاً لمَّا أصابه الكِبَر،وليس فقط الكِبَر ولكن (وله ذُرِّية ضُعفاء) لا يقومون هم بأنفسهم ولكن يحتاجُون لمن يقوم عليهم (وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاء فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ) يعني أَحوج ما يكون للجنّة, ولذلك الإنسان - عياذاً بالله - قد يُختم له بخاتمة سوء, وقد يعمل أعمال في الظَّاهر عند الناس أنّها لله ـ سبحانه وتعالى ـ لكن لأنّه لم يبتغِ بها وجه الله . ولذلك الإنسان دائماً يسأل لله حسن الخِتام, هذا مَثَل ضُرب لِحُسنِ الخِتَام يعني لمَّا أراد يُختم خُتم له بهذه الخَاتمة ـ عياذاً بالله ـ (فَأَصَابَهَا إِعْصَار فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ) ولذلك كان بعض السَّلف إذا قرأَ الأمثال ولم يعقلها بكى، وقال إنَّ الله ـ عز وجل ـ يقول: (وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ) [12] لو كُنتُ من العَالِمين لعَقِلت!! [13] فهذا المَثَل ينبغي أن يكون حاضِر في أذهاننا, وأن الإنسان يعيش بين الرجاء والخوف, ويغلّب جانب الخوف في حال الصحة, ولا يغرُّه كثرةُ المَادحين ولا يغرُّه بعض ما يفعله من الصَّالحات إن كان لا يريد بها وجه الله ـ ـ لأنّ هذا الذي عَمِل لم يكن مُخلصاً لله .
ثم قال الله - عز وجل - بعد أن بيّن الأمثلة وبيّن نُوع المُنفَق, الآن تكلّمنا عن النفقة وأجرها, قال الله ـ عزَّ وجل ـ مُتحِدِّثاً سبحانه عن المُنفَق منه (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ) أنفقوا من الطيِّب (وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ) طبعاً كأنَّ الآية تحدثَّت عن الزَّرع وعن التِّجارة, فأين المَاشية إذاً؟
الغالب طبعاً في أهل مكة والأنصار أنّهم كانوا إمّا زُرَّاعاً وهم الأنصار ، وإمّا تُجار وهم أهل مكة المهاجرين هذا الغالب,وأهل الماشية قليل . قال الله : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ) التيَّمم معناه القَصد (وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ) تأخذون فقط من هذا الخبيث؟ لا بل (ولا تيمّموا ) تَقصِدُوه يعني لو ما قصدت وما علمت عنه هذا سهل, لكن هذا المال الذِّي عندك تجمع الخبيث ثم تقصِد تأخذ منه! (ولاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ) قال الله ـ سبحانه وتعالى ـ : (وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ) لوأنّك مكان هذا الفقيرهل ستأخذه؟ (وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ) إذا كنت مضّطر قد تأخذه لكن على إغماض فيه, بعضُنا إذا أراد أن يتبرَّع بملابس أو غيره، يتبرَّع بشيء حتى أنّه لا يُقبل, يعني يتبرَّع بأشياء من المأكول، والمشروب, فإذا الطَّعام أوشك على الانتهاء أو انتهى, أو المَلبوس قرَّب من التلف، تعمَّد جمِّعوا هذا، جمِّعُوا الشين - حتى يُصَرِّح به الشِّين- أعطونا نتصدق به !! (ولاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ) وطبعاً هذا مُشكل إذا كان الزكاة (وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ و َلَسْتُم بِآخِذِيهِ) أنتم لن تأخذوه ولو احتجتم, لكن لو احتجتم (وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) غنيّ هذا مُناسِب، ولذلك الله ـ عز وجل ـ يُؤكدّ بهاتين الصفتين أنّه يَحمد لمن التزم ولم يُنفِق هذا الرديء .
(الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْر) كثير من الناس فعلاً ممّا يُثبِطّه في النَّفقة أنَّ الشيطان يُخوِّفه بالفقر يقول ستفتقر, مع أنَّ الرِّزق في السَّماء (وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ فَوَرَبِّ السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ) [14] الأعرابي جاء للنبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ وسمع هذه الآية تُقرأ فأخذ ناقته وذبَحها, ثم جاء في العام القادم فسمع النبي يقرأ (فَوَرَبِّ السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ) فقال الأعرابي من أَغضَب الإله حتى حلف؟! يقول مُصدِّقين ياربّ، أنا ذبحت ناقتي ومصدق
(فَوَرَبِّ السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ). (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْر وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء) والفَحشاء هنا البُخل, الصَّحيح أنّه البخل, والبخل داء, وينبغي لأهل الصَّلاح والخَير أن يتخلَّصُوا منه ويَحذرُوا منه كل الحُذر. (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء وَاللّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً) النبيّ لمّا أراد أن يُؤمِّر، فشاوروا النّبي صلى الله عليه وسلّم، هل نُؤمّر فلان أو فلان؟ لكن فلان شُجاع لكنّه بخيل, قبل أن يسمع الآخر قال: أوَّه، قال وهل هُناك داء أدوى من البُّخل لا يصلح أن يكونَ أميراً- أمير وبخيل لا تأتي. قال: أمِّرُوا فلان قبل أن يَسمع صفات الآخر ولو أنّه شجاع.
ولذلك سمّاه فحشاء (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء وَاللّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً) وفضلُ الله واسع, مغفرة ذنوب، وفَضل من المَال.
{الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء وَاللّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (268) يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ (269) وَمَا أَنفَقْتُم مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُم مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ اللّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ (270) إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لُّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271)} هذا وعدُ الشَّيطان، وهذا وعدُ الرَّحمن, ولذلك إذا جَاءَك الشَّيطان يُخوِّفك تذَّكَر وعد الله مُقابلُ هذا الوعد (ومن أصدق من الله قيلا) الشَّيطان يعِدُك، والله يعِدُك مغفرة وفضل, وفضل مال أيضاً، والذِّي يَعِدُكَ واسعٌ ,عليم سبحانه,ثم قال: (يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء) عندنا تفسير بالسِّيَاق، وتفسير بالعموم, فلو جئنا نأخذها بسياقها لقلنا أنّ سياق الحكمة هنا – وأحيانا عندما نذكر التفسيربالسياق نقول : قاعدة العبرة بعموم السبَّب, نقول العبرة بعموم السياق لا بخصوص السِّياق مثل ما نقول قاعدة العبرة بعموم السبَّب لا بخصوصه, لكن سياقُه في الحكمة هنا في: مسألة النفقة (يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء) سواءً في تأمُّل هذه الأمثال والنَّظر فيها، أَو في وضع المَال في موضعه, كما قلتُ لكم في أول آيات النفقة (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ) فأشار إلى المَصرِف, وسيأتينا الحديث عن المصرِف ، الآن الآيات بعد أن تكلَّمت عن المصروف سيأتي الحديث عن مكان الصرف .
قال الله : (وَمَا أَنفَقْتُم مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُم مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ اللّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ) وهنا أيضاً آداب لمَّا مَنع من الرِّياء، ومَنع من المَنّ فأيضاً قال : (إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء) لاحِظُوا لمّا جاء مع الفقراء قال (تُخفوها)
لأنّ هناك صدقات تحتاج إلى العَلَن لكن هذا الفقير بِعينه الأَوْلى أن يكون الإعطاء له سِرّ. يقول بعض المُفَسِّرين : في الدِّرَاسات النَّفسية الحَديثة ثبت عند المتخصِصِين في هذه الدراسات أنَّ كثير مِمَّن يُعطَون يَحقِدُون على المُعطي, تجد مَثَل يقول "اتقِ شرّ من أحسنت إليه", ويَظهر في هذا - والله أعلم كما ذكر بعض المُفسرين - لأنّ هؤلاء الذِّين يُعطون سواء أعطوا شفاعة، أو مال , أعطَوها وهم لم يتأدَّبُوا بآداب القرآن, وإلا لو تأدَّبُوا بآداب القرآن ما حَصَل هذا الحُنق والضِّيق عند أولئك الفقراء لأنّه تَبِعها مِنّة وأذى، وتحقيد لكن تخيَّلوا أنَّ هذا الفقير أخذها بخُفية وهذا المُعطِي لم يرى أيُّ تفضُّل وفضل عليه, هذه الآداب يا إخوان نطبّقها في عالم النفقة، وعالم الإحسان للفقراء سَترى مجتمع نظيف لا من جهة الغني ولا من جهة الفقير, لكن كثير من الأغنياء يرى نفسه أعطيت وفعلت ولذلك بعض العامة عنده من الفقه إذا جاء يُعطي الزكاة تجده يقول هذا حقّ الله مالي دخل فيه, وبعضهم يحرص على إخفائها غاية الحرص, ولذلك قال الله : (إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ) المراد بها في بعض الصدقات تحتاج إلى إعلان , مشاريع خيرية كبيرة,، بناء مساجد (فَنِعِمَّا هِيَ) لكن (وإن تُخفوها وتُؤتوها الفقراء) لمَّا يَكُون المقام مقام يُخشَى عليه من إذلال هذا الفقير (فَهُوَ خَيْرٌ لُّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) . / ثم قال الله - سبحانه وتعالى : (لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ) طبعاً السِّياق في العموم, وفي الخصوص في أمر النفقة (لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء) ثم قال - سبحانه وتعالى - (وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ) بيان أنَّ هَذا المُنفَق إنَّما هو خير لك أنت، فالمِنّة لله ـ عز وجل ـ .
يُقال أنَّ احد التابعين جاءته امرأة.فقالت: يا أبا أسامة تناديه إني أُريد أن أُخرج من المال، لكن لا أُريد أن أخرجه لفلان, أخشى أنَّ فُلان وفُلان يأكلوه،فقال: لقد مَنَّيتِ وآذيتِ قبل أن تُعطي. بمعنى أنتِ من بدأتِ الآن بالمنّ - بقولك يأكلونه, فينبغي للإنسان أن يُلاحظ مثل هذه الآداب.
(وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ اللّهِ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وأنتم لا تُظلمُون ) يعني كما قلنا أنّه يُضاعف وفي قوله - سبحانه وتعالى - في المثل عندما قال (كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ) ختمت بقوله (وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) ما مُناسبة (وَاسِعٌ عَلِيمٌ) في الخِتَام (مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ)
؟ واسع الفَضل لأنَّ بعض الناس قد يَرِد عليه شيء إيراد, يقول الله ضَرب مثل بالحبَّة، والحبَّة أنبتت سبع سنابل وفي كل سُنبلة مائة حبة ويُضاعف. الذِّي يبدأ يحسب بهذه الحسابات نقول له أنت مُخطئ، أنت تتعامل مع من؟ مع الكريم الأكرم - اقرأ وربُّكَ الأكرم- حتى بعض النَّاس في الحسنات يأتي يسأل،كم لي من الحسنات؟ فنقول له : أنتَ تتعامل مع الكَريم سُبحانه، مع الرَّحيم سبحانه, ولذلك في شَأن النَّفقة قد يَضيق بعض النَّاس في تصوُّرها ،وبالمناسبة فإن أهل العلم قالوا: إنَّ مسائل النَّفقات المُضاعفة فيها مثل الصبر, يعني عندنا في الأَفعال في الإسلام الصبر، والصيام، والصدقة الحسنة ليس بعشر أمثالها مضاعفة أكثر, الصبر ليس له حدّ (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ) [15] كَم الحِساب؟! لا تسأل عن الكمّ، مع الكريم سبحانه. والصِّيَام لله وهو يجزي به, وهذه مُضاعفة أكثر من مُضاعفة, إذن غير الصلاة ، غير الحج، فهذه العبادة عبادة الإنفاق إذا التزم العبد بهذه الشُّروط واتقّى الله ـ عز وجل ـ وما منّ ، ووجد المِنَّة لله .
بل يقول ابن القيم : "من أسباب انشراح الصَّدر النَّفقة" من ضاق صدره يُنفق ويبحث عن الفقراء بحث، وخاصّة الفقراء الذِّي ليس لك بهم صلة بهم ولا يعرفُونك, بل مَا شاء الله تَجِد حقيقة صُوَر مُشرقة لبعض التُّجَار والفضلاء, وقد رأيت أحدهم يدخل مع سيارته، يُنفق وواضع الِلثام على وجهه, ما يريد أحد يعرفه, يُمكن يُوكَّل غيره، لكنَّه أراد أن يَتمتّع بهذه النَّفقة بهذا العطاء وخاصّة أنه لا يُعرف من هو. (وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ).
/ثم قال الله سبحانه: (لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ) هنا ذكر أصناف المنفَق عليهم, قبل قليل كان الحديث عن النّفقة، والذِّي قبله كان مثال لأَجر النَّفقة وآداب النفقة, ثم بعد ذلك بعد آداب النفقة ذكر المُنفَق منه، ثم المُنفَق عليه.
المُنفق عليه قال الله : (لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ) أُحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضرباً في الأرض (يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء) الله أكبر!! حتى هذه فيه مدح, أُمِرَ الأغنياء بآداب وأُمِرَ الفُقراء بآداب, قال الله في وصفهم: (يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ) وعلامتُهم (لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا) السؤال مرة واحدة ، الذِّي يسألك مرة واحدة ويترك, بعض النَّاس يقول لو كان محتاج سألني مرة ثانية, لا ، هذا الذِّي يُبحث عنه, لا يتردَدون ويكثِّرون السؤال ، وأيضاً لِباسهم هيئتهم يتعفَّفُون في لباسهم وفي هيئتهم لا يبالغون, البعض قد يُبالغون في إظهار الفقر (لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحْصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ) يعني أنَّهم يُجاهِدون, جعلوا أنفسهم للجهاد في سبيل الله لا يستطيعون ضرباً في الأرض،مِثل الذين حُصروا أيضاً عن الهجرة، ومِثل الذين حُصروا وجُعلوا فقط للجهاد (أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ) أيضاً وقد يكون ما عندهم القدرة على الضَّرب في الأرض, أيضاً بعض الناس ما عنده قدرة في التكسب ليس كل الناس يستطيع أن يبيع ويشتري، فبعض الناس عنده عجز في هذا الباب لكن (يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لا يسألُون النَّاسَ إِلْحَافًا) لا يتَّعرضون للناس ولا يُلِّحُون فهذه من علاماتهم .
/ثم قال الله : (ومَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ) يعني : أيّ خير صغُر هذا الخير قلّ هذا الخير, كأنّ الآية تُشير إلى أنّ كُلِّ يُنفق، ويُدقِّق، ويَنظر. ثم قال الله ـ سبحانه وتعالى ـ ختاما لهذه الآية: (الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ) تلك آداب وهذه أوقات، وسبحان الله لا يوجد تكرار (الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً) اللَّيل يُوافق السِّر، والنَّهار يُوافق العَلانية تقَابُل,ولذلك أيضاً يجعل كل واحد منَّا له في أعماله الصَّالحة صَدقة يُخفيها (سبعة يُظلّهم الله في ظلّه يوم لا ظلّ إلا ظلّه رجل تصدَّق بِصَدقة فأخفاها حتى لا تعلم شِماله ما تُنفق يمينه) [16] من شدة خَفائه أعضاؤه لا تعلم عنه, من شدة الخفاء, بل الذِّين انطبقت عليهم الصَّخرة كل واحد يدعوا بصالح عمله فمن ضِمنهم من أخفى هذا المال [17] لكن أعود إلى الذِّين يُظلّهم الله في ظلّه يوم لا ظلّ إلا ظله ومِنهم هذا المُتصدق ، فهل يُعقل كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - أنّه يُعادل الإمام العادل؟! نعم يُعادل الإمام العادل، لأنَّه قام في قلبه من تعظيم الله، أنّ الله يراه فأخفى هذه الصَّدقة إخفاءً حتى أنَّ بعض أَجزاءه لا يعلم بما أنفق, إذا (يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ) كل الأوقات ما بقي وقت, وعلى هيئات مختلفة سرّ وعلانية, قال الله الذين يفعلون (فَلَهُمْ) بخلاف أؤلئك (الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُواُ مَنًّا وَلاَ أَذًى) قلنا فرق بين (ثم) و (الفاء) :
(ثُمَّ) لا يُتبِعُون لا في العاجل ولا في الآجل, بعض الناس لا يمنّ في أول الوقت لكن بعد ذلك يمنّ, يعني إذا عُوتِب الإنسان على ما تَراخَى فمن باب أولى أن يُعاتَب على ما كان قَبل التَّراخي, إذن يقول الله سبحانه: (الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ) .
أسأل الله عزوجل بأسمائه الحسنى وبصفاته العُلى أن يجعلنا جميعا ممن يَستَمِعُ القول فيتبع أحسنه، وممن أراد الله بهم خيرا ففقَّهَهُم في دِينه, وهناك مقولة جميلة لشيخ الإسلام ابن تيمية حديث ( من يُرِد الله به خيراً يُفقهه في الدِّين) يقول: "ومقتضى هذا الحديث أنَّ مَن لَم يُرِدِ الله به خيراً لم يُفقهه في الدِّين" [18] فنسأل الله أن يجعلنا ممن فقِه في دِين الله، وصلى الله وسلم وبارك على نبِّينا محمد وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين.


لحفظ المادة الصوتية :
_______________________
[1] سورة البقرة 245
[2]صحيح مسلم باب فَضْلِ عِيَادَةِ الْمَرِيضِ. عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -- « إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَا ابْنَ آدَمَ مَرِضْتُ فَلَمْ تَعُدْنِى. قَالَ يَا رَبِّ كَيْفَ أَعُودُكَ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ. قَالَ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ عَبْدِى فُلاَنًا مَرِضَ فَلَمْ تَعُدْهُ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّكَ لَوْ عُدْتَهُ لَوَجَدْتَنِى عِنْدَهُ يَا ابْنَ آدَمَ اسْتَطْعَمْتُكَ فَلَمْ تُطْعِمْنِى. قَالَ يَا رَبِّ وَكَيْفَ أُطْعِمُكَ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ. قَالَ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّهُ اسْتَطْعَمَكَ عَبْدِى فُلاَنٌ فَلَمْ تُطْعِمْهُ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّكَ لَوْ أَطْعَمْتَهُ لَوَجَدْتَ ذَلِكَ عِنْدِى يَا ابْنَ آدَمَ اسْتَسْقَيْتُكَ فَلَمْ تَسْقِنِى. قَالَ يَا رَبِّ كَيْفَ أَسْقِيكَ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ قَالَ اسْتَسْقَاكَ عَبْدِى فُلاَنٌ فَلَمْ تَسْقِهِ أَمَا إِنَّكَ لَوْ سَقَيْتَهُ وَجَدْتَ ذَلِكَ عِنْدِى ».
[3] التوبة47
[4] صحيح مسلم باب باب فَضْلِ سُورَةِ الْكَهْفِ وَآيَةِ الْكُرْسِىِّ. عَنْ أُبَىِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -- « يَا أَبَا الْمُنْذِرِ أَتَدْرِى أَىُّ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ مَعَكَ أَعْظَمُ ». قَالَ قُلْتُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ « يَا أَبَا الْمُنْذِرِ أَتَدْرِى أَىُّ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ مَعَكَ أَعْظَمُ ». قَالَ قُلْتُ اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَىُّ الْقَيُّومُ. قَالَ فَضَرَبَ فِى صَدْرِى وَقَالَ « وَاللَّهِ لِيَهْنِكَ الْعِلْمُ أَبَا الْمُنْذِرِ ».
[5] قال الوادعي في المسند المنزل من أسباب النزول (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ) (البقرة :256) .
قال الإمام أبو جعفر ابن جرير - - في تفسيره (3/24) : ( حدثنا محمد بن بشار قال حدثنا ابن أبي عدي عن شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس - - قال : كانت المرأة تكون مقلاتا (1) فتجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تهوده فلما أجليت بنو النضير كان فيهم من أبناء الأنصار فقالوا : لا ندع أبناءنا ! فأنزل الله تعالى ذكره : لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي .
الحديث رجاله رجال الصحيح وأخرجه أبو داود (3/11) وعزاه السيوطي في اللباب للنسائي أيضاً وأخرجه ابن حبان في صحيحه كما في موارد الظمآن (427) . ثم وقفت عليه في تفسير النسائي (1/273) .
[6]التوبة60
[7] يقول ابن القيم في طريق الهجرتين : (هذا بيان للقرض الحسن ما هو وهو أن يكون في سبيله أي في مرضاته والطريق الموصلة إليه ومن أنفعها سبيل الجهاد وسبيل الله خاص وعام والخاص جزء من السبيل العام وأن لا يتبع صدقته بمن ولا أذى فالمن نوعان أحدهما من بقلبه من غير أن يصرح به بلسانه وهذا إن لم يبطل الصدقة فهو من نقصان شهود منة الله عليه في إعطائه المال وحرمان غيره وتوفيقه للبذل ومنع غيره منه فلله المنة عليه من كل وجه فكيف يشهد قلبه منة لغيره والنوع الثاني أن يمن عليه بلسانه فيعتدي على من أحسن إليه بإحسانه ويريه أنه اصطنعه وأنه أوجب عليه حقا وطوقه منة في عنقه فيقول أما أعطيتك كذا وكذا ويعدد أياديه عنده قال سفيان يقول أعطيتك فما شكرت وقال عبدالرحمن بن زياد كان أبي يقول إذا أعطيت رجلا شيئا ورأيت أن سلامك يثقل عليه فكف سلامك عنه وكانوا يقولون إذا اصطنعتم صنيعة فانسوها وإذا أسديت إليكم صنيعة فلا تنسوها وفي ذلك قيل
وإن امرأ أهدى إلي صنيعة ... وذكرنيها مرة لبخيل.....)
[8] النساء8
[9] النساء5
[10] الإسراء28
[11] صحيح البخاري باب سورة البقرة عن ابن عباس قال سمعت أخاه أبا بكر بن أبي مليكة يحدث عن عبيد بن عمير قال
: قال عمر يوما لأصحاب النبي صلى الله عليه و سلم فيم ترون هذه الآية نزلت أيود أحدكم أن تكون له جنة ؟ قالوا الله أعلم فغضب عمر فقال قولوا نعلم أو لا نعلم فقال ابن عباس في نفسي منها شيء يا أمير المؤمنين قال عمر يا أخي قل ولا تحقر نفسك قال ابن عباس ضربت مثلا لعمل قال عمر أي عمل ؟ قال ابن عباس لعمل قال عمر لرجل غني يعلم بطاعة الله عز و جل ثم بعث الله له الشيطان فعمل بالمعاصي حتى أغرق أعماله
[ ش ( منها شيء ) أي من العلم بتفسيرها . ( أغرق أعماله ) أضاع ثواب أعماله الصالحة بما ارتكب من المعاصي ]
[12] العنكبوت43
[13]جاء في تفسير لبن كثير قال بعض السلف: كنت إذا قرأتُ مثلا من القرآن فلم أفهمه بَكَيت على نفسي؛ لأن الله تعالى يقول: وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ
و جاء في تفسير ابن أبي حاتم عن عمرو بن مرة ، قال : « ما مررت بآية في كتاب الله لا أعرفها إلا أحزنني ؛ لأني سمعت الله يقول : ( وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون )
[14] الذاريات23
[15]الزمر10
[16]في البخاري باب الصَّدَقَةِ بِالْيَمِينِ . عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِىِّ - - قَالَ « سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِى ظِلِّهِ يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ الإِمَامُ الْعَادِلُ ، وَشَابٌّ نَشَأَ فِى عِبَادَةِ رَبِّهِ ، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِى الْمَسَاجِدِ ، وَرَجُلاَنِ تَحَابَّا فِى اللَّهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ ، وَرَجُلٌ طَلَبَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ إِنِّى أَخَافُ اللَّهَ . وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ أَخْفَى حَتَّى لاَ تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ » .
[17] في البخاري باب مَنِ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَتَرَكَ أَجْرَهُ ، فَعَمِلَ فِيهِ الْمُسْتَأْجِرُ فَزَادَ ، أَوْ مَنْ عَمِلَ فِى مَالِ غَيْرِهِ فَاسْتَفْضَلَ . حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِىِّ حَدَّثَنِى سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ - رضى الله عنهما - قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - - يَقُولُ « انْطَلَقَ ثَلاَثَةُ رَهْطٍ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَتَّى أَوَوُا الْمَبِيتَ إِلَى غَارٍ .....) إلى أن قال : ( وَقَالَ الثَّالِثُ اللَّهُمَّ إِنِّى اسْتَأْجَرْتُ أُجَرَاءَ فَأَعْطَيْتُهُمْ أَجْرَهُمْ ، غَيْرَ رَجُلٍ وَاحِدٍ تَرَكَ الَّذِى لَهُ وَذَهَبَ فَثَمَّرْتُ أَجْرَهُ حَتَّى كَثُرَتْ مِنْهُ الأَمْوَالُ ، فَجَاءَنِى بَعْدَ حِينٍ فَقَالَ يَا عَبْدَ اللَّهِ أَدِّ إِلَىَّ أَجْرِى . فَقُلْتُ لَهُ كُلُّ مَا تَرَى مِنْ أَجْرِكَ مِنَ الإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ وَالرَّقِيقِ . فَقَالَ يَا عَبْدَ اللَّهِ لاَ تَسْتَهْزِئْ بِى . فَقُلْتُ إِنِّى لاَ أَسْتَهْزِئُ بِكَ . فَأَخَذَهُ كُلَّهُ فَاسْتَاقَهُ فَلَمْ يَتْرُكْ مِنْهُ شَيْئًا ، اللَّهُمَّ فَإِنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَافْرُجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ . فَانْفَرَجَتِ الصَّخْرَةُ فَخَرَجُوا يَمْشُونَ » .
[18] يقول ابن تيمية في الفتاوى الكبرى : (وقد ثبت في الصحيح : عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين ] ولازم ذلك أن من لم يفقهه الله في الدين لم يرد به خيرا فيكون التفقه في الدين فرضا والفقه في الدين معرفة الأحكام الشرعية بأدلتها السمعية فمن لم يعرف ذلك لم يكن متفقها في الدين لكن من الناس من قد يعجز عن معرفة الأدلة التفصيلية في جميع أموره فيسقط عنه ما يعجز عن معرفته لا كل ما يعجز عنه من التفقه ويلزم ما يقدر عليه وأما القادر على الاستدلال فقيل : يحرم عليه التقليد مطلقا وقيل : يجوز مطلقا وقيل : يجوز عند الحاجة كما إذا ضاق الوقت عن الاستدلال وهذا القول أعدل )
/ مصدر التفريغ : ملتقى أهل التفسير (بتصرف يسير)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق