السبت، 26 نوفمبر 2011

الحلقـــ الثانية ــة / في تفسير قوله تعالى (وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي ) الآية



الحمد لله على فضله ، والصلاة والسلام على أشرف رسله وخير خلقه وبعد :
في هذا اللقاء المبارك من تفسير كلام رب العالمين جل جلاله نفيء معكم إلى قول الله - جل وعلا - في سورة القصص (وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحًا لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ*وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لا يُرْجَعُونَ*فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ) إلى ما بعدهن من الآيات . نقول والله المستعان :
في سورة الشعراء أخبر موسى - عليه السلام - فرعون أن الله ربه ورب آبائه الأولين ، والحياة في زمن فرعون السياسية والعقدية كانوا ينظرون إلى فرعون أنه ابن الآلهة وأن هذه الآلهة تفيء إليه فهو في نظرهم من يُعبد ويؤله وهذا من الاستخفاف بالعقول الذي صنعه فرعون في قومه قال الله - جل وعلا - (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ) هنا يقول رب العالمين - جل جلاله - (وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ) أي يخاطب أشراف قومه ممن غيرهم تبعا لهم ، ممن يملكون الحلّ والعقد والأمر في البلاد (وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي) والنفي هنا لم يرد به فرعون ما يُعرف بالقاعدة عند " أن عدم العلم ليس علما بالعدم " إنما أراد فرعون من قرائن أُخر جاءت في سياق القرآن العظيم ، أراد فرعون أن يقول أنني أعلم كل شيء وبكوني أعلم كل شيء لا أعلم أن هناك إلها غيري - تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا - قال هذا مناديا أشراف قومه كما قال الله - جل وعلا - (يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي) قبل أن نُجيب على هذا يجب أن يُعلم الله - جل وعلا - ما أخبر عن شيء في كتابه معظما إياه أعظم من إخباره عن ألوهيته وأنه - جل وعلا - لا ربّ غيره ولا إله سواه ، فقد كلّم الله موسى تكليما عند جبل الطور ثم قال له بعد أن طمأنه يا موسى (إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي) والمقصود من هذا أن الله - جل وعلا - أصلا ما نصب وأقام البراهين ، بل ما قامت السموات والأرض ، ما خُلقتا إلا ليُعلم ويُعبد - جل وعلا - وأنه لا ربّ غيره ولا إله سواه ، فجاء فرعون إلى هذه الحقيقة العظيمة الجليلة التي لا يُنكرها أحد يعقل فأنكرها بالكلية ، وسيأتي الفرق ما بين خطابه وخطاب القرشيين ، فقال مستكبرا في قومه (مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي) ثم حتى يقنع من حوله أنه يبحث عن الحقيقة قال (فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحًا) وهامان وزيره وكان من عادة الملوك يومذاك أنهم يكلون كل أمورهم إلى وزير واحد فيوكل الوزير ما أمر به الملك إلى سائر من يعمل تحت يده ، وكان من عادتهم في البناء أنهم بالطين فيجعلونه في التنور - في النار - فيُصبح ما يُسمى بالآجر ثم يجعلونه ممزوجا مخلوطا بالتبن فيصنعون منه شيئا كاللبن ثم يبنون به ، فبدأ فرعون الخطاب بأوله (فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ) حتى يبيّن لمن يسمعه حرصه على طلب الحقيقة وهو يكذب (فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحًا لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى) قال الله في غافر (لَّعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ *أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ) وفي هذا دليل خفي عمّن لا يعلم ظاهر لمن يعلم لمذهب أهل السنة ، مذهب أهل الحق وهو أن الله في السماء إذ أن فرعون محال أن يقول ويطلب أن ينظر أين الله في السماء إلا وقد أخبره موسى أن الله في السماء ، فلو لم يخبره موسى ، لم يبيّن له هذا الأمر لما طلبه فرعون لكن فرعون علِّم من خطاب موسى أن الله فوق السموات فأخذ فرعون يظهر لقومه أن هذا الإله الذي يُخبر عنه موسى سأسعى جاهدا في البحث عنه ولهذا قال هنا (لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى) ثم قال (وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ) حتى يبين أنه مع سعيه إلا أنه على اعتقاد تام حتى لا تتزعزع عقيدة من حوله بزعمه عمّا كانوا عليه من اتخاذه إله (وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ) .
قال ربنا (وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ) الاستكبار أشد أنواع الكِبر لأن الزيادة في المبنى زيادة في المعنى (وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ ) استكبار فرعون أصل واستكبار الجنود تبع (وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأَرْضِ) هذه الألف واللام في " الأرض " تحتمل معنيين : إما أن تكون ألف واللام للعهد فيُصبح أرض مصر لأن هذا المعهود في الذهن أن فرعون يسكن مصر ، وإما أن تكون للجنس باعتبار أن أمة فرعون يومذاك علت على كثير من الأمم ولكن الأول أرجح والعلم عند الله . (وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لا يُرْجَعُون)الآن نأتي هنا لقول الله - جل وعلا - (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لا يُرْجَعُونَ) التذييل في الآية هنا دلّ عليه المعنى أصلا في الأول لأن فرعون أصلا لا يعترف بوجود الله فكيف يعترف بالرجوع إليه ، هو لا يعترف أصلا بوجود الله فلم جيء بها ؟ جيء بالآيات (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لا يُرْجَعُونَ) تعريضا بالمشركين لأن الفرق ما بين كفر فرعون وكفر قريش : أن فرعون نفى وجود الله أصلا أما كفار قريش لا ينفون وجود الله (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) لكنهم كذبوا رسولهم وزعموا أن الله لم يبعثه وردوا نبوته بل قالوا كما قال الله عنهم (وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) إذا هذا الفرق ، لهذا الفرق جاء الله - جل وعلا - بقوله - تبارك اسمه - (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لا يُرْجَعُونَ)، لما بيّن هذا حتى يتعظ بهم كفار قريش - كما سيأتي -.
قال الله بعدها (فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ) والنبذ : الطرح والإلقاء ، وهذا يدلّ على هوانهم على الله (فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ) فبيّن الله - جل وعلا - هنا كيف تكون عاقبة الظالمين .
ثم قال ربنا - تبارك وتعالى - (وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لا يُرْجَعُونَ) إلى أن قال (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُنصَرُونَ)


أما قول ربنا (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ) فإن الإمام كل من يدعو إلى شيء من خير أو شر فلا يتعلق بها مدح ولا ذم محض بقرينة الآية إنما يُعرف السياق مدحا أو ذما حسب الحال والمعنى (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ) أي يدعون إلى كل عمل يؤدي إلى النار وهذا معناه : أن كثيرا من الناس جعلهم الله - جل وعلا - سادة ، ومعنى سادة أن لهم فضل يتبعهم الناس ، ولو قلبت بصرك فيمن حولك ممن يعيش على الأرض اليوم لرأيت فئاما عدة جعلهم الله تعالى رؤوسا يُتبعون وهم درجات ومنازل متفرقة كما قال العلي الكبير (إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى) فأسوؤهم من كان قدوته فرعون قال الله (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ) ، وأعظمهم من كان لا يخرج من بيته لا يبتغي شيئا في قوله وفعله إلا أن يُعظم الله ، وما يورث الإنسان في قلبه من شيء أجلّ من تعظيم الله ، فمن كان يُمسي ويصبح ورغبته أن يُعظم الله بسببه ، هذا في أعلى المقامات ، وأدنى المقامات من - عياذا بالله - يغدو ويسعى جرأة على الله كما صنع فرعون هنا وسيأتي في اللقاء الذي بعد هذا بيان ذلك تفصيلا ، لكن هذه أفضال يمُنّ الله بها على من يشاء من عباده فمن الناس من ربما إذا دخل مسجدا أو مصلى فوجد فيه شخصا قد يكون فقيرا رثّ الحال غريبا ، من طبعه أنه مهان لكنه عندما يراه يصلي ، يسجد ، يذكر الله ، يقرأ القرآن ، يجد هذا الرائي في قلبه محبة لهذا المرئي وإجلالا له وتعظيما حتى إن هذا المرئي ليعجب لِمَ يُعظمه هذا ، وهذا لا يريد شخصه إنما يريد أن يُعظمه إجلالا لله ، فتعظيم الله هو الحياة الحقة للقلوب ، والله يُعظم في أمره فيؤتى ، ويُعظم في نهيه فيُجتنب ، ويُعظم في أسمائه وصفاته فيُتعبد بها (وَلِلَّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا) ، ويُعظم في رسله فيُحبون ويُنصرون ويوالون ، ويُعظم في أوليائه وعباده فيُحبون ويُقبل منهم العمل ويُغض عن العثرات تعظيما لله الذي هداهم واجتباهم واصطفاهم ، إلى غير ذلك مما لا يخفى على شريف علمكم . أخبر الله - جلّ وعلا - أنهم يوم القيامة لا يمكن أن يكون من هؤلاء الاتباع نصرة لأنه فهمنا بالعقل مادام هناك دعوة ففي الغالب يكون هناك اتباع لكن أولئك الأتباع الذين ينصرون من معهم في الدنيا يتخلون عنه يوم القيامة .
ثم قال الله (وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُم مِّنَ الْمَقْبُوحِينَ) الآن انظر إلى أسلوب القرآن - وهذا منحى بلاغي - عندما تريد أن تُعرّف بشيء عظيم غالبا إذا أشرت إلى غيره فإن قولك هذا يدل على أن المُشار إليه مُحتقر ، فمثلا : تقول من يصحبنا في سفرنا ؟ فتقول الأمير والوزير وصاحب المعالي تعدّ أسماء عند الدنيا رفيعة ثم تُشير إلى أحد الحاضرين غير معروف تقول وهذا ، فأنت لم تُشر إليه مقارنة بغيره إلا لأنه غير معروف مثله ، حتى وأنت تحمل متاعا لتنتقل من دار إلى دار ، من مكان إلى مكان فالأشياء المعروفة في الدار يحملها أبناؤك ، يعرفون أن الغدو ‘لى مكان كذا يحتاج إلى حمل كذا وكذا من المتاع فيحملونه فتستدرك أنت شيئا صغيرا لا يراه أبناؤك لا يحفلون به تقول : خذوا هذا معكم ، احملوا هذا معكم . القرآن هنا ماذا يقول رب العالمين ؟ يقول (وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا) لما قال بعدها القيامة والآخرة قال (في هذه الدنيا) حتى يُبيّن حقارة الدنيا ، ومع أن الدنيا حقيرة إلا أن رب العالمين قال (وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً) أي يلعنهم أولياء الله المقربون ، وأنت تعلم أي سؤ - عياذا بالله - أن يُمسي الإنسان في قبره وأولياء الله يلعنونه وهم على الأرض وإنما ساق له هذا جرأته على الله - كما سيأتي - .قال الله (وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ) أي في الآخرة (هُم مِّنَ الْمَقْبُوحِينَ) أي ممن جاءوا بعمل قبيح يذمهم الذام عليه.
هذا ما أخبر الله - جل وعلا - عنه في هذه الآيات من سورة القصص وهي مرتبطة ارتباطا وثيقا بقول الله - جل وعلا - في النازعات (فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى) وسنفرغ للحديث عن قول الله - جل وعلا - (فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى) في اللقاء القادم ، لكن قبل أن ننهي ما نحن فيه نبين هنا أن موسى عليه السلام سعى جاهدا أن يكون سببا في هداية فرعون امتثالا لقول الله (فَقُولا لَهُ قَوْلا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى) لكن يقول البعض إن فرعون استشار هامان فقال له : كيف تقبل أن تكون عبدا بعد أن كنت ربا ، وإن صح هذا النقل - ولا أظنه يصح - منه فائدة لا تخفى وهو أن الإنسان يتخذ ممن يستشيرهم أن يكونوا أهل رأي وعقل ، هذا لابد منه لأنه لا يُستشار أحد في شيء لا يفقهه لكن لابد أن يكون فيمن تستشيره حظ عظيم من الصلاح ، وأنا أقول : " من أراد أن يتخذ رفيقا فليحتط أين حاله من قيام الليل ، فغالب الظن أن من يوفق لقيام الليل يوفق للرأي في النهار ، يُهدى ، الله لا يخذل عبدا خلا بربه في ليله وبث ربه شكواه وعظم ربه في صلاته وناجاه - جل ذكره - فإن هذا بعيد ان يُخذل في يومه ونهاره ".متعنا الله وإياكم متاع الصالحين وجعلنا الله وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه والحمد لله رب العالمين .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق