الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن والاه .
الآيات التي سنقف عندها - إن شاء الله تعالى - قول الله - جل وعلا - (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ) :
أولا : قوله - جل وعلا - (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ ) جاء بعد خبر يني إسرائيل مع موسى وتذكير موسى بني إسرائيل بنعم الله عليهم (إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاء وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِّن الْعَالَمِينَ*يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ) الفرق بين الحالين أو بين القصتين أو المناسبة بين القصتين : في بني إسرائيل كان منهم إحجام مذموم ، وأما في خبر ابني آدم فإن أحدهما -العاصي منهما - كان فيه إقدام مذموم فهذا فيه جرأة على المعاصي فقتل أخاه ، وفي بني إسرائيل إحجام عن أوامر الله (لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىَ يَخْرُجُواْ مِنْهَا) هذا من حيث الإقدام والإحجام وهو مناسبة ذكر هذه القصة بعد القصة التي تليها ، والمشهور أنهما قابيل وهابيل .في خبرهما يظهر قضية القلوب وأثرها في الطاعة فالله - جل وعلا - أخبر أن كلا الأخوين قرب ( إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا) كلاهما في ظاهر الأمر قام بالعمل لكن القلوب اختلفت فاختلفت النتائج ( إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ ) وليس بين الله وبين أحد من خلقه نسب لكن الأول صدقت نيته وقدم أفضل ما يملك ، والآخر ساءت نيته فقرب أسوأ ما يملك (قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ) هذا هو الحسد وهو أول ذنب عصي به الله في السماء وأول ذنب عُصي الله به في الأرض فالذي منع إبليس مع الكبر أن يسجد لأبينا آدم حسده إياه ، والذي دفع قابيل أن يقتل أخاه حسده لأخيه وقد قال ابن القيم - رحمه الله - " أصول الخطايا ثلاثة الكِبر والحسد والحرص ".
(قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) كان المقتول أعظم قوة من القاتل لكن منعه من بطشه بأخيه خوفه من الله ، والخوف من الله كما مرّ معنا في لقاءات مضت هو عنوان حياة المتقين الحقة ولهذا ربط الله الخوف به بالتوفيق (قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَابَ) فقولهم ادخلوا عليهم الباب مهد الله له ووطأ بأن هذين الرجلين رُزقا الخوف من الله ، فلما رُزقا الخوف من الله رٌزقا التوفيق في القول فأي أحد يطلب علما قد يحفظ أكثر من غيره ، وقد يجد من الساعات أكثر من غيره أن يقرأ ويتأمل ، وقد يجد متسعا من الوقت أن يثني الركب عند مشايخه لكن إذا اجتمع له هذا العلم الذي جمعه وقرأه فحتى يستقيم له أن يقول قولا موفقا ويأخذ الناس عنه قوله لابد أن يكون الرجل في المقام الأول يخاف الله ، فيه خوف فيه ورع ، فيه خشية من الله ، فإن وجد في أحد ما خوف وورع وخشية من الله وُجد التوفيق في القول والسداد فيه قال الله - جل وعلا - كما بينا (قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا) أي بالخوف منه (ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَابَ) .
/ نعود للآية قال (لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ) وهذا هو السبيل الذي يمشي عليه أهل الإيمان فهم أحيانا ليسوا عاجزين أن يأخذوا بحقهم لكن يمنعهم الخوف من الله ، يمنعهم من الرشوة ، يمنعهم من السرقة ، يمنعهم من الكذب ، يمنعهم من القدح في أعراض الناس ، يمنعهم من أشياء كُثر ، عن كل ما حرم الله خوفهم من ربهم - تبارك وتعالى - وخوفهم من الله كما يمنعهم من المعاصي يدفعهم للطاعات لأن الله قال عن أهل طاعته - وقد بيّن عطاءهم وسخاءهم - قال (إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا ) وهذا يدفعني للاستطراد في التفسير : معلوم جدا إن الله يقول (إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا *عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا ) قال (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا) ثم قال (إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلا شُكُورًا) وأنت تعلم عقلا ونقلا أنه لا يوجد أحد من الصحابة يأتي للأسير أو الفقير أو المسكين ويطعمه ويقول خذه (إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلا شُكُورًا) هذا لم يقع إنما قالوها في أنفسهم ، يعني هذا لسان حال وليس لسان مقال لكن لما صدقت سرائرهم أظهر الله هذه السرائر تكرمة لهم ، نظيرها في القرآن الله - جل وعلا - يقول في صدر سورة البقرة (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء) الذي يقول هذا المنافقون ، ومعلوم أن المنافقين إذا قيل لهم آمنوا لا يقولون علانية (أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء) لأن هذا لا يٌعد نفاق لأنهم أظهروا الكفر ، لا يصبحوا منافقين لكن كيف حصل الأمر ، هذه مثل هذه ، هذه قالوها في سرائرهم فلما عادوا الله هتك أسرارهم وفضح أستارهم وأخبر بما في قلوبهم ، والآخرون لما والوا الله وتولوه - جل وعلا - وأطاعوه وكتوا نياتهم أخرجها الله - جل وعلا - ونشر سريرتهم الطيبة بين خلقه ، والجزاء من جنس العمل .
/ نعود للآية (قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ*لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ*إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِينَ) رغم هذا لم يرتدع قال الله (فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ) فقول الله (فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ ) دليل على أن أي معصية لها سببان ، سبب داخلي وسبب خارجي ، سبب داخلي : النفس ، الأمارة بالسؤ ، شيء وضعف في النفس ، والسبب الخارجي : وسوسة الشيطان ويدل على صحة هذا المعنى قول الله - جل وعلا - في سورة "طه" عن أبينا آدم قال الله - جل وعلا - (وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا) فكان الضعف في نفسيته - عليه الصلاة والسلام - مع وسوسة الشيطان له (فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ) فوجد وسوسة من الشيطان وضعفت عزيمة آدم بقدر الله ولا يحُط ذلك من مكانته فهو نبي مُكلّم لكن نحن نتكلم عن الاستشهاد بالآية ، وهنا مثلها قال الله - جل وعلا - (فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ) .
/ (فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ) الغراب من الفواسق ، والعرب تقول " إذا كان الغراب دليل قوم دلهم على جيف الكلاب " فلما كان الغراب من الفواسق بعثه الله ، حتى في التعليم أهان الله القاتل ، ما بعث حيوانا كريما يعلمه كيف يواري من قتله وإنما بعث غرابا ، فلما رأى الغراب على ما فيه أفقه منه زاد ندامة ويأبى الله إلا أن يُذل من عصاه .
جرت سنة الله في خلقه أن الأصل في الأشياء أن تبقى على حالها فإن دخلها معترض دخل بعد ذلك ما يقوِّم اعتراضها . نثبت هذا : الله يقول بعد هذا الذي وقع من قابيل (كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ) مثاله : أن لوطا عليه السلام لم يكن من قبيلة القرية التي ذهب إليها - من قرية سدوم - لم يكن له فيها رهط ولا منعة ولا قبيلة ولا أعمام ولا أخوال فلما جاءه الملائكة وقع في الحرج معهم - قبل أن يعلم أنهم ملائكة - مع قومه قال (لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ) أي أنا لست من هذه القبيلة ، ليس لي أحد عصبة تحميني ، قال نبينا - صلى الله عليه وسلم - في البخاري ( فما بعث الله نبيا بعده إلا في منعة من قومه ) ولهذا قال الله عن شعيب (وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ) فالذي منع قوم شعيب أن يرجموا شعيبا خوفهم من قومه ، ولهذا حتى الذين تآمروا على صالح قالوا (لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ) خافوا . فالمقصود أن الله - جل وعلا - قد علم أزلا أن لوطا سيجد حرجا مع ذلك قال من بعدها ( ما بعث الله نبيا إلا في منعة من قومه ) وكذلك الأصل في الأشياء . وهذا يعينك على فقه الكتاب إذا كنت تأخذ بالسُنن العامة ، وفيما يأتي من الوقفات - إن شاء الله تعالى - يتضح أكثر من ذلك .
الآيات التي سنقف عندها - إن شاء الله تعالى - قول الله - جل وعلا - (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ) :
أولا : قوله - جل وعلا - (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ ) جاء بعد خبر يني إسرائيل مع موسى وتذكير موسى بني إسرائيل بنعم الله عليهم (إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاء وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِّن الْعَالَمِينَ*يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ) الفرق بين الحالين أو بين القصتين أو المناسبة بين القصتين : في بني إسرائيل كان منهم إحجام مذموم ، وأما في خبر ابني آدم فإن أحدهما -العاصي منهما - كان فيه إقدام مذموم فهذا فيه جرأة على المعاصي فقتل أخاه ، وفي بني إسرائيل إحجام عن أوامر الله (لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىَ يَخْرُجُواْ مِنْهَا) هذا من حيث الإقدام والإحجام وهو مناسبة ذكر هذه القصة بعد القصة التي تليها ، والمشهور أنهما قابيل وهابيل .في خبرهما يظهر قضية القلوب وأثرها في الطاعة فالله - جل وعلا - أخبر أن كلا الأخوين قرب ( إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا) كلاهما في ظاهر الأمر قام بالعمل لكن القلوب اختلفت فاختلفت النتائج ( إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ ) وليس بين الله وبين أحد من خلقه نسب لكن الأول صدقت نيته وقدم أفضل ما يملك ، والآخر ساءت نيته فقرب أسوأ ما يملك (قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ) هذا هو الحسد وهو أول ذنب عصي به الله في السماء وأول ذنب عُصي الله به في الأرض فالذي منع إبليس مع الكبر أن يسجد لأبينا آدم حسده إياه ، والذي دفع قابيل أن يقتل أخاه حسده لأخيه وقد قال ابن القيم - رحمه الله - " أصول الخطايا ثلاثة الكِبر والحسد والحرص ".
(قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) كان المقتول أعظم قوة من القاتل لكن منعه من بطشه بأخيه خوفه من الله ، والخوف من الله كما مرّ معنا في لقاءات مضت هو عنوان حياة المتقين الحقة ولهذا ربط الله الخوف به بالتوفيق (قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَابَ) فقولهم ادخلوا عليهم الباب مهد الله له ووطأ بأن هذين الرجلين رُزقا الخوف من الله ، فلما رُزقا الخوف من الله رٌزقا التوفيق في القول فأي أحد يطلب علما قد يحفظ أكثر من غيره ، وقد يجد من الساعات أكثر من غيره أن يقرأ ويتأمل ، وقد يجد متسعا من الوقت أن يثني الركب عند مشايخه لكن إذا اجتمع له هذا العلم الذي جمعه وقرأه فحتى يستقيم له أن يقول قولا موفقا ويأخذ الناس عنه قوله لابد أن يكون الرجل في المقام الأول يخاف الله ، فيه خوف فيه ورع ، فيه خشية من الله ، فإن وجد في أحد ما خوف وورع وخشية من الله وُجد التوفيق في القول والسداد فيه قال الله - جل وعلا - كما بينا (قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا) أي بالخوف منه (ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَابَ) .
/ نعود للآية قال (لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ) وهذا هو السبيل الذي يمشي عليه أهل الإيمان فهم أحيانا ليسوا عاجزين أن يأخذوا بحقهم لكن يمنعهم الخوف من الله ، يمنعهم من الرشوة ، يمنعهم من السرقة ، يمنعهم من الكذب ، يمنعهم من القدح في أعراض الناس ، يمنعهم من أشياء كُثر ، عن كل ما حرم الله خوفهم من ربهم - تبارك وتعالى - وخوفهم من الله كما يمنعهم من المعاصي يدفعهم للطاعات لأن الله قال عن أهل طاعته - وقد بيّن عطاءهم وسخاءهم - قال (إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا ) وهذا يدفعني للاستطراد في التفسير : معلوم جدا إن الله يقول (إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا *عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا ) قال (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا) ثم قال (إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلا شُكُورًا) وأنت تعلم عقلا ونقلا أنه لا يوجد أحد من الصحابة يأتي للأسير أو الفقير أو المسكين ويطعمه ويقول خذه (إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلا شُكُورًا) هذا لم يقع إنما قالوها في أنفسهم ، يعني هذا لسان حال وليس لسان مقال لكن لما صدقت سرائرهم أظهر الله هذه السرائر تكرمة لهم ، نظيرها في القرآن الله - جل وعلا - يقول في صدر سورة البقرة (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء) الذي يقول هذا المنافقون ، ومعلوم أن المنافقين إذا قيل لهم آمنوا لا يقولون علانية (أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء) لأن هذا لا يٌعد نفاق لأنهم أظهروا الكفر ، لا يصبحوا منافقين لكن كيف حصل الأمر ، هذه مثل هذه ، هذه قالوها في سرائرهم فلما عادوا الله هتك أسرارهم وفضح أستارهم وأخبر بما في قلوبهم ، والآخرون لما والوا الله وتولوه - جل وعلا - وأطاعوه وكتوا نياتهم أخرجها الله - جل وعلا - ونشر سريرتهم الطيبة بين خلقه ، والجزاء من جنس العمل .
/ نعود للآية (قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ*لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ*إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِينَ) رغم هذا لم يرتدع قال الله (فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ) فقول الله (فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ ) دليل على أن أي معصية لها سببان ، سبب داخلي وسبب خارجي ، سبب داخلي : النفس ، الأمارة بالسؤ ، شيء وضعف في النفس ، والسبب الخارجي : وسوسة الشيطان ويدل على صحة هذا المعنى قول الله - جل وعلا - في سورة "طه" عن أبينا آدم قال الله - جل وعلا - (وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا) فكان الضعف في نفسيته - عليه الصلاة والسلام - مع وسوسة الشيطان له (فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ) فوجد وسوسة من الشيطان وضعفت عزيمة آدم بقدر الله ولا يحُط ذلك من مكانته فهو نبي مُكلّم لكن نحن نتكلم عن الاستشهاد بالآية ، وهنا مثلها قال الله - جل وعلا - (فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ) .
/ (فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ) الغراب من الفواسق ، والعرب تقول " إذا كان الغراب دليل قوم دلهم على جيف الكلاب " فلما كان الغراب من الفواسق بعثه الله ، حتى في التعليم أهان الله القاتل ، ما بعث حيوانا كريما يعلمه كيف يواري من قتله وإنما بعث غرابا ، فلما رأى الغراب على ما فيه أفقه منه زاد ندامة ويأبى الله إلا أن يُذل من عصاه .
جرت سنة الله في خلقه أن الأصل في الأشياء أن تبقى على حالها فإن دخلها معترض دخل بعد ذلك ما يقوِّم اعتراضها . نثبت هذا : الله يقول بعد هذا الذي وقع من قابيل (كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ) مثاله : أن لوطا عليه السلام لم يكن من قبيلة القرية التي ذهب إليها - من قرية سدوم - لم يكن له فيها رهط ولا منعة ولا قبيلة ولا أعمام ولا أخوال فلما جاءه الملائكة وقع في الحرج معهم - قبل أن يعلم أنهم ملائكة - مع قومه قال (لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ) أي أنا لست من هذه القبيلة ، ليس لي أحد عصبة تحميني ، قال نبينا - صلى الله عليه وسلم - في البخاري ( فما بعث الله نبيا بعده إلا في منعة من قومه ) ولهذا قال الله عن شعيب (وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ) فالذي منع قوم شعيب أن يرجموا شعيبا خوفهم من قومه ، ولهذا حتى الذين تآمروا على صالح قالوا (لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ) خافوا . فالمقصود أن الله - جل وعلا - قد علم أزلا أن لوطا سيجد حرجا مع ذلك قال من بعدها ( ما بعث الله نبيا إلا في منعة من قومه ) وكذلك الأصل في الأشياء . وهذا يعينك على فقه الكتاب إذا كنت تأخذ بالسُنن العامة ، وفيما يأتي من الوقفات - إن شاء الله تعالى - يتضح أكثر من ذلك .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق