مع قول الله - جل وعلا - ( وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ )الأصل أن المسارعة في الأشياء الدنيوية مذمومة إلا في تزويج البكر والضيف إذا أقبل يُقرئ والجنازة تُجهز وتُدفن وأشباه ذلك مما نصّ عليه أهل العلم . لكن المسابقة والمسارعة إلى طاعة الله هذا من جلائل الأعمال التي ينبغي للمؤمن أن يحرص عليها قال الله عن كليمه موسى ( وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى ) .
ربنا يقول هنا ( وَسَارِعُواْ ) أي يا عبادي ، (إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ) المغفرة : غفران الذنب محوه وتغطيته كأن الله - جل وعلا - يستره ثم يمحوه .
(وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ) الجنة: دار ، هذه الدار جعل الله لها ثمانية أبواب ،أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - لها باب لا يدخل معه غيرها وهم شركاء الناس في غير ذلك من الأبواب .قال الله عن هذه الجنة أن عرضها كعرض السماء والأرض وهذا بيان لعظيم سعتها ، والغبن كل الغبن ألاّ يجد رجل ما أو امرأة ما فيها موضع قدم مع أن الله يقول (عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالأَرْضِ ) هذا هو الغبن الذي تتفطر عليه القلوب لكن نسأل الله لنا ولكم الجنة .
/ ( وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ) التقوى - بإيجاز - لا يقبل الله غيرها ولا يرحم الله رحمة خاصة إلا أهلها ، ولا يستكبر عنها أحد ولا يُستثنى منها أحد بدليل أن الله قال في صدر سورة الأحزاب يُخاطب أشرف الخلق ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ ) فإذا خوطب سيد الخلق بقول الله ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ ) فمن باب أولى أن يُخاطب بها كل أحد .
/ (أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) ثم ذكر طرفا من خصائصهم قال : ( الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء ) الإنفاق في السراء والضراء مظنة حسن ظن برب العالمين - جل جلاله - فالذي يُنفق على يقين أن الله - جل وعلا - يُخلفه وأن الله يتقبل منه وإلا لا يُنفق .
وثمة فائدة في هذا الباب : جاء في حديث السبعة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ( ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه ) له صورتان :
الصورة الأولى : المشهورة المعروفة أن الإنسان يتوخى بماله أحدا من الناس لا يعرفه ولا يعرف الهيئة التي جاءه بها ولا يُبصره أحد وهو يُعطي ولا يُخبر أحدا بعد أن أعطى . فرجل خرج من بيته مساء ثم ذهب وهو في بلدة غريب فرأى رجلا فقيرا لا يعرفه فأعطاه ما كتب الله أن يُعطيه ثم كتم هذا ولم يُخبر به أحدا ولم يُحدِّث به زوجة ولا والدا ولا ولد فهذا قريب من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - (حتى لا تعلم شماله ما تُنفق يمينه )
الصورة الأخرى والمراد بيانها هنا : أن يُعطيه والمُعطى لا يدري أنها عطية ، يستعمله في عمل من أجل أن ينفعه لا من أجل أن يخدمه ثم يُعطيه ما يعلم يقينا أنه ليس مقاربا لأُجرة مثله لكنه أراد أن يكرمه مع أن يحفظ له ماء وجهه ، فالناس يظنون أنه يُعطيه لأنه يستخدمه ، يستعمله في عمل ، وهو يأخذ ظنا أن هذا حقه وأُجرة عمله والذي أعطى لا قصد أن يستفيد منه البتة وإنما قصد أن يُعطيه ويُنفق عليه وزيحفظ له ماء وجهه .
هذا أرجح ما يُمكن أن يُقال في قول النبي - صلى الله عليه وسلم - ( حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه ) .
/ ثم قال ( وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ ) حالة الناس مع بعضهم البعض لابد أن ينجم عنها غيظ من هذا أو ذاك لكن شتان بين من يكظم غيظه خوفا وفَرَقا والحال بالنسبة له يعجز مثله أن يرد ، هذا ضعيف له أجر لضعفه لكن من يقدر ثم يتذكر وعد الله للكاظمين الغيظ فيكظم غيظه هذا المندرج في الآية (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ ) . فلما بيّن هذه المنزلة دعا إلى أعلى قال ( وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ) ثم بيّن قال ( وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ) ثم قال ( وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ ) . كل بني آدم خطّاء . شاب يُبتلى بمعصية ما قد تشتهر بينه وبين كثير في مثله ومثل أقرانه ، ليس الصواب فيها أن تُخبر كل شيخ ما حكمها أو أن تُخبر قرينا مثلك عنها إنما الصواب أن تستغفر الله منها وأن تُسارع في حسنة تمحوها . الله يقول ( إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ) .
/ ( وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ ) علموا أن لا أحد يغفر إلا الله فلجأوا إليه ( وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ *أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ) .
/ (قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ) لله - جل وعلا - سُنن لا تتبدل ولا تتغير من أجلّها أن الله لا يعجل لعجلة أحد من خلقه فالتدرج في النيل في المطلوبات أو الدفع في المرهوبات سنة إلهية لا يمكن أن تتبدل . هذه واحدة .
- من سنن الله - جل وعلا - التي لا تتبدل أن صنائع المعروف تنفع أهلها ، وأنه بالعدل قامت السموات والأرض فبقاء أي أمة على مستوى الجماعة مرهون بقيام العدل فيها .كما أنه من سنن الله التي لا تتبدل أن الله - جل وعلا - إذا أراد بعبد خيرا هيأ له أسباب الوصول إلى ذلكم الخير وقد يكون تنحيك عن الشيء هو السبيل إلى أن تناله بينما تظن أن بقاءك فيه هو السبيل إلى نيله .
لما أراد الله بموسى خيرا أبعده عشر سنين في أرض مدين على عفة فرجه وإشباع بطنه . ولما أراد بيوسف الولاية أبعده سبع سنين أو أكثر وهو في السجن . ولهذا علي رضي الله تعالى عنه وأرضاه لما ولي الأمر كان الناس في شحناء بعد مقتل عثمان فجاءه ابن عمه عبد الله بن عباس وكان عبد الله في علم السياسة ربما أكثر من علي فقال له : يا ابن عمّ دع الناس وهم ماهم فيه واخرج إلى مالِك في ينبع - كان له مال أي بستان في ينبع - وامكث فيه فإن العرب ستدور دورتها وتميد ثم لا تلبث أن تُسلم أمرها إليك ، يعني سيختلفون ثم يُملؤون قناعة أنه لا سبيل لهم إلا أنت ، أنت أصلح الناس للحُكم ولا تبدأ به .
بقدر الله - والله غالب على أمره - لم يقبل علي - رضي الله عنه وأرضاه وهو أفضل من ابن عباس - لم يقبل نصيحة ابن عمه فكان ما كان مما هو معروف .
موضع الشاهد : حتى تكون نافعا لنفسك ، نافعا لأمتك يجب أن تعلم أن لله سُنن وتلحظها في حياة الناس . الناس يُحبون من يُحسن إليهم ويُبغضون من يُسيء إليهم ، هذه سنة لا تتبدل ولهذا قيل : سادة الناس في الدنيا الأسخياء وسادة الناس في الآخرة الأتقياء . فلو أن رجلا تقياً مُلئ قلبه ورعا لكن لا حظّ للناس عنده ما اجتمع الناس على بابه . لكنه لو كان سخيا أيّا كان حاله فالناس يجتمعون على بابه ويقبلون منه ، والناس جُبلوا على حب الدينار والدرهم .
عبد الملك بن مروان - رحمه الله ورحم الجميع - اختلف مع عمر بن سعيد الأشدق - رجل أموي مثله - فلما اختلفا في الحُكم اتفقا على أن يجتمعا على مكان يتفقان فيه - كما يحدث الآن في الزعامات السياسية - الموضوع : فجاء عبد الملك فذبح عمر بن سعيد فدخل عليه أحد أصحابه قال : ما رأيك في عمر ؟ فهذا رآه مذبوح عرف أن الأمر قُضي ، قال : ليس له حل إلا أن تقتله ، لأنه إن لم يقل هذا لثنى به ثم قال له : كيف أصنع بأتباعه ؟ كان أتباع عمر بن سعيد خارج القلعة ينتظرون خروجه . قال : يا أمير المؤمنين ارم لهم برأسه فإذا هاجوا ارم لهم بصُرر الدنانير والدراهم فإنهم سيُشغلون بأخذها ويتركون ثأره . فلما ألقى برأسه صرخ الناس ففي ظل مطالبتهم بالثأر أخذ يرمي الصُرر تُملؤ بالدينار والدرهم فكل أحد يخاف أن يغتني زيد وهو فقير أخذ يأخذ الصُرة ويفِرّ خوفا من أن يُطالب بإعادتها فلم يبقَ أحد .
أيّا كان هذا حدث تاريخي وقع لكن القضية كيف تستفيد من الوقائع لا أن تُعرّج بها في ذم أحد ومدحه لكن كيف تستلّ منها ما ينفع في حياتك . والموفق الله .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق