الاثنين، 30 مايو 2011

الوقفة الأولى في جـ 4 / مع قوله تعالى ( إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ )





بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى ، والصلاة والسلام على من علّم الله به من الجهالة وهدى به من الضلالة . أيها المباركون : هذا تأمل في الجزء الرابع من كلام الله وسنقف معه كما جرت العادة ثلاث وقفات .
الوقفة الأولى : مع قوله الله - جل وعلا - ( إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ*فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّه غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ)/ قول أرحم الراحمين ( إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ ) فيه مُقدر محذوف والمعنى : إن أول بيت وضع للناس للعبادة . والمساجد تُسمى بيوت الله فهي تُضاف إلى الله تشريفا، وتُضاف إلى غيره تعريفا .
فمثلا : منطقة قُباء بنى النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها مسجدا أول ما وصل فنُسب هذا المسجد إلى المنطقة التي بُني فيها فيُقال عنه مسجد قُباء ، فهذا تمييزا له عن غيره ولهذا يُقال تضاف إلى غير الله تعريفا ، فإذا قلنا هذا بيت الله فهذا تشريفا .
/ قال ربنا ( إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ) أي بمكة ، والباء والميم حرفان يتناوبان لكن جيء بالباء هنا ولم يؤتَ بالميم لأن البكّ يعني الزحام فلما ذكر الله - جل وعلا - مسألة الحج أُبدلت الميم باء وإلا مكة هي بكة .
/ ( إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا ) نعت الله هذا البيت بأنه مبارك ومن تأمل الكتاب والسنة وجد أن البركة تقع على الأشخاص وعلى الأزمنة وتقع على الأمكنة وتقع على غير ذلك .فالله - جل وعلا - يقول ( وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ ) فهذا من وقوعها على الأشخاص ، وقال هنا عن بيته المبارك ( إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا ) وهو مكان ، وقال - جل وعلا - ( إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ ) وهي زمان ، وعلى هذا يمكن أن تقيس .
/ ( إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ *فِيهِ) أي في البيت ، في المسجد ( فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ ) هذه الآيات منها ماهو محسوس ومنها ماهو معنوي .
( فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ ) ومعنى مقام إبراهيم : حَجر ارتقى عليه إبراهيم عليه السلام لما أراد أن يبني البيت ، بل بتعبير أوضح عندما ارتفع البنيان وهذا يقود إلى مسألة :
من أول من بنى البيت؟والصواب - إن شاء الله - أن أول من بناه الملائكة ، بنته لأبينا آدم ثم ذهبت معالمه على حين فترة من الرسل فهيأ الله وبيّن للخليل مكان البيت قال الله ( وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ ) كيف بُوئ ؟ لا يوجد أمامنا نص صريح لكن قال بعض العلماء : إن سحابة أظلت فعلى ما أظلته السحابة بنى إبراهيم .
وقال بعض العلماء : إن ريحا أُرسلت فكنست المكان فعرف إبراهيم البيت . وقيل غير ذلك لكن الذي يعنينان الله هو الذي بوأ لإبراهيم مكان البيت .
/ قال ( إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ*فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ ) إبراهيم عليه السلام ترك هاجر وابنها وعاد إلى أرض الشام ثم عاد مرة فلم يجد ابنه ثم عاد مرة أخرى فلم يجد ابنه ثم عاد في الثالثة فوجده يبري نبلا تحت دوحة فلما رآه أقبل كل منهما على الآخر فصنع إبراهيم ما يصنع الوالد بولده وصنع إسماعيل ما يصنع الولد بوالده .
فقال الخليل لابنه إن الله أمرني أن أبني له بيتا ، قال : يا أبت أطع ربك ، فأشار إبراهيم إلى مكان البيت الذي بوأه الله له وبُني البيت ونسب الله البناء لهما فقال ( وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا ) قرن ما بين العمل الصالح وما بين الدعاء وهذا من أعظم طرائق الطاعات أن يقرن الإنسان ما بين عمله الصالح وما بين الدعاء تقرنه أولا بالتوفيق والإخلاص قبل أن تأتيه وتقرنه بعد أن تأتيه بأن يقبله الله - جل وعلا - منك ، إن وُفقت لهذا كنت على خير عظيم .
أحد من الناس له والدة ، ظروف عمله تجعله ينأى عنها فيُبيّت في قلبه يوما - إجلالا لله قبل أن يكون إجلالا لوالدته لأن الله أوصاه بها - فيحمل زادا من طعام وهو في طريقه إليها يسأل الله أن يُخلص نيته ويزيده توفيقا فيما يصنع فإذا دخل عليها يستصحب قول الله ( وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ ) فإذا خرج من عندها وقد أطعمها يتضرع إلى الله أن يقبل منه ما صنع ،هذا معنى قول الله ( وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا ) فرفع إبراهيم القواعد ، لما اعتلى البنيان وارتفع احتاج إلى أن يرتقي فجيء له بصخر فارتقى عليه . كان القلب الإبراهيمي ليّنا في ذات الله فألان الله الصخر تحت قدميه ، لان لله قلبه فألان الله الصخر تحت قدميه فأضحت آثارهما واضحة ،يقول أبو طالب في لاميته التي قالها في الشعب : وموطء إبراهيم في الصخر رطبة *** على قدميه حافيا غير ناعل كانوا يرونها .

فهذا مقام إبراهيم الذي ذكره الله وجعله آية ، لم يجعله آية ليأتي العاكف والباد يتمسح به ، إنما جعله الله آية ليعلمه الناس فيعلمون كيف أن الله يُسخر لبعض خلقه ما لا يُسخره لغيرهم لعلو مرتبتهم وسلامة قلوبهم وصدق توجههم إلى ربهم .
/ قال الله - جل وعلا - في الآية التي نشرحها ( وَمَن دَخَلَهُ ) دخل البيت ( كَانَ آمِنًا ) وهذه فيها خلاف طويل للعلماء لكن أفضل ما يُمكن أن يُقال أمّنوه ( وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا ) أي يُطلب من أولياء الناس في الحرم أن يُأمنوا كل داخل إلى البيت . وهذا البيت حتى قريش على كفرها في السابق كانت تُعظم من يدخل إلى البيت ويقولون إن ضبة بن أدّ أحد العرب في الجاهلية كان له ابنان سعد وسعيد فألبس أحدهما يوما حُلة فخرج بها فلقيه رجل من الفتّاك في الطريق فأعجبته الحُلّة فقتل سعيد وأخذ الحُلة ، فأصبح ضبة ينتظر كل يوم أن يعود سعيد فلا يأتي فكلما أقبل أخوه الأكبر ظنه الأصغر فيقول سعد أم سعيد فضُربت مثلا ، ثم إنه حجّ فوجد في البلد الحرام رجلا يلبس نفس الحُلّة فعرفها فقال : أنّى لك هذه الحُلة ؟ قال : هذا رجل لقيته في الطريق فقتلته وأخذت حلته - وهو لا يعرف أنه أبوه - فقال : أبسيفك هذا قتلته فإني أراه سيفا ماضيا ؟ قال : نعم ، قال : أرنيه ، فأعطاه السيف فقتله به فلامته العرب - هذا موضع الشاهد - على أنه قتل غريمه في البيت الحرام فقال المثل المشهور " سبق السيف العذل " أي العتاب و اللوم .
موضع الشاهد منه : أن العرب كانت تُعظم البيت الحرام وإلا لما لامت ضبة على أنه قتل غريمه .

/ قال الله - جل وعلا - ( وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا ) والنبي - صلى الله عليه وسلم - سُئل عن رجل كان قد جاوز وأسرف في عداوته ، قال اقتلوه ولو وجدتموه متعلقا بأستار الكعبة عبد الله بن أخطل .
/ قال ربنا ( وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا ) ثم قال ( وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ ) بيت بناه أرحم الراحمين ، أمر ببنائه أرحم الراحمين وتعبد الخلق كلهم أن يحجوه قال الله ( وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ ) ولرأفته بعباده ورحمته بخلقه استثنى قال ( مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ) وهذا يتفق مع سياقات القرآن كلها ( لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا ) لكن من كان يقدر أن يصل إليه ومنعه الكِبر في قلبه فإن الله غني عنه ( وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّه غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ) .
وقد ذكروا أن رجلا يُقال له ابن طارق في زمن السلف الأول كان يطوف كل يوم بالبيت سبعين مرة ، كل مرة سبعة أشواط وكان يُجاوره رجل يُقال له كُرز ، كان كُرز هذا مشهور بقيام الليل وابن طارق مشهور بالطواف فكان أحدهم يقول للآخر لو شئت كنت ككُرز في تعبده أو كابن طارق حول البيت في الحرم . لكن هذا لا يُطالب به كل أحد وهذا فضل من الله يؤتيه من يشاء . موضع الشاهد منه : أن الطواف بالبيت من أشرف العبادات ، لكن يُنبه : لا يجوز أن يُطاف حول أي بناء إلا الكعبة لا الأضرحة المنتشرة في بلاد المسلمين هنا أوهناك ولا القبور ولا المشاهد ولا قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا أي ضريح بُني أو أي قبر شُيّد . لا يجوز البتة ولم يأذن الله بأن يُطاف حول بناء إلا بالكعبة وحدها .
رزقني الله وإياكم حجا مباركا إلى بيته .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق