السبت، 4 يونيو 2011

تفسير سورة البقرة من آية 30 وحتى آية 61 / من دورة الأترجة

الشيخ د . محمد بن عبدالله الربيعة


بسم الله الرّحمن الرّحيم، الحمد لله ربّ العالمين والصّلاة والسّلام على رسول الله محمد بن عبد الله وعلى آله وأصحابه أجمعين أما بعد،،
أيها الأحبة: قد وصلنا إلى قصَّةٍ كريمةٍ عظيمة يُظهِر الله تعالى فيها كرامة بني آدم، وكيف أنّ الله تعالى شرّفهم واختارهم لحمل أمانته، وكيف أنّ الله عزّوجل كرَّم هذه الأمّة المحمدِّية وشرَّفها بالإمامة بعد ذلك.
معنا أيُّها الأحبة الآيات من سورة البقرة في قصَّة آدم عليه السَّلام, من الآية (30- 39) قال الله عزّوجل: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً...)
هذه الآيات تُركِّز على إكرام الله عزّوجل لآدم بالخلافة, وقد ذكرنا – بارك الله فيكم- لِنَصِلَ الحديث بمقصد السُّورة في كلِّ مقطع، فإنَّ هذا الحديث يصل بمقصد السُّورة التي ذكرنا أنّها في إعداد أمّة الإسلام للخِلافة والإِمامة وحمل أمانة الدّين وتكليفُها بالشَّريعة وأمرها بالتبليغ، جاءت هذه القصّة الكريمة لتكون إشارة إلى أوّل استخلافٍ في الأرض وأنّكم أيُّها الأمَّةُ المحمدية ورثةٌ لأبيكم آدم ـ عليه السّلام ـ في هذا الاستخلاف.
هذه الآيات وهذه القصَّة ـ كما ذكرتُ لكم ـ تدُّلُنَا على أصل الخَلق البشري، وحكمة اللهُ عزّوجل في خلقهم وهو تكريمهم وتكليفهم بالخلافة ولذلك الله عزّوجل قال: (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) ما قال بشر ولا قال آدم قال: (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) وفي هذا إِشارة إلى أننّا نحنُ الجنسُ البشري قد استخلفنا الله تعالى في هذه الأرض لعمارتها بطاعته وعبوديته، وكما سيأتي في آخرها: (فمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ) وذكرنا مناسبة هذه الآيات لسياق السُّورة وأنّها تصِل هذه الأمّة المحمدّية المستخلفة بأوّل خليفةٍ في الأرض وهو أبوها وهو الأصل الأوّل لها وهو آدمَ عليه السِّلام. لعلّنا نُتابع الحديث في تأمُّل الآيات آية آية.
/ الآية الأولى هي قول الله عزّوجل: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ) هذه الآية غرضُها وهدفُها في بيان حكمة الله في خلق آدم وهو – كما ذكرتُ لكم- الاستخلاف في الأرض لِعبادة الله عزّوجل استدلالاً بذلك على ذُرِّيته من تبعه من بعده في لزوم إتباع الهُدى.
وقال الله عزّوجل: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ) والحديث والخِطاب لمن؟ للنَّبي ـ صلى الله عليه وسلّم ـ ثمّ لمن بعده من أمتّه لكلّ من قرأ هذه الآيات، فالحدّيث ابتداءً متوّجهٌ إلى النّبي ـ صلى الله عليه وسلّم ـ وهذا فيه لطيفةٌ مهمّة توجيه الخِطاب للنّبي صلى الله عليه وسلّم ماذا يُشعِر؟
يُشعِر حينما يُخاطب بذلك بأحقِّيَته وأحقِّية أمّته في وراثة هذه الخلافة العُظمى وهذا التَّكريم،كأنّه تسليم له لهذه الخِلافة ، ثمّ أيضاً إخبارُ الله ـ عزّوجل ـ لملائكته عن استخلافِه لآدم في الأرض، ماذا يُشعِر؟ يُشعِر بأنَّ هذا الأمر ذو شأنٍ عظيم عند الله ـ عزّو جل ـ ولو لم يكن كذلك لما أخبر ملائكته بذلك، فهذا يدُّلنا على كرامتنا عند ربِّنا وأنّ الله ـ عزّوجل ـ أخبَر وأعلَم ملائكته بذلك, ثم أيضاً التنَّصيص على وظيفة الخِلافة دون أن يقول إنّي جاعلٌ في الأرض خَلقاً أو بشراً إبرازٌ لماذا؟! إبرازٌ للقيمة الكبرى والمهمَّة العُظمى لهذا المخلوق ودوره في الأرض، وأنّه بهذه الخلافة يُعتبَرُ عامِلاً مُهمَّاً في نظام الكون كُلَّه إذ أنّ خلافته في الأرض تتعلّق بارتباطات شتّى في الكون،بسمائِه، وأرضه، وشمسه، وقمره، ورياحه، وأمطاره كُلُّ هذه المخلوقات مربوطةٌ بهذا المخلوق في عبوديته للّه عزّ وجل, فهذا يَدُّلنا على فضل هذا المخلوق وعِظمِ شأنِ ما خلقه الله تعالى له.
ثمّ قال الله عزّ وجل في قول الملائكة: (قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ ) هذا القول من الملائكة هو:

اعتراض،أم هو تساؤل،أم هو تعجُب؟!اختلافُ العلماء في ذلك كبير، لكن الصَّحيح الذّي عليه جمهور الـمُفَسِّرين هو أنَّ قولهم ذلك تَعَجُباً (قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ) يعني كيف يكون خليفة ومن ذرِّيته من يُفسد ويسفِك الدِّماء! فهُم قالوا ذلك على وجه الاستغراب والتّعجب من كون ذرِّية هذا الخليفة يحصُل منهم ذلك، مع أنّهم أيّ الملائكة مُقيمون على التّسبيح لله ـ عزّ وجل ـ والسَّلامة من الآثام، فغرضُهم شدّة التّعجب مع التّعريض بأنفسهم أنّهم أولى بذلك لأنَّهُم يُسبِّحون الله ـ عزّ وجل ـ ويُقَدِّسونه وهم سالمون من الآثام، وخَفيت عنهم - عليهم السَّلام - حكمةُ الله العُظمى في شأن هذا الخَلق وما سيكون فيه من مصالح عظيمة . وهُنا سؤال مُهِم قد يَرِد على ذهن كُلِّ واحِدٍ مُتدَّبر!

كيف عَلِم الملائكة أنّ هذا المخلوق سيكون من شأنِه وشأن ذُرِّيته الإفساد وسفَك الدِّماء، أيّ كيف قالوا: (أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ)؟
القول الأوّل: أنّهم علموا ذلك قيِاساً على من سَكَن الأرض قبل هذا المخلوق وهُم الجِنّ، على ما تذكُر الرِّوايات هذا قول وهو قولٌ قويّ .
القول الثاني : وهو قد يكون أقوى من القول الأوّل ، وهو أنّهم حينما اطَّلَعُوا على طبيعة هذا المخلوق وأنّه أجوف وعَرَفُوا أنّه بِخلقته ضَعيف لن يستطيع أن يُقاوم, فَرُكِّبت فيه الطَّبائع الأربع فعرفُوا أنّه سيكون منه ذلك.
القول الثالث: وهُو القول الأصّح عندي- والله أعلم- بعد تحرير هذه المسألة وهي مسألة طويلة أطال فيها العلماء, هو أنّ الله عزّ وجل أخبرهم أطلعهم على ذلك قال: ( إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً) - وهذا فيه بعض الروايات واردة - قالوا: وماذا يكون من شأن هذا الخليفة؟ قال يكون من شأنه كذا، وكذا وكذا، وأنَّ من ذُرِّيته من يُفسِد ويسفِك الدِّماء، يعني أنّ الله أخبرهم بذلك عن أن يكون شأنهم، وهذا أمرٌ قد يكون قريب لأنَّ الملائكة حين أخبرهم الله بذلك قالوا ما شأن هذا الخليفة ونحن نعبُدُك ونُقدِّس لك! يعني قائمون بعبوديتك، فماذا يكون من شأنه؟! هل هُناك شيء سيقومُ به هذا المخلوق غير ما نقوم به من التَّسبيح والعبادة لك بالطّاعة؟!
فقال الله ومن شَأنه كذا وكذا وكذا، وأنّ من شأن ذُرِّيته من يُفسد في الأرض ويسفك الدِّماء (قالواأَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ)تَعُجُّباً، كيف يكون ذلك؟! وهذا مَعنىً يظهر والله تعالى أعلم أنّه أدَلُّ وأقرب لما أخرجه ابن جرير وغيره عن ابن عبّاس وابن مسعود وأناس من أصحاب النّبيي - صلى الله عليه وسلّم - أنّ الله عزّ وجل قال للملائكة: ( إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً) قالوا ربُّنا وما يكونُ ذلك الخليفة؟! قال يكونُ له ذُرِّية يُفسدون في الأرض ويتحاسدون ويقتُل بعضهم بعضاً، فقالوا: ( أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ) ، وعلى كلِّ حال فالأقوال الثّلاثة كلُّها واردة.
ما معنى قول الملائكة نحن نسُبِّح بحمدك ونُقدِّس لك؟ وما الفرق بين التَّسبيح والتقدِّيس؟التسبيح هو التَّنزيه كما قال ابن جرير ، ومقصودُهم هو تنزيهُهُ عزَّوجل من الإفساد في الأرض عمّا يقع من هؤلاء من الكُفُر والشِّرك وهو الإفساد في الأرض، وأعظم الإفساد في الأرض لا شك هو الكُفُر। فلمَّا أخبرهم بأنَّ من هؤلاء من يُفسِد في الأرض قالوا: (نَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ) يعني ننُزِّهُك عن هذا الشِّرك الذّي يقع من هؤلاء وهو أعظم الذّنب (وَنُقَدِّسُ لَكَ ) أيّ نُطَّهِرُ أنفسنا لك وليس معنى (نُقَدِّسُ لَكَ) يعني نقدسك أنت وإنما قالوا (نُقَدِّسُ لَكَ) بمعنى نطهّر أنفسنا لك ، والتَّقديس هو التَّطهير بمعنى أنّهم يُطَّهِرُون أنفسهم من أعظم الآثام ومن أعظمها سفكُ الدِّماء.فانظروا كيف قابلوا الإفساد بالتَّسبيح وقابلوا القتل بالتَّطهير والتَّقديس ، ولو كان المقصود تقديس الله لقالوا: ( نُقدِّسُكَ).
/ قال الله عزّوجل:(إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ) ما مَعناه؟!
اختلف ااـمُفَسِّرون فيها اختلافاً طويلاً، لكن الرَّاجح - والله تعالى أعلم - أنَّ المراد علمه بالحكمة من خلق آدم عليه السّلام، وأنّ في ذلك من الخير العظيم الذّي لا يعلمونه, ومن ذلك ما يُشعِرُ بأنّه تعالى سيُظهِر من ذريّة هذا الخليفة من خِيَار خلقه، ورسله، وأنبيائه، وصالح عباده ،والشُّهداء، والصّالحين، والصِّديقين، والعلماء، وأهل الإيمان والطّاعة، والجهاد من قد يكون خيراً من الملائكة كما ذكر هذا ابن القيّم ـ رحمه الله تعالى ـ ، وبأنّ وراء خلق هذا الحال مصالح أخرى لا تعلمُها الملائكة من إقامة أمر الله وإظهار حِكَمِه وآثار أسمائه وصفاته، لو لم يكن هذا المخلوق كيف يظهر اسم الله الغفور؟! وكيف يظهر اسم الله القدير؟ قدير على الكافرين، وغفورٌ للمؤمنين التّائبين، فلا تظهر أسماء الله وآثارها إلا بهذا المخلوق وأعماله، فيحصُل من وراء ذلك المخلوق، حِكَمٌ عظيمة عَلِمَها الله ـ عزّوجل ـ وخَفيت عن الملائكة ـ عليهم السّلام ـثمّ بعد ذلك أيُّها الإخوة أراد الله - وله الحكمة البالغة - أن يُبيِّن للملائكة فضلَ آدم، وفضائله، فأوَّلُ فضل وأوُّل تشريف هو إخبارُهم بأنّه خليفة، ثمّ جاءت الخَاصِيَّة الثَّانية والتّشريف الثّاني وهو قول الله عزّوجل: (وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) ، في هذه الآية أيُّها الإخوة تعيين الخليفة بأنّه آدم وتشريفُه بفضيلة العلم، التي هي من أعظم ما يَشرُف بها الإنسان، بعد بيان فضيلته بالخِلافة في الأرض إظهاراً لتكريم الله ـ عز ّوجل ـ لبني آدم بالعلم، وإلزاماً بالإيمان به ومعرفة حقِّه سبحانه, إذ العلم يبعث على الإيمان بالله ومعرفته، والعلم يُورِثُ المعرفة.
انظروا وتأملُوا معيّ قال الله: (وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ) إبراز اسمِ آدم في مقام العلم يدلُّ على شرف وذو شأن، ما قال علَّمه هذا الخليفة قال: (وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ) فهذا فيه إبرازٌ لاسمه تشريفاً له، تنصيصاً عليه، وفي قوله: (عَلَّمَ آَدَمَ) فيه معانٍ ظاهرة في فضيلة آدم وجنسه البشريّ بالعلم منها:أوّلا: التَّرقي من تشريف آدم بالعلم بعد ذكر الخلافة.
ثانيًا: الإشارة إلى أنّ العلم والمعرفة هو المُناط للخلافة والعمدة فيه. يعني الخلافة والإمامة في الدِّين تستلزم العلم، وهذا الذّي يكون في الأنبياء والمرسلين يبعثهم الله ويُرسِلهم بالعلم، فلا تقوم الخلافة والاستخلاف إلاّ بالعلم.
ثالثاً: أنّ الله خصَّه وشرّفه بالعلم دون الملائكة المقرّبين عنده، قال: (أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء) فتخصيصُ آدم دليل على فضله.
رابعاً: أنّ الله جعل العِلم أوّل وأعظم خصائصه.
خامساً: تعليمُه إيّاه، فلم يوُكِل ذلك لأحد، لم يُوكل تعليمه للملائكة وهذا شرفٌ عظيم.
سادساً: فيه أيضاً تحدِّي الملائكة بأن يأتوا بما علَّمه إياه لإبراز فضله عليهم.
سابعاً: وفيه تعليمه الأسماء كُلّها، فلم يُعلِّمه جزءاً منها.
ثامناً: وفيه شرف بني آدم بهذا العلم، وأنّه أعلى وصف يتصِّف به الإنسان ، أعلى وصف يتصف به الإنسان العلم بالله - عزّوجل -والعلم الذّي يُقرِّب إلى الله - سبحانه وتعالى - وأنّه هو السِّر الإلهي العظيم الذّي أودعه هذا الكائن البشري وهو يتقلّد الخلافة.
/ ثم قال الله عزّوجل: (ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ) يعني بعد ذلك، والإتيان بـ ( ثُمّ) فيه إشارةٌ للمنزلة لآدم ، (فَقَالَ أَنبِئُونِي) وفي هذا تعجيزٌ من الله لهم عليهم السّلام في قوله: (إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) تعجيزٌ لهم أيضاً عليهم السّلام وتعظيمٌ للأمر.
(قَالُواْ سُبْحَانَكَ) وهذا معنىً دالٌ على شَرف الملائكة، وحُسنِ وكمال أدبهم وكمال طمأنينِيَّتهم ويقينهم بفضل هذا الخليفة وشرفه لأنّهم استسلموا فقالوا: (سُبْحَانَكَ) لو لم يكن ذلك استسلام منهم لجادَلوا، فما كان منهم عليهم السّلام وهم البررة المطيعون لِرَبِّهم إلاّ أن قالوا (قَالُواْ سُبْحَانَكَ) وهذا الاستفتاح بالاعتذار والتَّوبة أيُّها الإخوة هو سُنَّةُ المرسلين وهو أدبُ التَّائبين الصَّادقين، وهو أدبٌ ينبغي أن يتمثّله الإنسان في اعتذاره وتوبته لِرَّبه. أليس يقول موسى في توبته: (سبحانك تُبتُ إليك) وقال ذي النّون: ( سبحانك إنّي كنُتُ من الظّالمين)، فهذا أدبٌ ينبغي أن يكون في حال التّائبين المستغفرين.
/ قالوا (لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا ) وهذا فيه أدبٌ آخر وهو أنّهم عَلِموا بأنّهم نَفُوا العلم عن أنفسِهم، وبيّنوا أنّهم لا علم لهم إلاّ من اللّه ـ عز ّوجل - وهذا يُبيّن أنّه لا علمَ للإنسان إلا بما علّمه الله قال: ( إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ) وذكروا العلم والحِكمة إشارةً إلى ما ذكره الله تعالى في حكمته في هذا الخَلق وهو حكمته في خلق آدم .هنا سؤال: ما وجه تقديم إظهار فضل آدم بالعلم قبل الأمر بالسُّجود له؟!هو الآن الله - عزّ وجل - ذكر لهم أنَّه الخليفة ثمّ فضّله بالعلم قبل أن يأمرهم بالسُّجود له
في هذا كما ذكر بعض الــمُفَّسرين أنّه من باب ترتيب الدّليل على المقصود، وذلك أنّه لمّا كان الغرض في بيان فضيلة آدم وما شرّفه به من الخلافة في الأرض، اقتضى الأسلوب الحكيم أن يُوضِّح لهم الحُجّة في فضيلة هذا الخليفة وسبب تعيينه والأمر الذِّي يَظهر به شرفه عليهم. فلمَّا فرغ من محُاجّتهم وبيّن لهم فضله أمرهم بالسُّجود إليه ليكون إقرارهم قولاً وعملاً، إقرارهم بالقول (سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا) وإقرارهم بالعمل بالسُّجود له كما أمرهم الله عزّ َوجل./ ثمّ قال الله عز ّوجل: (قَالَ يَا آَدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ)
في هذه الآية أيُّها الإخوة أنّه لما طلب منهم الإنباء عن الأسماء فعَجِزوا عن ذلك، أراد سبحانه يُظهِرَ فضل آدم عليهم فقال: (يَا آَدَمُ) فناداه باسمه تشريفاً له وإظهاراً له في الملأ الأعلى، لا شكّ أنّ ذلك تشريف لآدم إذ يُنادِيه الله عزّوجل ويطلبُ منه أن يُخبرهم بالأسماء.(قَالَ يَا آَدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ) أيّ الأسماء التي علّمها الله تعالى إيّاه وهي أسماء الموجودات كُلّها। قيل: علّمه الأسماء، قيل: علّمه الــمُسَّميات، في هذا خلاف كثير, قيل: علّمه أسماء الطيّر، أسماء الملائكة، أسماء الجِنّ. وقيل: علّمه الأسماء ومدلولاتها وهو الأظهر والله تعالى أعلم./ قال الله - عز وجل - ( أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ) ما عَلاقةُ هذا؟ لإظهار كمال علمه - سبحانه وتعالى - وشمول إحاطته بالخلق ، وأنّه - سبحانه وتعالى - له الأمر كُلُّه وله العلم كُلُّه وله الحكمة كُلُّها فيما يختاره ويأمر به، وهذا يبعثُ على الامتثال فإذا قال الله أمر فلا ينبغي لأحدٍ من خلقه أن يعترِض عليه (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) ذلك أنّ الله له الحكم والأمر ، هذا معنى قوله (إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) وفي هذا معنىً لطيف ذكره بعضُ المُفَسِّرين في قوله: (إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) وهو الغيب العام ومنه الغيب المُتَّعلق بآدم، وما سيكونُ من شأنه مع إبليس في الجنّة، وما سيكونُ بعده من تكليف، والبعث، والجزاء، والجنّة، والنّار، وعِلمِه بالملائكة وما يكونُ من شأنهم ممّا فيه قيامٌ بما يأمرهم الله ـ عز ّوجل ـ بما يُحققّ لآدم وذُريّته الخلافة ممّا يكون من جبريل ـ عليه السَّلام ـ من حمل أمانة الرسالة وتبليغها وأمانة الوحي، وما يكون من مَلَك الموت وما يكونُ من شأن مَلَك الجِبال وغير ذلك ممّا يكِلُهُم الله تعالى به .
/ ثمّ قال: (إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) ما معنى وما كُنتُم تكتمون؟ هل كَتَم الملائكة شيئاً عن ربّهم؟! لم يكتموا، ولذلك هنا فيه إشارة إلى أنّ الله يعلم فيما لو كنتم تكتمون شيئا فإنّ الله يعلمه، في هذا إشارة للخلق بأنّهم يعلمون أنّ الله مُطَّلع على ما في نفوسهم ، وفيه إشارة ولطيفة أيُّها الإخوة متعلّقة بقصّة آدم وهو معرفته وعلمه بما يكتمه إبليس حين رأى خلق آدم وأنَّه لا يَتَمَالك لأنّه أجوف، ثمّ قال للملائكة الذِّين معه حين رأوا خَلقه: أرأيتم إن فُضِّلَ هذا عليكم وأُمرتم بطاعته، ما تصنعون؟! قالوا: نُطيع الله, قال إبليس في نفسه قال: والله لئن سُلّطتُ عليه لأُهلِكنَّه، ولئن سُلِّطَ عليَّ لأعصيَنَّه, هذا ممّا في كان قرارة إبليس حين علم بخلق آدم، فقال الله: (وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) لأنّ إبليس لم يُعلِن الاعتراض إلاّ حين أُمِر بالسُّجود بعد ذلك . ولذلك قال الله - عزّ وجل - بعد ذلك: (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ) إلخ الآيات.
هذه الآيات أيُّها الإخوة فيها فضيلة آدم وتكريمه بأمر الله بالسُّجود له، وهذه الميزة الثَّالثة بعد أن شرّفه بأن اختاره للخلافة ثمّ علّمه الأسماء، هنا أَمَرَ الملائكة بالسُّجود له فهذه من الكرامات التي أكرمه الله تعالى بها لآدم، وهي كرامةٌ لِبَنيه كما قال الله تعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ ) فالآية مُتمّمة لما قبلها.
/ قال الله عزَّوجل:(وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اُسْجُدُوا لِآَدَمَ فسجدوا) قلنا أنّه جاء بالأمر بالسُّجود له بعد أن بيّن فضله بالاستخلاف والعلم، وهذا من التَّدرج في بيان الفضل.لاحظوا أنّ الله عزّوجل قال: ( فَسَجَدُوا) ماذا نستفيد من قوله: ( فَسَجدوا) ولم يقل: ( وسجدوا) ؟نستفيد منها التعبير بالفاء الدّال على الترتيب، والتعقيب سرعة امتثال الملائكة لأمر الله عز ّوجل بالسُّجود له، فيوم أن أمرهم ما تلكأوا،إنّما سجدوا مباشرة وهذا يدل على فضيلة آدم سوى إبليس قال الله - عز وجل - (إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ ) لم يقل: ( إلا إبليس لم يسجد) أو قال (إلا إبليس امتنع ) قال(أَبَى وَاسْتَكْبَرَ ) لماذا قال (أَبَى وَاسْتَكْبَرَ )؟
للدَّلالة على سبب امتناعه، وهو التكبُّر والعناد – عياذاً بالله- وليس ذلك منه لأجل التأمُّل أو التَّردد أو السؤال عن هذا المخلوق، أو لماذا أسجد، وإنّما أظهر الله ـ عز ّوجل ـ سبب امتناعه وهو التَّكبُر (أَبَى وَاسْتَكْبَرَ )ولماذا قال: ( أَبَى وَاسْتَكْبَرَ ) ولم يقل: ( استكبر ثمّ أبى )؟ لأن في الأصل أنه يستكبر ثمّ يأبى، فلماذا قدّم الإباء على الاستكبار مع أنّ حقّه التأخير؟لأنّه هو الذّي يظهر في الظّاهر، فالإباء ظاهر أمّا الاستكبار فلا يظهر لأنّه في نفس إبليس، فقدَّم ما هو دالٌّ على الأمر بحقيقته وواقِعه وهو إِبائه وامتناعه ظاهراً، فهو امتنع ظاهراً ولم يمتنع في نفسه فقط فقدّم قوله: ( أبى).ثمّ قال: (استكبر ولم يقُل تكبَّر) لماذا استكبر، ما فائدة ذلك؟!
هذا يدلُّ على أنّه استجلب الكِبِر يعني تطّلب الكبر - عياذا بالله - انظروا ما في نفس هذا العدوّ الذي وصل به الحال من الحسد لآدم أنه استجلب لنفسه الاستكبار والكِبر لئلا يسجدَ لآدم ـ عليه السّلام ـ .
/ ثم قال الله ( وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ) ولم يقل وكَفَر، لماذا؟للدَّلالة على بلوغه نهاية الكفر، أيّ أنّه قد وصل المرحلة النّهائية للكفر، وهو مُشعِرٌ بنزوله إلى أسفل سافلين بعد أن كان في أعلى عِليِّين، وفي مقابل ذلك أعلى الله آدم عُلوّاً فمنحه هذه الكَّرامة وهذا الشَّرف وهذا العُلُّو.
في هذه الصِّفات أيُّها الإخوة وإظهارُها الإباء، والاستكبار، والكُفر تعريضٌ للمستكبرين الذِّين لم يُؤمنوا بالنّبي صلى الله عليه وسلّم ولم يعترفوا به وبدعوته وبهذه الأمّة المحمّدية وأخَصَّهم اليهود وغيرهم فقد أبَوا واستكبروا وكانوا من الكافرين كما قال الله: (ولاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ) وفيه تحذيرٌ للمؤمنين من هذه الصِّفات الثَّلاث إذا جاءهم أمرُ الله عزّوجل أن يأبَوا أو يستكبِروا أو يكفروا عياذاً بالله .
/ ثم قال الله: (وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) وهذه هي الفضيلة الرّابعة وهي إسكانُه الجنّة بعد الخلافة والعلم وسجود الملائكة، جاءت الفضيلة والميزة الرّابعة وهي إسكانه الجنّة وتفضيله بذلك التي هي دار النّعيم له ولذُّريّته بعد خلافته .
وما الحكمة من إسكانه الجنّة ولم يَكتُب الله له فيها الخُلود؟
الحكمة في ذلك أنّه يريد - سبحانه وتعالى وله الحكمة - أن يُوطّئ لهم أنّ هذا جزاءكم بعد الاستخلاف، وأنّ هذا نعيمكم إن قمتم بالخلافة على أكمل وجه، فكأنّه أراد أن يُطلِعَهم على جزائهم وثمرة عملهم ممّا يدعوهم إلى العمل والامتثال والقيام بأمر الخِلافة كما أمرهم الله عزّوجل .
ثمّ قال الله: (يآدم) وهذا فيه تشريفٌ له باسمه، ثم قال: (اسكُن) ولم يقل: (اُدخل) وما الفرق بين اُسكُن واُدخُل؟اُسكُن يفيد الدُّخول وزيادة، وهو التمّكُن في دخوله وسَكنِه.ثمّ قال الله: ( وكُلا منها رَغَداً حيثُ شئتما) والتعبير بقوله: (كُلا) هذا فيه تعداد نّعم التنّعم وفيه مزيد إكرام، ولذلك قال: (رَغَداً حيثُ شِئتما) وما معنى الرَغَد؟
الرَّغَد يتضَّمن معنيين :

المعنى الأوّل: الهنيء الذّي لا عناء فيه.

والمعنى الثّاني : والواسع الكثير, هنيءٌ واسعٌ وكثير.فهو - سبحانه وتعالى - أتاح لآدم كلَّ شيء هنيئاً واسعاً، هيّناً يسيراً حصوله عليه، بخلاف ما جاء في الأعراف فلم يأتي لفُظ الرّغد لماذا؟لأنَّ السِّياق هناك في ذكر الأحوال فقط، أمّا هنا في تَعَدُّد وتِعداد النّعم وبيان الفضل.

قال الله ـ عزّ وجل ـ : (ولا تَقرَبا هذه الشَّجرة) في هذه الجملة دليلٌ على أنّ آدم لا يدوم في الجنّة، دليلُ على أنّ سُكنى آدم وأكله في الجنّة لا يدوم بقرينة النّهي عن القُربان، لأنّ المُخَلّد في الشَّيء لا يُناسَب أن يُحظر عنه شيء أو يُقيّد أو يُنهى عن شيء، لأنّه احتمال أن ينال منه، أو يَطعم منه فيُخرج من الجنّة وهو ما كان من آدم عليه السّلام حين أراد الله ذلك،فقوله: (وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ ) دليلٌ على أنّه لن يُخلّد في سكنه الأوّل.
وفي قوله: (وَلاَ تَقْرَبَا) أيُّها الإخوة لطيفة مُهمّة وعظيمة وهي أنَّ النَّهي عن القُرب (وَلاَ تَقْرَبَا) ما قال: (ولا تأكُلا) دليلٌ على أنّ الإنسان ينبغي أن يحذر من الـمُحرَّمات في قُربانه منها، ولذلك قال الله عزّوجل: (وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى) وكما قال النَّبي صلى الله عليه وسلّم: (إِنَّ الْحَلاَلَ بَيِّنٌ وَإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ لاَ يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ فقد اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ وَمَنْ وَقَعَ فِى الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِى الْحَرَامِ كَالرَّاعِى يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ) فلا شكَّ أن الإنسان إذا اقترب من الحرام شيئاً بدرجة يُوشك أن يقع، وهذا يجعلنا نقول ينبغي للإنسان أن يحتاط لنفسه ولأهله في قُربان ما فيه احتمال وقوعهم في الحرام، وأنتم تَرَون أيُّها الإخوة أنّ الإنسان مجبولٌ على الطّمع والتَزَوّد من الشّيء، فإذا دخل في شيء تزوَّدَ منه ورُبّما وقع في المحظور منه.
وفي حظر شجرة واحدة على آدم وتوسيع الحلَال عليه، فيه فائدة لَطيفة أيضاً وهي أنّ الله عز ّوجل يُشعِرُنا بأنَّ التَّكليف فيه كَفٌّ للنّفس عن المرغوب ابتداءً وامتحاناً، وأنّ هذا المنهي عنه في التّكليف فيما يُكلّفنا الله به هو يَسير مُقارنةً بما أحلَّه الله لنا, ما أحلّه الله لنا واسع، وما حرّمه الله لنا محصور. فمن فضل الله عزّوجل علينا أنّه لم يجعل المحرّم كالحلال، وإنّما جعله ضيِّق وحصره وأحلّ لنا كل شيء غير ما حرّمه الله تعالى, فهذا من حكمة الله ومن كرم الله ـ عَزّوجل ـ علينا وإلاّ فنحنُ بشرٌ ضُعفاء لا نستطيع، ومع ذلك أيُّها الإخوة كفَرَ أكثَرُ النَّاس وضَلُّوا ووقعوا فيما حرّم الله.
قال الله عزّوجل: (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ) هذه الآية في إظهار عداوة إبليس لآدم، بكونه السَّبب في زلّته وإخراجه من الجنّة، وإهباطه إلى الأرض وفي هذا تحذيرٌ ظاهرٌ لآدم وذُريّته من إبليس وذُريّته لكونه هو العدوّ، العدوّ الأوّل له ولذّريته في الدُّنيا, هذا هو المقصود أن نُدرِك أنّ إبليس هو السَّبب في خُروج أبينا من الجنّة فإذا علمنا ذلك اتَّخذناهُ عدوّاً كما قال الله عزّوجل.
ولاحِظوا التّعبير بقوله: (فأزَّلهُما) ما معنى أزَلَّهُما؟! هذه لطيفةٌ جميلة وهي أنّها تُفيدُ أنّهُ أوقَعُهُما من غير قصدٍ وتعمُّد, لم يتعمّد آدم عليه السَّلام الوقوع في أكل الشَّجرة، وإنّما أوقعه إبليس بالتَّدريج (إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ)، (هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَى) وأشار إليه بأنّك إذا أكلت من هذه الشّجرة ستكون من الملائكة ، وإنّما حَظَر الله تعالى عنك هذه الشجرة أنّك لو أكلت لَخُلدتَ فيها .
انظروا كيف يوسوس الشَّيطان لآدم وبَنيه بأنّ يُظهر له المظهر بصُورةٍ تُغريه بوقوعه في الحرام.
قال الرَّاغب الأصفهاني: "الزَّلة في الأصل استرسال الرِّجل من غير قَصد، زلَّ يعني استرسلت رِجله من غَيرِ قصد. وقِيل للذَّنب من غير قصدٍ زلّة تشبيهاً بزَللِ الرِّجل" وفي التعبير بالإزلال ما يُفيد سُرعة إيقاع إبليس لآدم وذُرِّيته في المعصية بطريق الإغراء والتَّزيين والوسوسة في هذا ما يُبيّن أيّها الإخوة سبيل الشيطان في إغوائنا وإيقاعنا في المعاصي فينبغي أن نحذر منه ومن وسوسته وإزلاله.
ثم قال الله عزّوجل: ( وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) لم يأتي النّداء هنا لآدم، لم يقل يا آدم اِهبط، لأنَّ النِّداء هنا ليس تشريف فلذلك الله عزّوجل لم يَنُصَّ عليه ويُنادِيه باسمه، وإنّما قال: (وَقُلْنَا اهْبِطُواْ ) فيدخل في ذلك آدم وحوّاء وإبليس.
قال الله: (قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى) وهذا التّكليف (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى) فالتكليف هو الهدى وهو ما أُمرنا به في أوّل السُّورة في قوله: (هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ) فانظروا كيف يتتابع الكلام في قضيّة الهُدى.
ثمّ قال الله عزّ وجل: ( وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ) ماذا نستفيد من هذه الجُملة؟
نستفيد منها أنَنّا في هذه الأرض لسنا على دوام وخُلود (وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ) وأنّ متاعَ الدُّنيا زائل (قال يا قومِ إنّما هذه الحياةِ الدُّنيا متاعٌ وإنّ الآخرة هي دارُ القرار) فالله تعالى يُشير إلى أنّ في هذه الحياة الدُّنيا متاعٌ إلى حين, فالمتاع في هذه الحياة مُنقَطِعٌ لا محالة وها نحنُ نرى بني آدم ينقطِعُون عن متاعهم في الدُّنيا جِيلاً بعد جيل .

نسأل الله التوفيق لنا ولكم والتحقيق للعبودية التامة وصلى الله وسلم على نبينا محمد.



بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين أنزل كتابه المبين وجعله هدى للمتقين..

 ثم قال الله عز وجل: (فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ) في هذه الجُملة إظهارٌ لفضيلة آدم ـ عليه السّلام ـ بعد الفضائل السَّابقة بمبادرته للتَّوبة بعد المعصية، وبُعدِ إبليس عن التَّوبة لأنّ الله ـ عزّ وجل ـ أمره بالهداية (قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ) فالأمر هنا لمن؟ لآدم وإبليس (فَتَلَقَّى آَدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ) أمّا إبليس فبقِيَ على ضلاله وكُفرِه، فهذا يَدُلُنَا على شرفِ آدم في مبادرته للتَّوبة بعد المعصية, لقوله: (فتلقّى) فالفاء للترتيب كما ذكرتُ لكم, وفي هذا إشارة وإرشاد لِبَنيه بان يَكُونوا مُبادرين بالتَّوبة حِينَ يَقَعُونَ في المعصية، وأن يتعرَّضُوا للتَّوبة بكَلِمَاتها، ولذلك الله ـ عزّوجل ـ هنا قال : ( فتلقّى آدمُ من ربِّه كلماتٍ) لماذا أخفاها الله ـ عزوجل ـ ؟ ليُشير إلى أنّ كلمة التوبة ليست كلمة واحدة وإنّمَا كلمات، وهذا من توسيع الله عزّوجل على عباده التَّائبين أنّهم لم يحصُرُهم في كلمةٍ يقولونها كما قال لبني إسرائيل: (قولُوا حِطّة) أيّ حُطَّ عنّا ذنوبنا, أمّا نحنُ فقد وسّع الله علينا كلمات التّوبة وأتاحَ لنا وفتح لنا باب التّوبة بما يُقِّرَهُ الإنسان بنفسه من الاعتراف والإنابة إلى الله ـ عز ّوجل ـ .

ثم قال: ( فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) ثمّ أتبع الله عزّوجل الآية: ( قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعًا) وهذا هو التّكليف لآدم وإبليس في الدُّنيا (قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ*وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) فهذه الآية هي مَحَطُّ التَّكليف في قوله: ( وإذا قال ربُّك للملائكة إنّي جاعِلٌ في الأرضِ خليفة) فها هو سبحانه يقول: (قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدَى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ) وإنما قال (تَبِعَ) بدون (اتَّبَع)، الفرق بينهما أنّ سورة البقرة جاء اللفظ فيها بـ (تَبِعَ) وسورة طه جاء التعبير بـ (اتَّبَع) والفرق بين التعبيرين أنّ كلمة ( اتبَّعَ) أنّ ذلك بعد البَيان التَّام بالأدلة الموجبة للإتباع، فيقول: (تَبِع) للزوم الإتباع مباشرة، أمّا قوله (اتَبِع) فيكون مستدعٍ إلى البحث عن ما يَدعُو إلى هذا الإتباع من الأسباب والأدلِّة والبراهين الدَّاعية إلى الإتباع، فهذا الفرق بينهما . ولمّا أنّه بيّن هنا الأدِّلة بالفضائل، والتَّشريفات، والإكرام العظيم قال هنا: (فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ) وهذا يُفيد أيّها الإخوة كمال حالهم من حيث توّفُّر الأمن والسُّرور الذَّين هما عَصَب الحياة قال: (فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ) فَوفَّر الله تعالى على أنّ من اتَبع الهُدى لا خوف عليهم ولا هم يحزنون, فقُطبا الحياة هما الأمن والسُّرور أوالسَّعادة.
ثم بيّن عاقبة الذين كفروا وكذبوا بآياتنا, قال: (أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ) فبيّن أنهم أصحاب النّار, ونسبتهم إلى الناّر أيّها الإخوة هنا بيان لاستحقاقهم بدخولها وملازمتهم لها بحيث أنّهم لا يفارقونها (أَصْحَابُ النَّارِ) يدل على أنهم هم أهلها وملازمون لها لا يفارقونها, ثم قال الله تعالى: (هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) مزيدٌ في التنصيص عليهم واستيثاق العذاب منهم.
في هذه القصة ومجملها معانٍ يظهر بعضها بالمقصد العام الذي ذكرت لكم وهو أنّ فيها تعريف للإنسان وهو يكلّف بهذا التكليف كيف يسلك هذه الحياة؟ وأنّ له طريقان فحسب:طريق الهدى وطريق الضلال, وهما الخطّان اللذّان سارت الآيات في بيانهما من أول السورة في كل مقطع من مقاطعها دعوة لطريق الهدى منهما وتحذير من طريق الضلال.
وفي هذه القصة بمجملها تجربة اقتضت رحمة الله بهذا المخلوق البشري المستخلف في الأرض أن يخوضها تمهيداً لما اختاره الله له لوظيفته الكبرى وهي الاستخلاف في الأرض فكان ذلك الذي ذكره الله تعالى. وقد تضمّنت هذه الآيات جوانب التكريم والتفضيل لآدم وذريته من وجوه كثيرة وهو:* اختياره وذريته خلفاء في الأرض.
*وإبراز فضله لملائكته وإخبارهم بذلك.
*وتفضيلهم بالعلم.
*ومباشرة تعليم الله عز ّوجل له
* وتعليمه الأسماء.
* واسجاد الملائكة له.
*وإسكانه الجنة وقبوله لتوبته وإيتاؤه الهدى وحسن خطابه في ذلك كله.
*واقتران ذلك كله برعايته الإلهية ولطفه الكريم , فما أعظم ربنا ـ عز وجل ـ في هذا الكرم الذي يحفّ نبيه, يحفّ فيه أبينا , فما أحرانا أن نعي هذا التكريم وأن ننال منه الشرف بأن نكون خلفاء في الأرض بالعلم النافع والعمل الصالح والقيام بأمر الله ـ عز وجل ـ وأن نكون متبّعين للهدى الذي أمر الله - عز وجل - به.
ثم ننتقل في السياق إلى مقطع آخر وهو قصص بني إسرائيل الذي أطال القرآن الحديث عنها, نسمع من أخينا القارئ الآيات, من الآية (40) إلى (48) (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ *وَآمِنُواْ بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُمْ وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ *وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ *وَأَقِيمُواْ الصَّلاةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ *أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ *وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ *الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ*يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ *وَاتَّقُواْ يَوْمًا لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُون )هذه الآيات قد أطال الله - عز وجل - الحديث فيها عن بني إسرائيل طولاً ظاهراً وتطويلاً ظاهراً لحكمة عظيمة, وهي أنّ بني إسرائيل وهم الأمة المستخلفة قبل أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - قد طال كفرها وضلالها وقد عاندت عناداً طويلاً, فقد أرسل الله - عز وجل - لهم من الرسل رسلاً كثير زادوا على ثلاث مائة رسول ونبيّ, ممّا يدل على أنّ هذه الأمّة مستعصية .


وذكر الله تعالى في هذه الآيات ونحن سنسردها سرداً لن نستطيع أن نُطيل حولها, لكن نريد السياق العام لها حتى نفهمها, ذكر الله تعالى جناياتهم وذكر الله كفرهم, قتلهم لأنبيائهم وكفرهم بآيات الله وترددهم وتلكؤهم في أمر الله - عز وجل - ممّا يؤكد لهم -للحاضرين منهم- ولأمة محمد - صلى الله عليه وسلم - أنهم لا يستحقون الخلافة وليسوا أهلا لها, فهذا كله كل ذلك بيان لأنهم ليسوا مستحقين وكل ذلك تمهيد لسلب الخلافة منهم ومنحها هذه الأمة المحمدية وتشريف هذه الأمة أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - بها.

الله - عز وجل - أراد أن يبيّن لهم يُقرّهم بكل جرائمهم حتى يعلموا أنهم ليسوا مستحقون هم بأنفسهم لهذه الخلافة, فلذلك أطال الحديث ومع ذلك والله - سبحانه وتعالى - بكرمه ورحمته مع هذا الكفر وهذا العناد وهذا التكذيب وهذا الضلال منهم إلا أنّ الله - سبحانه وتعالى - ناداهم بهذه الآيات نداءً رحيماً, تأملوا هذه الآيات قال الله - عز وجل - : (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ) من هو إسرائيل؟ هو يعقوب - عليه السلام - ومعنى إسرائيل عبد الله كأنّهم قالوا يا بني عبد الله, أليس هذا نداء شريف؟ الله - عز وجل - يُناديهم إلى أن يُؤمنوا بهذا النبي وبما أُنزل عليه, ولذلك ناداهم بأشرف الأسماء عندهم (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ) وناداهم بهذا النداء ثلاث مرات في الآيات, لكن هل استجابوا؟ لم يؤمن بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في عهده إلاّ بضعة رجال لا يزيدون عن العشرة من اليهود كلهم. وهذا يبين أنّ اليهود قد تصلّب فيهم الكفر وانطبعت وخُتم على قلوبهم واستغرق فيهم الضلال والاستكبار كما استغرق في إبليس من الكفر والاستكبار, فلذلك لم نعلم منذ عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى عهدنا اليوم من يؤمن من اليهود إلا قلائل, لا أسمع إلا في السنوات واحد أو اثنين, بينما في النصارى يؤمن أعداد كثيرة, لذلك قال الله - عز وجل : (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ ) أول صنف ذكرهم الله تعالى في أشد العداوة هم اليهود وهذا هو الذي يُبيّنه ويظهره الواقع فهم أشد الناس على المؤمنين, بل إنّ التخطيط العالمي الماكر على المسلمين وهذا الغزو العظيم على الأرض كلها بهذا الضلال والإضلال وراءه اليهود.
فانظروا كيف أنّ الله ـ عز ّوجل ـ وهو أحكم الحاكمين عَلِم حالهم فذكر طبائعهم تحذيراً لهم وللمعاصرين منهم وتحذيراً لأمة الإسلام المستخلفة أن يكونوا مثلهم فيُسلبوا تلك الأمانة والتشريف بالخلافة.
قال الله - عز وجل - : (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ) انظروا إلى إضافة النعمة إليه تشريف لها ولهم, ومما يوجب عليهم شكر هذه النعمة وقبولها.
ثم قال: (اذكروا ِنعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) ما هو العهد الذي أخذه الله؟
هو الإيمان به بما في التوراة, وفي التوراة ما يأمرهم بالإيمان بمحمد - صلى الله عليه وسلم - انظروا كيف الله عزوجل يُلزمهم إلى أن يؤمنوا بالعهد, ومن العهد الإيمان بالنبي - صلى الله عليه وسلم - لأنّ الله بشّر به في التوراة وهم يعلمون.
(وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) لماذا قال الله - عز وجل - : (وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) ؟ ختم الأمر بالرهبة إشارةً إلى ما كان مانعاً لهم من الإيفاء بالعهد وهو رهبتهم من أحبارهم, فأدمج النهي عن رهبةِ غير الله مع الأمر برهبةِ الله في صيغة واحدة, وما يمنع اليهود اليوم من الإيمان إلاّ رهبانهم وأحبارهم وعلماءهم وساساتهم, وإلاّ لآمن عامتهم الذين يعلمون الحق, فهذا الله - عز وجل - يقول: (وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) ولا ترهبوا غيري.


ثم قال الله - عز وجل - : (وَآمِنُواْ بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ) والمقصود هنا القرآن لأن الله قال مصدقاً لما معكم ولم يقل آمنوا بما عند محمد, قال آمنوا بما أنزلت أنا أي هو منزل من الله لم يأتي به محمد - عليه الصلاة والسلام - وهذا أدعى إلى إرغامهم على الاستجابة وبعثهم عليها .

ثم قال الله: (وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ) لماذا قال ولا تكونوا أول كافر به؟ لأنهم أهل كتاب فحين يكفرون يكونون أول كافر به لأنهم كانوا أهل علمٍ بشأنه وصفته. 

ثم تأمّلوا قوله: (وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ) يُحذرهم الله ـ عز ّوجل ـ من الأمر الأعظم الآخر مما يمنعهم من الإيمان وهو أنّهم يشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً, يعني حظوظهم الدنيوية تمنعهم من الإيمان, مراكزهم التي كانت التي كانوا عليها بين قومهم تمنعهم من الإيمان, فلذلك قال الله تعالى: (وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي) أي لا تقدموا الدنيا وحظوظها وما كان لكم فيها من نصيب على ما آتاكم الله من آيات (وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ) وهذا يبين لنا أنّ اليهود ماديّون أهل مادة يريدون المناصب ويريدون الدنيا, ولهذا كما سيأتي في آيات تبين لنا أنهم أهل دنيا, وها نحن نرى اليوم هم أصحاب التجارات العالمية بالذهب وغيرها لأنهم يظنون أنّ الدنيا لهم ويزعمون أن الآخرة لهم, قالوا: (وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى) انظروا إلى ما كان في قلوبهم من الحقد والحسد والطمع في نفوسهم.تأمّلوا بين الفرق بين (وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) وقال: (وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ) ما لفرق بينهما؟

الفرق بينهما يعني أن الله أمرهم بالرهبة أولاً, ثم التقوى ثانياً, فهو من باب الترقّي إذ أنّ التقوى نتيجة للرهبة, إذا رهب الإنسان من ربه اتقاه, فكأنّ الله أمرهم بالرهبة ثم أمرهم بالتقوى التي هي نتيجة ما في الآية الأولى.

قال الله ـ عز وجل ـ في المانع الثالث: (وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ) هذا مانع من موانع الإيمان عندهم وهو لبسهم الحق بالباطل, ما المقصود بلبسهم الحق بالباطل؟ الحق هو ما في التوراة من الإخبار بأمر النبيّ - صلى الله عليه وسلم - وأنّه رسول وأنّهم مأمورون بإتبّاعه, هذا الحق, والباطل هو خلطهم وإخفاءهم ذلك, وأنّ هذا النبيّ ليس هو النبي الذي أراده الله, فانظروا كيف لبسوا الحق بالباطل على عامتِهم (وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ) أي الذي في كتبكم مما أخبركم الله تعالى به من أمر هذا النبي ( وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ) أنّه الحق, هم يعلمون وخاصة علماءهم وأحبارهم .
قال الله عزوجل: (وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ) ما مناسبة هذا الأمر؟
مناسبة هذا الأمر : الله - عز وجل - هنا ما زال السياق في دعوتهم وترغيبهم للإيمان, إلى الآن ما أتى في بيان جرائمهم وبيان كفرهم وعدم الطمع بإيمانهم, كل هذا مُمهِدّات لعلّهم يُؤمنون فقال: (وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ) فهذه أصول الأعمال الباعثة على صدق الإيمان والامتثال وباعثة على الإيمان وصدقه .
ولكن مالسرّ في قوله: (وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ)؟
قال: (وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ ) داخلة في إقامة الصلاة، هذه فيها لطيفة مهمة وهي أن الله يأمرهم إلى أن يُقيموا الصلاة مع المسلمين في بيت الله تعالى (وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ) يعني أمرٌ لهم إلى أن يُقيموا الصلاة جماعةً لئلا يزعموا أنّهم يقيموا الصلاة, فأمرهم الله (وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ) وإنما خصّ الركوع هنا لمناسبة لطيفة كما ذكر بعضهم وهو أنّ الركوع شعار الإسلام في الصلاة, وأنّ صلاة اليهود ليس فيها ركوع, كأنّه أمرهم بأن يكونوا مع المؤمنين في صلاتهم, وأن يركعوا معهم, ويُفيد أيضاً إلى أنّ صلاة الجماعة التي هي من شريعة الإسلام فكأنّ الله أمرهم إلى أن يقتفوا أثر المؤمنين في ركوعهم وصلاة الجماعة, وهذه الآية دليل من أدلة صلاة الجماعة ووجوبها, فإنّ الله تعالى أمر اليهود فكيف بالمؤمنين وقال: (ارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ) مع أنّه قال: (أَقِيمُواْ الصَّلاَةَ) ولو لم تكن صلاة الجماعة واجبة لما أمر هنا بالركوع مع الراكعين مع إقامة الصلاة, فتدبُّروا هذا جيداً بارك الله فيكم .
قال الله - عزوجل - بعد ذلك: (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ) هذا استنكار من الله على عُلماء بني إسرائيل وتوبِيخهم في تناقضهم بأمر الناس بالبرّ بما في كُتبهم, ونسيانهم أنفسهم بما في كتبهم من أمرهم بالإيمان بالقرآن, يعني الله يقول كيف تأمرون الناس بالبرّ الذي تضمّنته كتبكم وتنسون أنفسكم أن تُؤمنوا بما في كتبكم من الأمر بالإيمان بالنبي - صلى الله عليه وسلم ؟ وهذا تناقض, كيف تأمر غيرك بالبرّ الذي في الكتاب وتنسى نفسك بما أمرك الله به من الإيمان بالنبي ؟ وفي هذا تشنيع عليهم وتشنيع على العلماء الذين يتخذون العلم وسيلة فقط للوظيفة, والمقصود يا إخواني هنا ربّما يلتبس على بعض الناس هذه الآية وهي كيف الإنسان يأمر الناس بالبِرّ وينسى نفسه فيما يأمر به؟ فالمقصود هنا لنفهم الآية فهماً جيداً فيم غرضها هي أنّ الآية الدالة جاءت في سياق ذمّ الجمع بين أمر الناس بالبرّ وتركه عمداً وقصداً, لكن لا يدل هذا أيّها الإخوة على نهي العاصي أن يأمر هو بالمعروف وينهى عن المنكر وهو على معصيته مع كُرهه لما هو عليه, ورغبته في الإقلاع, أو أمر الناس بالبرّ يعني مثلاً الإنسان يأمر الناس بقيام الليل لكنه لم يستطع ويتمنّى ذلك, فهذا لا يدخل في الآية لأنّ هذا لم يتعمّد الأمر فقط كوظيفة وتكليف للناس من غير أن يرى نفسه مكلفاً بهذا, بل يدخل في هذا أولئك الناس الذين يتخذون الوظائف مجرّد تبليغ للناس ويتهاونون ويتركون هذه التكاليف عن أنفسهم تقصيراً وتفريطاً وغير ذلك, فهؤلاء على خشيةٍ من أن يكونوا يدخلوا في هذه الآية.قال الله - عز وجل -: (وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ) لماذا أمرهم الله بالصبر والصلاة ؟
حقيقة تأمّلوا هذا: هم الآن العلماء أُمروا بأن يتنازلوا عن مكانتهم فيؤمنوا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وهذا صعب على النفوس إلا النفوس الصادقة ، فالله ـ عز ّوجل ـ أرشدهم إلى ما يُعينهم على ذلك ، فقال استعينوا على ترك ما أنتم عليه والحظوظ التي تنالُوها من قومكم من الأموال بسبب ما أنتم عليه من كتابتكم للتوراة يكتبون التوراة ويبيعونها, فهذه الحظوظ لا ينالونها إذا جاؤوا إلى الإسلام بما يظنُونه هم, وإلاّ سيجدون في الإسلام خيراً كثيراً, فقال الله - عز وجل - استعينوا على ذلك بالصبر والصلاة, الصبر يكون على الأمور الشاقة, وذكر الصلاة هنا لأنها تُعين على حصول ما ينبغي, الصبر يعين على ترك مالا ينبغي والصلاة تعين على حصول ما ينبغي, ثم قال: (وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ) أي الصادقين, وذكر الخشوع هنا وهو مرتبط بالصلاة ـ والله أعلم ـ وإن كان الخلاف فيها كما تعلمون واسع, قيل: (وإنها) قيل الصبر والصلاة, وقيل: هي الأمور السابقة كلها, وقيل: هي الصلاة, والأظهر الصلاة لأن الخشوع لا يكون في الصبر, هل يمكن أن يُقال فلان خاشع في صبره؟ ما يُقال, فالأظهرـ والله أعلم ـ أنها مُتعلِقة بالصلاة إشارةً إلى أنّ أعظم ما يبعث الإنسان على الاستجابة الخشوع في الصلاة, فإذا قسا قلبك ورأيت أنّك بعيد عن أمر الله وربّما لا تجد نفسك مطواعة في الخير مقبلة عليه فعليك بالخشوع فإنّه ادعي ما يكون بإذن الله إلى الاستجابة.
(الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) هذا مما يبعث على الإيمان والامتثال تذكر الآخرة, كأنّ الله - عز وجل - أرشدهم إلى ثلاثة أمور أو إلى الأمور الباعثة لذلك (الخاشعين) خشوع ,وتذكر الآخرة وظنّ أن الإنسان ملاقي ربه, فإذا علمت أنك ستلاقي ربك لا شك أن نفسك ستخضع وستذل وستنسى ما عليها من حظوظ دنيوية لأنّ هذه الحظوظ منقطعة وأنت عنها مُنصرف .

ثم ننتقل إلى المقطع الثالث حقيقة لعلّنا نختصر فيه الحديث, في قوله: (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ) إلى آخر الآيات, هذا كل المقطع من (47) إلى (60) كله في تذكير الله - عز وجل - لبني إسرائيل بالنعم التي أنعمها عليهم.
قال الله - عز وجل - : (يا بني إسرائيل) هذا النداء الثاني إخواني له معنى, النداء الأول (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ) المراد بالنعمة نعمة الخلافة الاستخلاف في الأرض أما النداء هنا: (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ ) عموم النعم التي أنعمها الله عليهم, وهي ما سيذكره الله تعالى في هذه الآيات متتابعة لعلّنا نأخذ جزءا منها فيما بقي من الوقت, أعد لكم عشرة نعم انظروا إلى هذه النعم والله الذي لا إله إلا هو لو يُعطاها الإنسان لم يكن له سبيل إلى الكفر والعناد والتكذيب ولا إلى التردد فضلا عن الغفلة والكفر:
أولا: فضلهم على العالمين (وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ)


ثانيا: إنجاءهم من آل فرعون الذين ساموهم سوء العذاب, أليست هذه نعمة كافية في الإيمان؟ بلى والله .

ثالثاً: ثمّ إكرامهم بفرق البحر لهم, أيّ نعمة أن يرى الإنسان أمامه البحر يفرق فرقاً على قدر ما هم عليه من شُعب أو قبائل أو أسباط, فالله - عز وجل - منحهم مع كُلِ ما في هذا البحر لكل سِبط طريق مستقل, أليست هذه كرامة داعية للإيمان؟ بلى والله, إغراق آل فرعون وهم ينظرون, أيّ نعمة مثل هذه النعمة تدعوهم إلى عدم الإيمان.
رابعاً: إيتاؤهم الكتاب والفرقان الذي فيه الهدى والفرقان, ولذلك قال الله - عز وجل - الكتاب والفرقان يَفرق لكم الحق ويبين لكم الحق فليس لكم حجة .
خامساً: العفو عنهم بعد اتِخاذهم العجل, يعني بعد أن أنجاهم الله يا إخواني تصورّوا هؤلاء القوم بعد أن أنجاهم الله من آل فرعون فرق لهم البحر وذهبوا سالمين ورأوا ناس يعبدون شجراً فقالوا : (قالُواْ يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَـهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ ) عياذاً بالله, ثم ذهب موسى لملاقاة ربه فعبدوا العجل, يعني أيّ قوم هؤلاء ؟!!فيهم نبي الله فيريدون أن يجعل موسى لهم إلها كما لهؤلاء إله غير الله, ويذهب موسى لملاقاة ربه فيعبدون العجل, ما أضل هؤلاء, ومع ذلك عفا الله عنهم, ما أكرم الله ـ ـ !! يذكرهم الله بهذه النعمة, أليس ذلك داعٍ لكم للإيمان؟ بلى والله.
سادساً: إحياءهم بعد موتهم ليتوبوا إليه ويتخلصوا من أليم عقابه بعد أن قال : (فَتُوبُواْ إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ) فأُمروا أن يقتل بعضهم بعضاً فقُتِل منهم عدد ثم تاب الله عليهم وعفا عنهم, فهل ذلك دافع لهم إلى الإيمان؟! لم يكن ذلك دافع لهم.
سابعاً: إظلالهم بالغمام يوم أن كانوا في التيه.
ثامناً: إنزال المنّ والسلوى الذي هو من أعظم الطعام وأزكاه, هل آمنوا؟ وهما من أشرف المأكولات وألذّها وأنفعها ولم يُخرج لهم من الأرض بل أنزلها عليهم من السماء!! هل ذلك دعاهم إلى الإيمان؟ كلاّ, والله إن هذه النعم واحدة كافية في أن تدفع الإنسان للاعتراف والإيمان.
تاسعاً: أيضا نعمة أمرهم بما يمحوا ذنوبهم وفتح باب التخلص بما يستوجبه من العقوبة, فأمرهم بدخول الأرض المقدسة وان يقولوا حطة تحُطّ عنا ذنوبنا, فهل دخلوا وقالوا حطّة ؟ ما دخلوا وقالوا حطّه, دخلوا على خلفهم أو من خلفهم وأمرهم الله - عز وجل - أن يدخلوها راكعين مستغفرين, فكيف دخلوها؟ دخلوها كما قال المفسرون على إستاههم ـ يعني وراءهم ـ انظروا أعوذ بالله إلى هذا الضلال, وماذا قالوا؟ لم يقولوا حطّة, قالوا حطّة يعني حنطّه يعني أعطنا حنطّة, فقلبوا الحطّ عن الذنوب بسعيهم إلى الحنطّة, وهذا يبيّن لنا أن اليهود عياذاً بالله مادييّن ليس لهم إلا ما يأكلون ويشربون ويبيعون ويشترون, وقد أمرهم الله بذلك ومع ذلك لم يستجيبوا.
عاشراً: تفجير الله ـ عز ّوجل ـ لهم الماء من الحجر اثنا عشر عيناّ على قدر أسباطهم وهم في أشد الحاجة إليه في التِيه, فمع ذلك كفروا, والله ما أعظم هؤلاء في ضلالهم وطغيانهم, قال أبو حيّان في ذكر هذه الآيات : " تضمنّت هذه الآيات ذكر الامتنان على بني إسرائيل, كما تضمّن بعد ذلك في هذه الآيات ذكر ما قابلوا به هذه النعم من الكفر والإعراض والتكذيب وما فعلوه من الجنايات الدالّة على ذلك ", منها ـ تأمّلوا معي في الآيات التي بين أيديكم ـ :
أولاً: اتخذوا العجل إلهاً في مدة مفارقة موسى لهم لمناجاة ربه مع قصر المدة, وخليفة الله موسى بينهم وهو هارون فينهاهم فلم ينتهوا.
ثانياً: جرأتهم على الله وتعنُتّهم على نبيهم موسى باشتراطهم للإيمان رؤية الله جهرة, قالوا: (لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً) عياذاً بالله, أيّ استكبار أعظم من هذا الاستكبار؟! من يجرؤ على هذا أن يقول لن أؤمن حتى أرى الله؟ إنّ ذلك والله لضلال مبين.
ثالثاً: مخالفتهم أمر الله بدخول القرية قولاً وفعلاً كما ذكرت لكم, بعد أن أكرمهم الله بذلك وشرفهم به جرياً على عادتهم في عدم الامتثال.
رابعاً: سوء خطابهم مع الله ومع نبيهم, حيث قالوا: (ادع لنا ربك) ولم يقولوا ادع ربنا (ادع لنا ربك) انظروا إلى هذا الأسلوب وهذا الأدب.
خامساً: تبرّؤهم من الرزق الذي امتنّ الله به عليهم قالوا: (لَن نَّصْبِرَ عَلَىَ طَعَامٍ وَاحِدٍ) وهو المنّ والسلوى الذي أنزله الله تعالى عليهم فما رضوا, وإنّما قالوا نريد أن نزرع نحن ونحرث نحن ونأكل الفوم والثوم والعدس ،الله المستعان!!
قال موسى: (أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُواْ مِصْراً) مادام أنكم تريدون الهبوط فاهبطوا, فأهبطهم الله ـ عزوجل ـ وكتب عليهم الذلّة والمسكنة وباؤوا بغضب من الله كما سيأتي.

فهذه الآيات تُبيّن لنا حقيقة ما طُبعت عليه قلوب هؤلاء القوم بنوا إسرائيل, وهذه الصفات التي ذكرها الله لنا لماذا؟
يذكرها الله لنا ليحذرّنا منها وألّا نكون من أهلها وأنّا إذا أكرمنا الله تعالى بنعمة أن نشكره عليها ومن فضل الله ومنّته أن جعل الله هذه الأمة أمة شاكرة لنعمه, كما هو حال إبراهيم وهذا ما ينبغي أن يكون عليه المؤمن الصادق شاكرا لنِعمه (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ،شَاكِراً لِّأَنْعُمِهِ ) فحريّ بنا أن نشكر الله أولاً على نعمة الإسلام. ثم نشكره على أن فضّل هذه الأمة على سائر الأمم. ثم نشكره على أن اختار لنا خير الرسل. ثم نشكره أن اختار لنا خير الكتب. ثم أن جعلنا آخر أمة وأول أمة تدخل الجنة. فما أعظم هذه الفضائل وفضائل الله علينا لا تنتهي.
والله ينبغي أن تنعقد نفوسنا وقلوبنا على حمد الله دائما وأبدا, وشكر الله - عز وجل - على نعمه (لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ ) وهذه مسالة عظيمة أنّ الإنسان إذا دام على الحمد والشكر لله ـ عزوجل ـ , فإنّ الله يزيده ويُديم عليه نعمته, نسأل الله التوفيق لنا ولكم والتحقيق للعبودية التامة. وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
--------------------------------------
مصدر التفريغ / ملتقى أهل التفسير بتصرف

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق