قوله تعالى : ( أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ ) " البقرة : 214".
وقال في سورة آل عمران"142" ( أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ) .
وقال في سورة التوبة "16" : ( أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) .
وللسائل أن يسأل فيقول : كيف اختلف اللفظ في المواضع الثلاثة ، وهو فيها كلها بعث على الجهاد ؟ وهل صلح ما هو في الأول للآخر ، أم اقتضاه مكانه بعينه دون غيره ؟
الجواب أن يقال : بل لكل موضع معنى يقتضي اللفظ الذي خص به ، فالآية الأولى من سورة البقرة وردت عقيب قوله : ( كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ..) " البقرة : 213" ثم قال : ( .. وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ ) يعني الكتاب ( مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ) فكانت هذه الحالة التي أخبر الله عنها مشبهة حالة النبي - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين معه فيما دفعوا إليه من بغي المشركين ، ومقاتلتهم لهم مجاهدين ، فقال : أم حسبتم أن تشتروا الجنة لتسكنوها خالدين فيها ولم تفعلوا أفعال الأمم الماضية فيما دفعت إليه هي وأنبياؤها وما نالهم من قتال الكفار من الشدة والمضرة والانزعاج عن المواطن حتى استعجلوا النصر لما استنفدوا الصبر أعلمهم الله عز وجل أن نصره قريب من أوليائه ، غير بعيد عن حزبه ، وكذلك حالكم إذا عرفتم حالهم وعاقبه أمرهم ومآلهم.ومعنى قوله : ( تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ ) هو ما بيّنه في قوله : ( إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ..) " التوبة : 111" فكان في ذكر ذلك شحذ لبصائرهم في الجهاد ، وحملهم على الاقتداء بفرق الصلاح وأمم الأنبياء صلوات الله عليهم قبلهم وتأنيس لهم بالصبر على ما حل بهم حتى حمدوا عاقبة أمرهم.
وأما الآية الثانية في سورة آل عمران وهي : ( أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ) " أل عمران : 142" فهي خطاب للمسلمين الذين نالهم من قتال المشركين جراحات ، لأنه قال فيها : ( إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ..) " آل عمران : 140" فقال : أم حسبتم أن تنالوا الجنة ولما تجاهدوا الأعداء من الكفار فيعلم الله ذلك منكم ، ولما تصبروا صبرا زائدا على صبرهم فيرى ذلك من فضلكم عليهم ، أي الجنة لمن فعل ما أمره الله تعالى به في الوقت من قتال أهل الكفر وتوطينهم النفس فيه على الصبر فيخفف عليه ما يجد من الألم بما يتحقق من الفوز في الآجلة. والآية التي ردفتها هذه الآية اقتضت البعث على التشمر للقتال والصبر بعد صبر الأعداء ، وقيل لبعض العرب : ما كان سبب كثرة ظفركم بأعدائكم ، فقال : كنا نصبر بعد صبرهم ساعة فيكون ذلك سبب الظفر.
ـ وأما الآية الثالثة في سورة براءة وهي قوله تعالى : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) التوبة : 16 ، فإنها خطاب للمجاهدين من المؤمنين ، وتوعد لمن كان منهم يبقى على أقارب له عند الظفر بهم لقوله بعده : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاء إِنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ..) التوبة : 23-24 الآيتين ، فحذر المنافقين الذين ضاموا المؤمنين في قتال المشركين أن يعلم الله مجاهدتهم أعداءهم وقد اتخذوا معها وليجة بينهم وبين المشركين. فالوليجة : هي المدخل الذي ذكره الله تعالى في الآية بعدها عند وصف المنافقين فقال : (وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مِّنكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ * لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَّوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ ) التوبة : 56-57 الآيتين فقولك : ولج ، بمعنى دخل ، والوليجة : المدخل وهو الوسيلة التي يدخل بها الإنسان حريم الإنسان ، كالباب المفتوح له يفعل فعله ، فكأن التوعد كان يقتضي أن يقال لهم : أظننتم أن تتركوا وما تظهرون من مجاهدتكم أعداءكم ولم يكن منكم جهاد خالص لله تعالى لا تمالئون فيه أبا ولا ابنا ، ولا تراعون فيه حميما ولا قريبا ، فلا تبقون على ذي معرفة إبقاء تتقربون به رجاء أن يجازوكم عليه ، فإن قدرتم أنكم تتركون ومضامة المسلمين في القتال من غير أن يعلم منكم باطنا عاريا من هذه الحال فقد أخطأ ظنكم وأخلف تقديركم فإنكم مطالبون بالتوفقة بين سركم وجهركم .
--------------------------------
درة التنزيل وغرة التأويل/للاسكافي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق