عيسى بن مريم له مزية لكن قبل أن نقولها لابد أن تفقه أنه قد يوجد في المفضول ما لا يوجد في الفاضل لكن مزية في أحد بعينه لا تعني أنه غالب على الكل . هذه المزية وردت في قضية يوم يقوم الناس عندما يكون حديث الشفاعة ، فإن نوحا قال كانت لي دعوة فتعجلتها ، وإبراهيم قال كذبت في ذات الله ثلاث كذبات ، وآدم قال قبلها أكلت من شجرة نُهيت عن الأكل منها ، وموسى عليه السلام قال : قتلت نفسا لم أُؤمر بقتلها ، أما عيسى لم يذكر ذنبا - صلوات الله وسلامه عليه - وهذه منقبة له ./ ( وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاء اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُواْ فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَاء اللَّهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ ) هذه الآية تأتينا ، حتى لا نبقى في الجزء الثالث في البقرة ننتقل إلى سورة آل عمران .
" آل عمران " من الإسم آل عمرات أنهم أسرة ، هذه الأسرة لما كانت عليه من الصلاح خلّد الله ذكرهم في القرآن وسمّى سورة طويلة من ثاني سور القرآن جلالة ، من السبع الطوال ، سماها باسمهم ولك أن تتأمل أي طاعة كانت لله من ذلك البيت حتى خلّد الله - جل وعلا - ذكرهم .
فإن رأيت أحدا خلّد الله ذكره بالخير ، بالطاعة ومات على ذلك حتى لا يُفتن فاعلم أن له سريرة عند الله لأن الله ليس بينه وبين أحد من خلقه نسب ، وإن رأيت أحدا - عياذا بالله - مخذول أيّا كان حاله من حيث العموم لا من حيث القدح فيه تعرف أنه لا يهلك على الله إلا هالك لأن الله مُحال أن يظلم أحد قال ( إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما )فإنما يؤتى المرء من قِبل نفسه قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .... قالوا : وما الجسر ؟ - حتى تعلم عظمة الرحمن وأنه لا يهلك عليه إلا هالك - قال ( مدحضة مزلة فيها خطاطيف وكلاليب وشوكة بنجد يُقال لها السعدان يمر الناس عليه على قدر أعمالهم منهم من يمرّ كالبرق ومنهم من يمرّ كالريح ومنهم من يمر كأجاود الخيل ، ومنهم من يمشي مشيا ) ثم قسّمهم قال ( فمارٌ ناج ومُسلّم مخدوش - أي يسلم لكن بُخدش - ومكدوس على وجهه في نار جهنم ) ثم قال - حتى تصل إلى الذروة - قال ( فوالله ما أنتم بأعظم مُناشدة من المؤمنين يومئذ لربهم في إخوانهم ) يعني من سقط ، يأتي من نجا يشفع له عند الله فيقولون ربنا إخواننا كانوا يصومون معنا ، ويصلون معنا ويحجون ، فيقول الله : ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من خير فأخرجوه قال - عليه الصلاة والسلام - فيُحرم الله صورهم على النار ) .
ما معنى يُحرم الله صورهم على النار ؟ الذين يذهبون ليشفعوا حتى يُخرجوا حتى لا تلفحهم النار تُصبح هيئته محرمة على النار . ( فيُخرجون أقواما فيقولون أي رب ما أبقينا أحدا ممن أمرتنا به ) يعني من أذنت به أخرجناه ما بقي أحد ، ( فيقول الله : ارجعوا فمن وجدتم في قلبه نصف دينار من إيمان فأخرجوه فيُخرجون أقواما قد امتُحشوا فيقولون ربنا لم يبق أحد ممن أمرتنا به فيقول الله : ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من إيمان فأخرجوه ) قال أبو سعيد راوي الحديث - إن الله لا يظلم مثقال ذرة - فيُخرجون ويقولون ربنا لم يبقَ أحد ممن أمرتنا به فيقول الله عز وجل : شفعت الملائكة وشفع النبيون وشفع المؤمنون وبقيت شفاعة أرحم الراحمين فيقبض - جل وعلا - على أقوام في النار قد امتُحشوا ثم يُلقون في نهر يُقال له ماء الحياة فينبتون كما تنبت الحبة في محيل السيل ثم تُوضع على رقابهم الخواتيم ويُقال هؤلاء عُتقاء الرحمن أدخلهم الجنة ، ويقول لهم ربهم : (انظروا فما رأيتموه فهو لكم فيقولون ربنا لقد أعطيتنا ما لم تُعط أحدا من العالمين ، فيقول الله - جل وعلا - ألا أعطيكم أفضل من ذلك ؟ قالوا : ربنا وأي شيء أفضل من ذلك ؟ قال : أُحلُّ عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدا ) .هذا الحديث وأضرابه لا يفقهه إنسان فيترك عمل ، هذا جهل ، إنما يفقه فيه الإنسان أنه لا يهلك على الله إلا هالك وأن ربا هذه رحمته وهذا فضله وهذا إحسانه لا يمكن أن يهلك أحد بعد هذه الرحمة إلا وفيه من الشر ما الله - جل وعلا - به عليم وما الجوارح إلا تبع لما في القلب فمن خلُصت لله تبارك وتعالى سريرته ، وسلِمت نيته فليعلم أنه لا يمكن لأحد أن يكون أكرم من الله ، وأن الله يُقبل على من أقبل عليه ويتوب على من تاب عليه ويرحم من فاء إليه .
/ قال وهو أصدق القائلين ( وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى ) والمقصود من هذا أن الله اصطفى أهل هذا البيت "آل عمران" فخلد ذكرهم في كتاب يُتلى إلى يوم القيامة ، السورة باسمهم ويقول - جل وعلا - فيهم ( إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ) مع أن آل عمران هم من آل إبراهيم لأن إبراهيم والد ليعقوب ويعقوب هو إسرائيل ، وآل عمران من بني إسرائيل فقول الله - جل وعلا - ( إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ ) كافٍ لكن على أن آل عمران لهم من فضائل العمل والطاعة والقنوت ، أهل بيت صالح والمتاجرة مع الله تجارة رابحة .
/ ( إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى ) أي اجتبا وفضّل واختار .
( إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ) قال ( ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) ثم قال ( إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ ) "إذ" في زمن مضى ( إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا ) هي في أول الأمر طلبت الولد للولد ، لِما تحمل من أجله النساء رجاء أن يبرها ابنها إذا كبُر فلما اطمأنت أن هناك حمل أرادت ألاّ يكون هذا الحمل لها ينفعها إذا كبُرت إنما أرادت أن يكون هذا الحمل إذا وُضع يكون لله ( رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي ) ومن شدة غلبة العاطفة عليها وصدق توجهها نسيت أنه يمكن أن يكون أنثى وهذا لا يغيب عن أحد ،كل امرأة تحمل تتوقع أن يكون إما ذكرا أو أنثى لكنها لصدق توجهها وشدة عاطفتها نسيت هذا الأمر وأعزمت أمرها وأجمعت أمرها على أن يكون لله ، يعني خادما في بيت من بيوت الله .
/ ( إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) لما لم يكن بيدها أن يكون المولود ذكرا ، هذا ليس لها ، قالت وإني سميتها مريم - على الأقل الاسم - ومريم في لغتهم خادمة الرب فأقل شيء تفعله أنها سمت ابنتها مريم ( وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ) صنعت ما عليها قال أصدق القائلين :(فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ) حسُنت النية فحسُن القبول . ( وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ ) اللهم ارزقنا برحمتك من غير حساب .
هذا ما تيسر إيراده وتهيأ إعداده وأعان الله على قوله والحمد لله رب العالمين .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق