السبت، 14 مايو 2011

الوقفة الثانية في الجزء الثاني مع قوله ( وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ)







/ قول الله - جل وعلا - ( وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ )
إن هذاالأمر الذي كلف الله به المؤمنين آنذاك ليس بالخطب الهين ولا بالأمر اليسير ، لكنه يسير على من يسره الله عليه ، وشابان جلدان ترى أحدهما يُصلي ما كتب الله له أن يصلي فيرى في ذلك فرحة في نفسه والآخر لا يكاد يقوم ركعة واحدة في الليل ، فالأول يسر الله الأمر عليه ،والآخر لم ييسر الله الأمرعليه . يبقى السبب ، فكل أحد أعلم بخاصة نفسه وبر الوالدة والوالدين عموما عون على الطاعة والتيسير فيها .
( وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ )
هذا المجتمع الذي نزلت فيه هذه الآيات مجتمع المدينة الأول ، الرعيل الأمثل والجيل الأكمل ، هؤلاء مات منهم من مات في زمن كانوا يصلون فيه إلى الشام ، والمؤمن رحيم رؤوف بإخوانه ، فلما علموا أن القبلة تحولت قال بعضهم لبعض: ماحال من صلى إلى الشام ومات قبل أن تحول القبلة ، ما صنع الله به ؟ وهذا من رحمة الأمة بعضها ببعض .
فقال الله - جل وعلا - ( وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ) فسمّى االله - جل وعلا- الصلاة إيمانا ، وهذا من دلائل قول جمهور أهل السنة على أن العمل والإيمان لا ينفك أحدهما عن الآخر ، فقال الله - جل وعلا- ( وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ) والمقصود الصلاة .
( إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ) ولا ريب أن ربنا بعباده رؤوف رحيم .
/ ثم قال الله - وهذه الآية التي قال العلماء إنها متأخرة وضعا متقدمة نزولا لكن رجحنا الأول - قال ( قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا ) قال العلماء : الأدب مع الله هو الدين كله ، فنبينا صلى الله عليه وسلم في داخلة نفسه يرغب أن يصلي إلى مكة ، أدبا مع ربه استحيا أن يطلب هذا ، فلما طال الأمر كل الذي صنع أخذ يقلب طرفه في السماء كمن يمشي وراءك وهو يستحي أن يخاطبك يطلب مالا لكن بين الحين والآخر يفتح يده لعلك تعطيه شيئا فيها .
فكان صلى الله عليه وسلم أدبا مع ربه يُقلب طرفه في السماء لكنه لا يجرؤ أدبا على أن يطلب هذا ، مع أنه دعا في أشياء غيره والذي يظهر لي من تأمل القرآن أن المسجد الحرام يُطلق ويُراد به أربعة أشياء :يراد به عين الكعبة ، ويراد به المسجد الذي حول الكعبة ، ويُراد به أميال مكة - حدود الحرم - ويُراد به مكة كلها حرما وحِلا .
( فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ )/ ينجم هنا مسألة فقهية : الأصل أن الإنسان يستقبل القبلة في صلاته ، لكن هذا الأصل العام يُستثنى في حالتين :- من أراد أن يتنفل وهو في سفر على دابته واليوم على سيارته أو باخرته أو على طائرته على قول الجمهور فقبلته حيث توجهت به راحلته .
- والاستثناء الثاني : من كان في حال حرب ، كحال المسايفة وهو يصلي لا انفكاك له من خروج الوقت لابد أن يُصلي ولو يومي إيماء وهو يحارب فأين قبلته ؟ قبلته الجهة التي فيها أمنه ، والأصل أن القبلة إلى الكعبة .

/ ( فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ )هنا بيّن الله تبارك وتعالى أن أهل الكتاب يهودا ونصارى يعلمون أن هذا هو الذي الحق لكن ثبات أهل العقائد على عقائدهم هو الذي يُميزهم ، لأن الإنسان إذا تخلى عن عقيدته لا يمكن بعدُ أن يدعو إليها ولهذا قال الله تبارك وتعالى ( وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ ) لا يمكن ليهودي أن يتبع نصرانيا في قبلته لأنه لا يصبح يهوديا ولا الضد ، لا النصراني يمكن أن يتبع اليهود في قبلتهم لأنه لن يصبح نصرانيا ، ولو أن مسلما اتبع اليهود أو النصارى في مسألة اعتقادية يُعدّ منهم ولم يعدّ مسلما ، وهذا إخبار بالوصف لا تكفير بالعين لكن المقصود من هذا كله أن أمور العقائد من تخلى عنها تخلى عن الشيء الذي يدعو إليه .

/ من القضايا الفقهية المتعلقة بالآية :
قضية النسخ : فالأصل أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي إلى الشام ، فهذه الآية نسخت الحكم وجعلت القبلة إلى الكعبة وأحوال النسخ في مثل هذه الأحوال تقع على ثلاثة أضرب :









- حكم عمِل به المسلمون جميعا ثم نُسخ - وهذا مثاله - كانوا جميعا يصلون جهة بيت المقدس ثم نُسخ الحكم إلى الصلاة إلى مكة .
- حكم عمِل به بعض المسلمين ثم نُسخ ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ) والمشهور أنه لم يقم بهذا إلا علي فقال الله ( أَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ ) فنُسخ الحكم وأصبح بالإمكان أن يُناجوا الرسول دون الصدقات . فهذا حكم نُسخ بعد أن قام به بعض الأمة .

/ حكم آخر نُسخ قبل أن يعمل به أحد وأتى على ضربين : خاص وعام
- الضرب العام : هو أن الله - جل وعلا - أصلا أول الأمر فرض على رسولنا صلى الله عليه وسلم الصلاة خمسين صلاة ولم يقم بهذا أحد .
- الضرب الخاص : في خبر إبراهيم وإن إبراهيم عليه السلام أُمر بأن يذبح ابنه وقبل أن يذبح ابنه نُسخ الحكم ( يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا ) قال الله ( وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ) فنُسخ الحكم . لا حاجة لله في إراقة دم إسماعيل . فنُسخ الحكم قبل أن يتلبس به أو يصنعه أو يقوم به إبراهيم عليه الصلاة والسلام . هذا كله في قوله تعالى ( قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا ) .

/ من الحقائق التاريخية حول الموضوع :
أن المسلمين زمن النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين وعهد معاوية ومن بعده بقليل من خلفاء بني أمية كانوا لا يصلون في الكعبة إلا من جهة واحدة ، من جهة المقام فقط ولم يكن الناس يوم ذاك يصنعون ما يصنعونه الآن من أنهم يُصلون من جهات الكعبة كلها حتى كثُر الناس في زمن خالد بن عبدالله القسري أحد امراء مكة في زمن بني امية فأمر الناس أن يصلوا من جميع الجهات لأنه يصدُق عليهم أنهم يستقبلون عين القبلة ، فعُمل به دون نكير رغم وجود علماء في الأمة ربانيين من سلف الأمة الصالح آنذاك .
قال بعضهم : إن الناس لما أمرهم خالد بهذا ذهبوا إلى عطاء ، وعطاء بن أبي رباح أحد علماء السلف المشاهير تلميذ ابن عباس ، وكان فيه عاهات في جسده وكان رقيقا عند امرأة فلما رأت شغفه بالعلم أعتقته وأصبح مفتي الناس في زمنه بعد ابن عباس ، وكان يُنادى ألاّ يفتين في هذا المقام إلا عطاء - زمن الحج -






ويُقال إنه دخل على أمير المؤمنين هشام بن عبدالملك فقال له هشام - وهو يُجلّه - : سلني حاجتك يا عطاء قال : يا أمير المؤمنين أهل الثغور الذين على الجهاد أعطهم أعطياتهم ، قال : يا غلام اكتب لأهل الثغور بأعطياتهم .
يا عطاء سلني حاجتك ، قال : يا أمير المؤمنين أهل الحرمين ، قال : يا غلام أكتب لأهل الحرمين بحاجاتهم .
يا عطاء سلني حاجتك ، قال : يا أمير المؤمنين أهل نجد مادة العرب أصل الإسلام ، قال : يا غلام أكتب لأهل نجد بأعطياتهم . كلما قال له يا عطاء ذكر له أمة من الأمم ويأتي لهم بعذر ثم خرج من عنده وما شرب منه كأس ماء .
هذا الرجل - رحمه الله - مات وفيه خصلة قلما تحدث لأحد ، مات وهو أرضى الناس للناس . ومعنى ذلك : قد يوجد رجل يحبه طلبة العلم لكن لا علاقة له بالأمراء والحكام ، ورجل يحبه الأمراء والحكام لكن طلبة العلم لا يحبونه ويوجد رجل يحبه العامة لكن لا يحبه طلبة العلم . كان عطاء لما مات أرضى أهل الأرض لأهل الأرض . كل أهل الأرض كانوا يحبونه حجّ سبعين حجة ،وقف بعرفة سبعين سنة لأنه عُمّر وهو من أهل مكة .
وحالة كهذه لابد أن تستصحب إذا أردت أن تأخذ أحكام الحج ، فلا يمكن أن يُقبل رأي أحد - إذا كان مسألة رأي - رأي عطاء مع رأي غيره في مسائل الحج لعلو كعبه فيها .

/ نعود للأمر هذا كله تمهيد إلى قولنا أن الناس لما أمرهم خالد العشري أن يصلوا حول البيت ، ذهبوا إلى عطاء قالوا : إن خالدا يقول كذا وكذا ، قال : أجد لها أصلا في كلام الله ،قالوا : أين الأصل ؟ قال : إن الله يقول ( وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ ) .
طبعا خالد تمسك بالأصل ( فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ) والمراد الكعبة ، فالمصلي على أي أحواله سيرى الكعبة . لكن هذا الاستئناس من عطاء - رحمه الله - جعل الأمر أقوى لدى الناس ، ومن ذلك الحين إلى يومنا هذا والمسلمون يصلون حول الكعبة من جميع الجهات .

/ نعود للآية : قال الله تعالى ( قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ )من كان داخل المسجد فقبلته الكعبة ، ومن كان خارج المسجد فقبلته المسجد ، ومن كان خارج مكة فقبلته مكة .

/ أين ينظر المصلي ببصره ؟
قال بعض العلماء : ينظر إلى موضع سجوده ، لكن الحديث الذي في المسألة فيه خلاف بين العلماء تصحيحا وتضعيفا
فمن صححه قال : إن المصلي ينظر إلى موضع سجوده ، ومن لم يصححه قال : إن المصلي ينظر إلى أمامه .
وتوسط بعض مشائخنا فكان يقول : إذا كبر تكبيرة الإحرام يجعل بصره إلى الأمام ( فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ) ثم إذا دخل في الصلاة نظر موضع سجوده .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق