الاثنين، 16 مايو 2011

وقفات تربوية في حديث أبي محذورة


عن أبي محذورة قال : " خرجت في نفر فكنا في بعض الطريق حين قفل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من حنين ، فأذن مؤذن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فسمعنا المؤذن ونحن متنكبون فصرخنا نحكيه ونستهزئ به ، فسمع رسول الله الصوت ، فأرسل إلينا إلى أن وقفنا بين يديه فقال: " أيكم الذي سمعت صوته قد ارتفع ؟ فأشار القوم كلهم إليّ وصدقوا ، فأرسلهم وحبسني ثم قال : قم فأذن للصلاة " ، فقمت ولا شئ أكره إليّ من رسول الله ولا مما أمرني به ، فقمت بين يديه ، فألقى عليّ التأذين بنفسه ، ثم دعاني حين قضيت التأذين فأعطاني صرة فيها شئ من فضة ، ثم وضع يده على ناصيتي ، ثم مر بين ثدييَّ على كبدي حتى بلغ سرتي ، ثم قال " بارك الله فيك وبارك عليك " فقلت يا رسول الله مرني بالتأذين بمكة ، قال قد أمرتك وذهب كل شئ كان في نفسي لرسول الله من كراهية وعاد ذلك كله محبة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم .

وقفات مع هذه الحادثة يتم ربطها مباشرة بعملية التحفيظ :-
الأولى: الهدوء والاحتفاظ بالوقار : (فأرسل إلينا) رغم أن أبا محذورة عمل عملاً يشعل الغضب إلا أن المربي - صلى الله عليه وسلم – لم يقم إليهم بنفسه ولم يستثره تصرفهم ولم يخرجه عن وقاره وإنما أرسل إليهم باتزان وبغير اندفاع .
وفي الحلقات : تحدث مواقف شبيهة ، طالب أو مجموعة طلاب جعلوا يشوشون أو يسخرون ويغمزون ويلمزون.
أحياناً ما يفقد المعلم أعصابه فينفرط عقده ويظهر نقاط ضعفه و يسقط هيبته في نظرهؤلاء لأنه لم يدخر شيئاً يهابونه لأجله مخالفاً بذلك هدى المربي الأول - صلى الله عليه وسلم - فلو أن المعلم الفاضل نهج المنهج النبوي لتعامل مع هؤلاء بأدب ورفق وهدوء.

الثانية : التثبت ( أيكم سمعت صوته قد ارتفع ) فلم يأخذ الكل بجريرة واحد وإنما سأل وتحرى وتثبت ليحدد المسؤول ويوجه الحديث إلى الشخص المعني .
وفي الحلقات : أحياناً يشوش طالب وسط مجموعة فيوبخ المعلم الجميع ، وهذا يجعل من لا يشوش يشوش ، لأنه في كل الأحوال موبخ ، وما أحسن السؤال والتثبت للفصل بين من أخطأ ومن لم يخطئ ، وهذا هديه ، ومنهجه التربوي – صلى الله عليه وسلم .

الثالثة : سلطان الحق ( فأشار القوم كلهم عليّ وصدقوا ) رغم أنهم أصدقاؤه ومرافقوه ، إلا أنهم أجابوا صادقين ولم يجاملوا في ذلك ولم يخفوا الحق .
وفي الحلقات:- أحياناً ما يجامل الطلاب بعضهم بضعاً ، فيتسترون على بعض ، ولكن يستطيع المعلم أن يغرس فيهم شهادة الحق ، وأمانة الكلمة ، وصدق القول ، وأن الحق أعلى من كل شخص وفوق كل علاقة مهما كانت ،، وليتذكر أنه بذلك إنما يخطو خطوات على طريقه – صلى الله عليه وسلم – في التربية .

الرابعة : لا تزر وازرة وزر أخرى ( فأرسلهم وحبسني ) فلم يأخذ البرئ بتهمة المتهم ، ولم يعامل الحسن بفعل المسئ ، ولم يعمم المؤاخذة .
وفي الحلقات: لابد من تمايز الصور والمشاهد أمام الطلاب ، ففي الوقت الذي يسمعون فيه طالباً يعاتب ، يسمعون آخر يثنى عليه وفي الوقت الذي يرون فيه مؤاخذة زميل يرون فيه إكرام آخر وفي الوقت الذي يرون فيه ذكر مساوئ يسمعون فيه ذكر محاسن لتنمو وتنشط عندهم حاسة الموازنة والتفريق والتمييز بين الأشياء ، وأيضاً لتزداد في أعينهم محاسنُ الحَسَن حُسْناً ومساوئُ السيئ سوءً .

الخامسة : روعة التصرف المفاجئ ( ثم قال قم فأذن للصلاة ) لم يتصور ولم يتوقع أبو محذورة أبداً أن هذه هي العقوبة لربما خطر بباله أنه مضروب أو محبوس إنما أن يتصور أن يطلب منه العمل الذي سخر منه فهو ما لم يرد له على ذهن ، إنها عبقرية المربي واتقاد ذكائه إذ أراد أن يقوده للإحسان من حيث أساء .
وفي الحلقات: كم من التصرفات المشينة تحدث، والمعلم العبقري هو الذي يفاجئ الطالب تصرف لم يفكر فيه ولم يحسب له حساباً ولم يخطر بباله .
فمثلاً : الطالب كثير الضحك يستدعى ليقرأ القرآن ويستمع له الطلاب ، والطالب كثير الحركة يسند إليه تنظيم الطلاب ، والمراد أن الطالب إذا جاء يتوقع عقوبة كضرب أو طرد أو فصل مثلاً ، إذا به يفاجأ بموقف مغاير من كلمة معاتبة أو نظرةٍ محاسبة فلسوف تفقده المفاجأة اتزانه وتعقد لسانه وتعطل فكره ، ولا تعطيه فرصة للاسترسال في سلوكياته .

السادسة : التعليم قرين التربية ( فألقى عليّ التأذين بنفسه )
إذن هو لا يعاقب ولا يحاكم كلا أنه الآن يعلم ويلقن فلا انفعال ولا انفلات أعصاب وإنما يهدف للتربية والتعليم معاً.
وفي الحلقات: إذا فقد الشيخ أعصابه مع طالبه فلن تبقى عنده مقدرة لتعليم أو تلقين غيره ، وهل بعد ارتفاع الصوت وإحمرار الوجه وانتفاخ الأوداج تعليم وتصحيح وتلقين ؟ لذلك فمقابلة التصرفات بالهدوء والنظر إلى هذا الطالب نظرة الطبيب للمريض السقيم ، ومحاولة توجيهه ، وأيضاً تعليمه فيجتمع له التربية والتعليم في آن واحد.

السابعة : المكافأة : ( فأعطاني صرة ) بأبي هو وأمي يكافئ من أخطأ ، ويُهدي من أساء ، إنها الموجات المتلاحقة من الإكرام النبوي الآسر الذي لا يدع للشيطان فرصة ليستفرد بالنفس فيغويها.
وفي الحلقات : لماذا فقط المكافأة للطالب المثالي ؟ أو ليس الهدى النبوي أنه أحياناً ما يكافئ المخطئ إغراء وإكراماً وتألفاً لقلبه ؟ لماذا لا نسلكه ؟ للمعلم أن يتألف قلب طالب فيه مشاكسة لكنه يتوسم خيراً فيه فيهديه أو يكافأه ، وحينئذ هنيئاً للمعلم كسب هذا القلب المسلم ، واتباع نهج النبي الأعظم .

الثامنة :- الحنان الفياض ( ثم وضع يده على ناصيتي)
لقد أشبع عقله تعليماً وتلقيناً وأشبع قلبه حباً وحناناً ، وأشبع جيبه عطاء وإهداءً .
وفي الحلقات: كم تمتد أيادٍ والمعاقبة ولو أنها امتدت مرة لتربت على كتف طالب في حبٍ ، أو تصافحه في ودٍ ، لفهم منها الطالب مشاعر شتى بلغات عديدة تأسياً بصاحب المنهج – صلوات الله عليه وسلامه .

التاسعة : الدعاء المبارك ( بارك الله لك وبارك عليك ) ربطه بالله عز وجل ، وجه نظره إلى الإله الأعظم .
وفي الحلقات: للمعلم أن يستعمل هذا الأدب النبوي وهو الدعاء لطلابه بمزيد من علمٍ و خلق فلربما كفاه الدعاء كثيراً مما يعاني وجلب أكثرمما يرجو.

العاشرة : إطلاق المواهب ( مرني بالتأذين – أمرتك ) سرعان ما وظف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - موهبته واستعمل صوته الندي .
وفي الحلقات : يتصفح وجوه طلابه ، ويكشف مواهبهم ، يصنفهم ويوجههم الوجهة الصحيحة فهذا صوته حسن ربما كان إماماً وهذا خطه طيب ربما وجه لدورة في الخط وهذا حافظته قوية ربما وجه لحفظ متن من المتون وهذا متفوق في دراسته يشجع فقد يكون الطبيب المسلم حامل القرآن ، وهكذا .

الحادية عشرة : التغيير ( وذهب كل شئ كان في نفسي لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – من كراهية، وعاد ذلك كله محبة ) .وكيف لا مع مشاهدة وتلقى كل هذا الفيض الدافق من الحب والعناية.
وفي الحلقات: لا تسل أيها المعلم الكريم عمن أحبك لماذا أحبك فهذا هو المنتظر ولكن سائل عمن أبغضك لماذا ولما لا يتحول البغض حباً والجفاء وداً فغير أسلوبك وجدد طريقتك وفتش عن مفتاح لكل قلب فإذا عثرت عليه وأدرته فتح لك ، فيتحول عندها كل شئ إلى حب واحترام ، وعندها هنيئاً لك اقتفاؤك لنبيك ، وانتهاجك نهج رسولك .


-----------------------------------
الأساليب التربوية في الحلقات القرآنية / أحمد بن محمد حسبو خضر

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق