كل سورة افتتحت بحروف التهجي فإن في أوائلها ذكر الكتاب أو التنزيل أو القرآن كما في قوله تعالى :
( الم ذالِكَ الْكِتَابُ ) ( البقرة :1 2 )
( المص كِتَابٌ ) ( الأعراف :1 )
( طه مَا أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْءانَ لِتَشْقَى ) ( طه :1 2 )
( الم تَنزِيلُ الْكِتَابِ حم تَنزِيلٌ مّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ) ( فصلت: 2 )
( يس وَالْقُرْءانِ ) ( يس: 1 2 )
( ص وَالْقُرْءانِ ) ( ص: 1 )
لأن في أوائلها ذكر معجزة وهي القرآن فقدمت عليها الحروف لحكمة وهي :
ليتنبه الغافل أو من هو مشغول البال ويقبل بقلبه عليه ثم يشرع في مقصوده،إلا سورة الروم ومريم والعنكبوت .
ـ قال بن عثيمين -رحمه الله-: أن الحكمة من الحروف المقطعة على القول الراجح :
الإشارة إلى بيان إعجاز القرآن العظيم، وأن هذا القرآن لم يأتِ بكلمات، أو بحروف خارجة عن نطاق البشر؛ وإنما هو من الحروف التي لا تعدو ما يتكلم به البشر؛ ومع ذلك فقد أعجزهم..
فهذا أبين في الإعجاز؛ لأنه لو كان في القرآن حروف أخرى لا يتكلم الناس بها لم يكن الإعجاز في ذلك واقعاً؛ لكنه بنفس الحروف التي يتكلم بها الناس . ومع هذا فقد أعجزهم .؛ فالحكمة منها ظهور إعجاز القرآن الكريم في أبلغ ما يكون من العبارة؛ قالوا: ويدل على ذلك أنه ما من سورة افتتحت بهذه الحروف إلا وللقرآن فيها ذكر؛ إلا بعض السور القليلة لم يذكر فيها القرآن؛ لكن ذُكر ما كان من خصائص القرآن.
ـ أما عن سورة العنكبوت: فافتتحت بالحروف وليس فيها الإبتداء بالكتاب والقرآن وذلك لأن القرآن ثقله وعبئه بما فيه من التكاليف والمعاني وهذه السورة فيها ذكر جميع التكاليف حيث قال (أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ ءامَنَّا) يعني لا يُتركون بمجرد ذلك بل يؤمرون بأنواع من التكاليف فوجد المعنى الذي في السور التي فيها ذكر القرآن المشتمل على الأوامر والنواهي .
قال بن عثيمين ـ رحمه الله ـ: قوله تعالى : {الم * أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون} [العنكبوت: 1، 2] ليس فيها ذكر القرآن؛ ولكن فيها شيء من القصص الذي هو أحد خصائص القرآن :{ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمنَّ الله الذين صدقوا...} (العنكبوت: 3)
ـ وأما عن سورة الروم : ذكر في أولها ما هو معجزة وهو الإخبار عن الغيب فقُدمت الحروف التي لا يعلم معناها ليتنبه السامع فيقبل بقلبه على الاستماع ثم ترد عليه المعجزة وتقرع الأسماع .
ـ قال بن عثيمين -رحمه الله- : كذلك في سورة الروم قال تعالى في أولها: {الم * غلبت الروم} [الروم: 1، 2] ؛ فهذا الموضع أيضاً ليس فيه ذكر للقرآن؛ ولكن في السورة ذكر شيء من خصائص القرآن وهو الإخبار عن المستقبل : {غلبت الروم * في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون * في بضع سنين} [الروم: 2] .
وسورة مريم {كهيعص}: ليس بعدها ذكر للقرآن؛ولكن جاء في السورة خاصية من خصائص القرآن وهي ذِكر قصص من كان قبلنا :{ذكر رحمت ربك عبده زكريا}(مريم: 2)
ـ وهاهنا كلام جميل لابن القيم ـ رحمه الله ـ عن السر في حروف (الم )
قال ـ رحمه الله ـ في بدائع الفوائد -ما نصه- :
" فائدة السر في حروف (الم ) :
تأمل سر [الم] كيف اشتملت على هذه الحروف الثلاثة فالألف إذا بدىء بها أولا كانت همزة وهي أول المخارج من أقصى الصدر واللام من وسط مخارج وهي أشد الحروف اعتمادا على اللسان والميم آخر الحروف ومخرجها من الفم وهذه الثلاثة هي أصول مخارج الحروف أعني الحلق واللسان والشفتين وترتيب في التنزيل من البداية إلى الوسط إلى النهاية فهذه الحروف معتمد المخارج الثلاثة التي تتفرع منها ستة عشر مخرجا فيصير منها تسعة وعشرون حرفا عليها دار كلام الأمم الأولين والآخرين مع تضمنها سرا عجيبا وهو أن اللألف البداية واللام التوسط والميم النهاية فاشتملت الأحرف الثلاثة على البداية والنهاية والواسطة بينهما وكل سورة استفتحت بهذه الأحرف الثلاثة فهي مشتملة على بدء الخلق ونهايته وتوسطه ، فمشتملة على تخليق العالم وغايته وعلى التوسط بين البداية والنهاية من التشريع والأوامر فتأمل ذلك في [البقرة وآل عمران وتنزيل السجدة وسورة الروم] .
وتأمل اقتران الطاء بالسين والهاء في القرآن فإن الطاء جمعت من صفات الحروف خمس صفات لم يجمعها غيرها وهي الجهر والشدة والاستعلاء والإطباق والسين مهموس رخو مستفل صفيري منفتح فلا يمكن أن يجمع إلى الطاء حرف يقابلها كالسين والهاء فذكر الحرفين اللذين جمعا صفات الحروف.
وتأمل السور التي اشتملت على الحروف المفردة كيف تجد السورة مبنية على كلمة ذلك الحرف فمن ذلك:
- [ق] والسورة مبنية على الكلمات القافية من ذكر القرآن وذكر الخلق، وتكرير القول ومراجعته مرارا، والقُرب من ابن آدم وتلقي الملكين قول العبد، وذكر الرقيب، وذكر السائق والقرين، والإلقاء في جهنم، والتقدم بالوعيد، وذكر المتقين، وذكر القلب، والقرون والتنقيب في البلاد، وذكر القيل مرتين، وتشقق الأرض وإلقاء الرواسي فيها، وبسوق النخل والرزق، وذكر القوم وحقوق الوعيد، ولو لم يكن إلا تكرار القول والمحاورة ، وسر آخر وهو أن كل معاني هذه السورة مناسبة لما في حرف القاف من الشدة والجهر والعلو والانفتاح .
وإذا أردت زياة إيضاح هذا فتأمل ما اشتملت عليه سورة [ص] من الخصومات المتعددة:
فأولها خصومة الكفار مع النبي (أجعل الآلهة إلها واحدا) إلخ كلامهم، ثم اختصام الخصمين عند داود، ثم تخاصم أهل النار، ثم اختصام الملأ الأعلى في العلم وهو الدرجات والكفارات ، ثم مخاصمة إبليس واعتراضه على ربه في أمره بالسجود لآدم، ثم خصامه ثانيا في شأن بنيه حلفه ليغوينهم أجمعين إلا أهل الإخلاص منهم فليتأمل اللبيب الفطن هل يليق بهذه السورة غير [ ص ] وسورة [ ق ] غير حرفها؟! وهذه قطرة من بحر من بعض أسرار هذه الحروف والله أعلم ". انتهى كلامه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق