الأحد، 2 أكتوبر 2016

تدبر قصة مريم ـ١ـ / د. أحمد القاضي

بسم الله الرحمن الرحيم
 الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على عبده ونبيه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد..
 فقد روى الإمام أحمد والبيهقي في دلائل النبوة في قصة هجرة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى الحبشة (أن النجاشي قال لجعفر بن أبي طالب رضي الله عنه : هل معك شيء مما جاء به نبيكم؟ قال نعم فتلا عليه صدر سورة مريم ـ التي نحن بصددها ـ فبكى النجاشي وأخضل لحيته بالبكاء وبكت بطارقته وأخضلوا مصاحفهم ثم قال : والله إن هذا الذي جاء به نبيكم والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة).

 أيها الأخوة الكرام .. أيتها الأخوات الكريمات أيها المتدبرون أيها المتدبرات .. ذكر ربنا عز وجل في هذه السورة العظيمة قصة مريم ، ومريم امرأة صالحة خلّد الله ذكرها في كتابه وهي مريم بنت عمران التي ذكر الله مبدأ قصتها في سورة آل عمران حين قال الله عز وجل : { إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي ۖ إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } أي أن امرأة عمرآن ـ وعمرآن رجل صالح من بني إسرائيل ـ قد نذرت امرأته ما في بطنها لخدمة بيت المقدس وكانت تظن أن هذا الذي في بطنها ذكر ثم تبين أنها أنثى قال الله عز وجل : { فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَىٰ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَىٰ ۖ وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ * فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا ۖ كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا ۖ قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَٰذَا } يجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف {قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَٰذَا ۖ قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ۖ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ }.
تلكم هي مريم فتاة شريفة عفيفة طاهرة مُبرّأة نشأت في أكناف العفاف والهُدى والتُقى نذرتها أمها لبيت المقدس لخدمته فجُعل لها حجرة في ذلك المكان المقدس وعكفت على العبادة ولهذا كانت تناديها الملائكة { يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} فنشأت في العبادة والتأله والتنسّك.
ثم أن الله تعالى أراد لها الرفعة والكرامة فلهذا قال سبحانه في سورة مريم : { وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ } وهنيئاً لها أن تُذكَر في كتاب يُتلا إلى يوم القيامة، والمراد في الكتاب هو القرآن العظيم { وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا } 
ومعنى { انْتَبَذَتْ } : أي انتحت وابتعدت، أي أنها ذهبت ـ رحمها الله ـ إلى ما تذهب إليه النساء في حاجاتهن. 
ويذكر بعض المفسرين أنها أصابها ما يصيب النساء من الحيض وأنها ذهبت مذهباً لكي تتطهر كما تتطهر النساء. 
وقال بعضهم : إنها ذهبت لتخلوا بربها وتُناجيه كما أمرتها الملائكة بذلك { يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ }.
وأياً كان الأمر فإن الآية تدلنا على أن مريم ـ رحمها الله ورضي عنها ـ قد ذهبت مذهباً شرقياً أي من جهة المشرق { إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا * فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا } أي ستراً ربما كانت من وراء حائط أو من وراء أكمة أو وضعت حائلاً بينها وبينهم لخلوتها تلك التي انتحت فيها عن أهلها فاتخذت من دونهم حجاباً.
{ فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا } بعث الله تعالى إليها الروح القُدس جبريل عليه السلام في صورة شاب وضيء حَسَن الخِلقة على هيئة بشر سوي، وهذا من خصائص الملائكة الكرام أنهم يتشكلون بأشكال بشرية وإلا فإن الله تعالى قد خلقهم من النور كما في حديث مسلم ( خُلقت الملائكة من نور ) لكن الله تعالى أعطاهم القدرة على التشكل بأشكال بشرية لهذا تمثّل لها بشراً سوياً فما كان منها وهي الفتاة العفيفة البريئة إلا أن كان رد فعلها مباشراً { قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَٰنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا } وهكذا تكون الفتاة العفيفة حينما ترى في الأمر ريبة تفزع ولا يكون عندها شيء من الجرأة والتقحّم بل إنها تفزع من هذا الأمر فكلما زاد حياء الفتاة كان ذلك دليل على إيمانها .
{ قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَٰنِ مِنْكَ } وهاهنا فائدة عظيمة : أن يفزع القلب إلى الله تعالى قبل أن يفزع إلى أي مخلوق ولهذا قال يوسف {قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ ۖ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ } هكذا ينبغي للمؤمن دوماً أن يفزع قلبه إلى الله تعالى قبل أن يبحث عن فلان وعلان وغير ذلك من الوساطات بل يرى أنه لا يأتي بالحسنات إلا الله ولا يدفع السيئات إلا الله لهذا قالت رضي الله عنها : { إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَٰنِ مِنْكَ } أي أني التجئ به وأعتصم به ومن استعاذ بالله فقد استعاذ بمَعاذ.
{ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا } أي أنها أرادت أن تذكره بأن التقوى رادع وزاجر من أن يقارف شيئاً يُغضب الله فلما رأى المَلَك ـ وهو جبريل عليه السلام ـ رأى الفزع الذي أصابها طمأنها وبيَّن لها وظيفته التي لأجلها ظهر عليها بهذه الصورة { قَالَ إِنَّمَا } و "إنما" أداة حصر {قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا} هذه مهمتي أنني أُبتعثت من عند الله تعالى لأهب لك من الله تعالى وإلا فإن الله تعالى هو الوهاب لكن لما كان هو الذي يباشر ذلك قال { لِأَهَبَ لَكِ } أي بأمر ربي عز وجل { غُلَامًا زَكِيًّا } إذاً هو ذكر وفوق ذكوريته هو زكي أي أنه فيه من الصفات الكريمة الزكية الحميدة ما يجعل هذا الخبر بشارة لها ومطمئناً لقلبها.
فقالت على البديهة : {قَالَتْ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا } وحُق لها ذلك لأن الولد لا يأتي إلا بأحد الطريقين بـ: 
/ إما أن يمسها بشر بعقد صحيح وهو عقد النكاح. 
/ وإما ـ والعياذ بالله ـ أن تكون مومِساً زانية وتُوطأ فتحمل سفاحاً فلا هذا ولا هذا.
{ قَالَتْ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا * قَالَ كَذَٰلِكِ قَالَ رَبُّكِ} :
إما أن المراد:{ قَالَ كَذَٰلِكِ } أي كما تقولين لكن {قَالَ رَبُّكِ}.
وإما أن المراد قال كذلك قال ربك .
/ { قَالَ كَذَٰلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ ۖ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا ۚ وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا } إذاً هذه ثلاث جمل { هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ } أي هذا الذي استعظمتيه واستبعدتيه من خلق حملٍ من أم بلا أب هو هين على الله عز وجل.
{ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ } ويالها من آية عظيمة إي والله آية غير مسبوقة بها تمت القسمة الرُباعية فقد خلق الله تعالى بشراً بلا أب ولا أم وهو آدم، وخلق بشراً من أب بلا أم وهي حواء خُلقت من ضِلع آدم الأيسر القصير، وخلق الله تعالى بشراً من أب وأم وهم عامة بني آدم ، وخلق بشراً من أم بلا أب وهو عيسى بن مريم فبه تمت القسمة الرباعية .
{ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ } فيالها من آية عظيمة أن يخلق بشر من أم بلا أب.
{ وَرَحْمَةً مِنَّا } إي والله لقد كان رحمة لأمه حيث كان بها براً وكان سبباً في إعلاء ذِكرها في العالمين فلا يُذكَر إلا منسوباً إليها، عيسى بن مريم هكذا فصار لها من الذكر الحسن الطيب النشر في كل مكان ما لم يكن لامرأة سواها، ثم إنه رحمة أيضاً على الناس لأنه بُعث في وقت كان الناس بني إسرائيل خاصة بأمس الحاجة إلى من يردهم إلى الجادة .
{ قَالَ كَذَٰلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ ۖ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا ۚ وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا } أي كان أمراً مقضياً منذ الأزل فقد قضاه الله تعالى في اللوح المحفوظ قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان أمراً مقضيًا في الواقع والفعل حينما بعث الله روح القدس فنفخ في دِرع قميصها نفخة عُلوية فنزلت فدخلت في فرجها فخلَّق الله تعالى منها عيسى كما قال ربنا عز وجل : { وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا } وقال في موضع : { وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ } إذاً هكذا بقدرة الله الذي لا يُعجزه شيء هذه النفخة العُلوية من عند الله التي بها قال الله تعالى كن فيكون الشيء { إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ ۖ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } فماذا بعد ذلك ؟ 
/ قال الله عز وجل :{فَحَمَلَتْهُ} أيُّ حمل كان ذاك؟
اختلف المفسرون في هذا وتضاربت الروايات الإسرائيلية:
فمنهم من قال كان حملها ساعة.
ومنهم من قال صوِّر في ساعة وحُمل في ساعة ووضع في ساعة يعني مجموعهم ثلاث ساعات.
ومنهم من قال حملها ستة أشهر.
ومنهم من قال ثمانية أشهر.
والصحيح: أنها حملت كما تحمل سائر النساء لهذا ذكر الله الحمل ولم يقرِن به أمراً خارقاً للعادة وإلى هذا ذهب ابن كثير رحمه الله أن ذلك هو أرجح الأقوال في هذه المسألة أنها حملت به كما تحمل النساء ومما يدل على ذلك أنها كانت هي وامرأة زكريا تزامنتا في الحمل حتى إن امرأة زكريا التي يسميها بنو إسرائيل ألي صابات كانت تقول : إني أجد الذي في بطني يسجد للذي في بطنك أي أن يحيى يُعظِّم عيسى وهما حملان بعد ، المهم أنها حملت به.
ولكم أيها الكرام ويا أيتها الكريمات أن تتصوروا هذه الحال الحرجة التي لحِقت بهذه الفتاة العفيفة التي ظل بطنها يكبر شيئاً فشيئاً وهي تتخفى عن الناس وتتهرب من رؤيتهم ومن نظراتهم الحادة ومن تسآؤلاتهم ومن الريبة التي بدأت تسري فيهم وهي التي نشأت في أكناف بيت المقدس وفي أحضان العفاف والتُقى والنقاء كيف يمكن أن يكون وقْعُ ذلك عليها ؟
فقال الله عز وجل :{ فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا } أي أنها ابتعدت .. خرجت رضي الله عنها تهيم على وجهها { فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا } ذهبت إلى مكان بعيد حيث لا يراها أحد { فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَىٰ جِذْعِ النَّخْلَةِ } { فَأَجَاءَهَا } أي ألجأها المخاض وهو آلام الوضع الذي يلحق النساء إلى جذع النخلة، نخلة يابسة في البرية أوت إليها واتكأت عليها وصارت تمسك بها بيديها كما تُمسك المرأة حال الحمل حال الوضع بأي شيء لشدة ما تجد من آلام وكرب الوضع {فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَىٰ جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَٰذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا } أي لشدة وقع الألم وخوف الفضيحة وقالت الناس تمنت أن لو كانت ماتت قبل هذا .
وتأملوا ـ يا رعاكم الله ـ أدبها الجمّ مع الله عز وجل حيث أنها لم تقل ليتني أموت فإن تمني الموت فيه نوع اعتراض على القدر وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا يتمنين أحد منكم الموت لضُرٍ أصابه فإن كان لابد فاعلا فليقل اللهم أحييني ما علمت الحياة خيراً وتوفني إذا علمت الوفاة خير لي ) فلهذا قالت رضي الله عنها بأسلوب فيه أدب { يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَٰذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا } أي كنت هباء لا يؤبه له ولا يُعتبر به وكنت نسياً منسياً وطُوي ذكري .
فلما بلغ الأمر ذروته هكذا الله يأتي بالفرج إذا اشدت الكُرب
اشتدي أزمة تنفرجي  ** قد آذن ليلُكِ بالبلجِ 
/ { فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا } وفي قراءة (فناداها مَن تحتها) وعلى كلا القراءتين ذهب جمهور المفسرين إلى أن المُنادي هو جبريل عليه السلام فيكون ناداها من أسفل الوادي أو من وراء الأكمة التي كانت عليها عند الشجرة إذ لم يكن ليقرب منها وهي في تلك الحال { فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا } أي جبريل عليه السلام { أَلَّا تَحْزَنِي } أي لا تبتأسي واطمئني ولا تفزعي { قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا }.
وقيل: إن الذي ناداها هو عيسى من تحتها أي لما وضعته . 
وعلى التفسير الأول { فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا } أي جدول ماء فالسري هو جدول الماء.
وقيل: أنه كان جدول ماء منقطع لكن ركضت برجلها فأجراه الله تعالى { وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ } فاجتمع الماء والرُطب.
وقيل: { فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا } أن السري هو الرجل الشريف فإنه يُقال : سَراة القوم أي أشرافهم ويقال سَراة القوم كما يقال مثلاً جبال السراة لعُلوها وإشرافها ولا ريب أن عيسى عليه السلام كان رجلاً شريفاً سرياً . 
/ { قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا * وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا }
قيل: أن النخلة كانت يابسة إلا أنها بأمر الله أخضرّت وأورقت وأرطبت وأُمرت رضي الله عنها بأن تهُزها، وما كان لامرأة فكيف لو كانت حاملاً قد وضعت حملها أن تهُزّ جذع شجرة لكنه إيذان وإشعار بفعل الأسباب أي أن الإنسان ينال رزقه بنوع كُلفة وتسبب .
/ { تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا } وفي هذا إشارة إلى أن أحسن ما يمكن أن تتناوله المُوضِع الرُطب لأنه سريع الامتصاص لاسيما إذا كان مع الماء { فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا } وهذا الذي تحتاج إليه في ذلك الحال إذ كان قد بلغ منها الجُهد كل مبلغ ولحِقها من الجوع والعطش في سيرها وبُعدها الأمر العظيم لهذا قيل لها : { فَكُلِي وَاشْرَبِي } أي كلِي من الرُطب واشربِي من الجدول من السري. {وَقَرِّي عَيْنًا} أي أطمئني وذلك أن الخائف الوجل القلق تظل عينه تدور في مِحجرها فإذا قرّ واطمأن قرت عينه في مِحجرها كما قالت امرأة فرعون{ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ } ،{ وَقَرِّي عَيْنًا }.
/ ثم بين لها ما ينبغي أن تفعله { فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَٰنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا } إذاً أمرها بأن تتخذ هذا الإجراء لأنها حينما تقابل الناس مهما بذلت من الكلام لن يتقبل الناس أن تزعُم أنها رُزِقت بمولود بلا أب فلا فائدة من الكلام لذلك أوعز إليها الملَك بأن تقول لمن سألها من البشر { إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَٰنِ صَوْمًا } والصوم معناه في اللغة: الإمساك والمقصود ها هنا الإمساك عن الكلام ، وقد كان مشروعاً في شريعة من قبلنا الإمساك عن الكلام كما الإمساك عن الأكل والشرب، ففي هذا مخرج لها وتعلّق بفرج الله الموعود لها { فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَٰنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا } فكيف تقول وقد نذرت أن لا تكلم إنسياً؟
قال بعض المفسرين: أي بإستثناء هذه الجملة أي أني نذرت للرحمن صوماً .
وقال بعضهم أن المراد بالإشارة ، يعني قولي لهم بالإشارة ما يدل على أنك قد اعتصمتي بالصوم في هذا اليوم{ فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا}.
وللحديث صلة إن شاء الله وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق