الأربعاء، 10 سبتمبر 2025

الدرس السابع والأربعون | تفسير سورة البقرة: من الآية (٤٤)

 تفسير سورة البقرة: من الآية (٤٤) (أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم …) 


🎧 لسماع الدرس من موقع الشيخ
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللمسلمين والمسلمات أما بعد: فيقول الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله في قوله (أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون) 
ن/ "(أتأمرون الناس بالبر) أي: بالإيمان والخير، (وتنسون أنفسكم) أي: تتركونها عن أمرها بذلك والحال وأنتم تتلون الكتاب (أفلا تعقلون) وسمي العقل عقلا لأنه يُعقَل به ما ينفعه من الخير، أو يَعقِل به ما ينفعه من الخير، وينعقِل به عما يضره، وذلك أن العقل يحث صاحبه أن يكون أول فاعل لما يأمرُ به، وأول تارك لما ينهى عنه، فمن أمر غيره بالخير ولم يفعله، أو نهاه عن الشر فلم يتركه دل على عدم عقله وجهله، خصوصا إذا كان عالما بذلك قد قامت عليه الحجة، وهذه الآية وإن كانت نزلت في سبب بني إسرائيل، فهي عامة لكل أحد لقوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون* كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون) وليس في الآية أن الإنسان إذا لم يقم بما أُمِر به أنه يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأنها دلت على التوبيخ بالنسبة إلى الواجبين، وإلا فمن المعلوم أن على الإنسان واجبين أمر غيره ونهيه، وأمر نفسه ونهيها، فترك أحدهما لا يكون رخصة في ترك الآخر، فإن الكمال أن يقوم الإنسان بالواجبين، والنقص الكامل أن يتركهما، وأما قيامه بأحدهما دون الآخر فليس في رتبة الأول وهو دون الأخير، وأيضا فإن النفوس مجبولة على عدم الانقياد لمن يخالف قوله فعله، فاقتدائهم بالأفعال أبلغ من اقتدائهم بالأقوال المجردة".
ت/ بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علما وأصلح لنا إلهنا شأننا كله ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين أما بعد: فلا نزال مع هذه الآيات في كتاب الله عز وجل المشتملة على وصايا أوصى الله جل وعلا بها بني إسرائيل، ولهذا صُدرت - كما سبق - بقوله (يا بني إسرائيل) ثم ذكر الله سبحانه وتعالى جملة من الوصايا، وهذه الوصايا كما نبه أهل العلم وإن كانت موجهة لبني إسرائيل فإنها عامة فيها التحذير من التشبه بهم فيما نهاهم الله عنه وحذرهم منه، وكانوا على صفات ولاسيما علماءهم على صفات ذميمة إلا من هداه الله عز وجل منهم، فكانوا يُحر فون الكلم، ويكتمون الحق، ويلبسون الحق بالباطل، ويتهاونون بما أوجب الله سبحانه وتعالى عليهم، وكانوا يُظهرون أنفسهم مظهر الدعاة والعلماء، فيأمرون الناس بالبر والخير والطاعة، لكن في أنفسهم لا يفعلون ذلك، يظهرون أنهم دعاة للحق ولكنهم في أنفسهم لا يعملون، مع أنهم أهل كتاب ويعلمون أن طريقتهم مخالفة للكتاب الذي تعلموه، ولهذا جاءت هذه الوصية في جملة هذه الوصايا قال الله عز وجل في خطابه لهم: 
(أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم)
 (أتأمرون الناس بالبر) هذا توبيخ لهم لأن الاستفهام له مقاصد منها التوبيخ، وهذا توبيخ لهم على هذا الصنيع وهذه الطريقة التي كانوا عليها. 
(أتأمرون الناس بالبر) البر: الطاعة والعبادة وأعمال الخير مثل الصدقات ونحو ذلك، قال قتادة رحمه الله: "كان بنو اسرائيل يأمرون الناس بطاعة الله وبتقواه وبالبر ويخالفون فعيّرهم الله عز وجل" أي بذلك، الحاصل: أن هذا السياق في قوله (أتأمرون الناس بالبر) هو توبيخ لهم على مسلك كانوا عليه، وطريقة كانوا عليها، يُظهرون أنهم دعاة، وأنهم أهل النصح والتعليم، ويعلمون الناس الخير لكن لا يعملون به. 
قال (وتنسون  أنفسكم) النسيان هنا المراد به الترك. (تنسون أنفسكم) قال ابن عباس رضي الله عنهما: "تتركون أنفسكم" أي: تتركونها لا تعملون بهذا الخير الذي تدعون الناس إليه، وتحضونهم عليه. التوبيخ هنا عائد إلى ماذا؟ قال (أتأمرون الناس بالبر) هل هو توبيخ على أمرهم للناس بالبر؟ هذا لا يوبخ عليه الإنسان، على أمره الناس بالبر، أو حثه الناس على البر، فليس المراد بالتوبيخ هنا توبيخهم على أمرهم بالبر، فإن الأمر بالبر مطلوب، وإنما هو عائد إلى تركهم العمل بهذا البر الذي يأمرون الناس به، ويدعون الناس إليه ويوهمون الناس أنهم دعاة، وأنهم علماء يعلمون الناس الخير لكنهم في واقع أنفسهم لا يعملون، ومن كانت هذه صفته، هذه طريقته، وهذا مسلكه هو في ظاهره - كما يذكر ابن القيم رحمه الله أظنه في مدارج السالكين -  هوفي ظاهره يدعو إلى الجنة ولكن في باطنه وحقيقة أمره يدعو إلى النار، لأن الناس إذا نظروا إلى أفعاله وقالوا هذا الذي عنده العلم، وهذا الذي يدعونا إلى هذا الخير، هذه حاله في العمل إذا حالنا نحن في التقصير والتفريط ستكون من باب أولى أن نكون مقصرين، ولهذا هم في الظاهر دعاة إلى الجنة وفي الباطن والحقيقة دعاة إلى النار لأن الناس يتأثرون – مثل ما قال الشيخ – بالأفعال، أبلغ من اقتدائهم بالأقوال.
 قال (أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب) الجملة هنا حالية، أي والحال أنكم تتلون الكتاب، والمراد بالكتاب التوراة الذي كان بين أيديهم (وأنتم تتلون الكتاب) أي تقرؤونه تعلمتموه، عرفتم ما فيه من أوامر.
 (وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون) أي ليس لكم عقول تعقِلكم، لأن العقل سمي عقلا لأنه يعقِل صاحبه، مثل تسمية العقال الذي تُشد به يد البعير عندما يُبرّك حتى لا يقوم، سمى عقالا (تعهدوا القرآن فإنه أشد تفلتا من الإبل في عُقلها) عقُل جمع عقال لأنه يعقل به الإبل.  والعقل سمي عقلا لأنه يعقل صاحبه، معنى يعقل صاحبه يحجز صاحبه إذا أعمل عقله كفه عن ما هو قادم عليه من خطيئة، أو إثم أو جرم قال (أفلا تعقلون)
 قال الشيخ رحمه الله تعالى: "(أتأمرون الناس بالبر) أي بالإيمان والخير، (وتنسون أنفسكم) أي تتركونها عن أمرها بذلك - تتركونها أي لا تأمرونها بذلك - تهملون أنفسكم والحال (وأنتم تتلون الكتاب)" أي أن الجملة حالية والحال (وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون)، قال: "وسُمي العقل عقلا لأنه يعقِل" معنى يعقِل يحجز، يمنع لأنه يعقِل به ما ينفعه من الخير، وينعقِل أن ينحجز به عما يضره من الشر، وذلك لأن العقل يحث صاحبه أن يكون أول فاعل لما يأمر به، وأول تارك لما ينهى عنه، وقد تقدم قول الله عز وجل لهم (ولا تكونوا أول كافر به) فمن أمر غيره بالخير ولم يفعله، أو نهاه عن الشر ولم يتركه دل على عدم عقله وجهله، خصوصا إذا كان عالما بذلك، عنده علم بفساد طريقته، بأن الذي هو عليه جرم وإثم، خصوصا إذا كان عالما بذلك قد قامت عليه الحجة أي البينة، وهذه الآية يقول الشيخ "وإن كانت نزلت في سبب بني إسرائيل فهي عامّة لكل أحد" هكذا أيضا قرر ابن كثير رحمه الله في كتابه التفسير وغيره من أهل العلم، قال ابن كثير: "الآية وإن كانت خطابا في سياق إنذار بني إسرائيل فإنهم لم يُقصدوا بها على سبيل التخصيص وإنما هي عامة لهم ولغيرهم" ولهذا يروى في الأثر أن رجلا جاء إلى ابن عباس رضي الله عنهما وقال: أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، فقال ما معناه: أتعلم من نفسك أنك جدير بذلك، أو أنك قادر على ذلك؟ قال نعم، قال: "إن كنت تعلم من نفسك أنك لا تخطئك ثلاث آيات فاففعل" وذكر له هذه الآية (أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون)، وذكر له قول الله تعالى في سورة الصف (يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون* كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون) وذكر أيضا له قول العبد الصالح نبي الله شعيب عليه السلام لقومه (وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه) والمعنى: أنا لا أريد أن أنهاكم عن شيء وأخالفكم إليه، يعني أذهب وأفعله (وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه)، إذا هذه الآية وإن كانت في سياق إنذار بني إسرائيل فهي عامة لكل من يأمر المعروف وينهى عن المنكر، أن ينتبه لنفسه، ما معنى أن ينتبه لنفسه؟ أي لا يترك نفسه مثل ما قال الله (وتنسون أنفسكم) أي تتركون أنفسكم، لا يترك نفسه بل يبدأ بأمرها، يبدأ بنصحها، يبدأ بزجرها، يبدأ بوعظها وتذكيرها، يبدأ بتخويفها، إذا قال للناس اتقوا الله يقول لنفسه: اتق الله، يخوف نفسه، يحذرها من سخط الله سبحانه وتعالى وعقابه، أما إن كان يأمر ويعلم ويدعو ليقال داعي، أو ليقال معلم، أو يقال عالم، أو يقال واعظ وهو لا يعمل بما يعظه، فهذا مصيبته عظيمة، وفيه شبه من علماء بني إسرائيل، مثل ما قال سفيان، قال: "من فسد من علمائنا ففي شبه من اليهود" قال فهي عامة لكل أحد لقوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون* كبر مقتا) المقت هو أشد الكره (كبُر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون).
قال الشيخ: "وليس في الآية أن الإنسان إذا لم يقم بما أُمِر به أنه يترك الأمر بالمعروف، أو لم يقم بما أَمَر به أن يترك الأمر بالمعروف، ما أَمَر به أي: ما أمر به الناس من طاعة، أو عبادة، أو نحو ذلك "إذا لم يقم بما أمر به أن يترك الأمر بالمعروف" يعني إذا كان يأمر الناس بشيء ولم يقم به هو ليس معنى ذلك أن يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لأنها دلت على التوبيخ بالنسبة إلى الواجبين، عندنا واجبان:
 الأول: الأمر المعروف والنهي عن المنكر.
والثاني: أن يفعل الإنسان المعروف وأن يتجنب المنكر.
هذا واجب، وهذا واجب، لأنها دلت على التوبيخ بالنسبة إلى الواجبين، وإلا فمن المعلوم أن على الإنسان واجبين: أمر غيره أو أمر غيره ونهيه، وأمر نفسه ونهيها، فترك أحدهما لا يكون رخصة في ترك الآخر. فإن الكمال أن يقوم الإنسان بالواجبين، والنقص -نقص الكمال- أن يتركهما، وأما قيامه بأحدهما دون الآخر، فليس في رتبة الأول وهو دون الأخير، فهذا أمر بيّن أهل العلم عند هذه الآية، يعني ليس معنى كون الإنسان مقصرا أن يترك كل شيء، بل يعمل، ينصح الناس ويعمل على نصح نفسه وإصلاحها وإقامتها على طاعة الله، يعني حتى يتضح كلام أهل العلم بشكل واضح بين أرأيتم لو أن أبا -والدا- مبتلى بمعصية معينة وما تمكن من معالجة نفسه لترك هذه المعصية، هل معنى ذلك أن لا ينهى أبناءه عنها؟ وهل له أن يتلو هذه الآية (أتأمرون الناس بالبر تنسون أنفسكم) فيترك إصلاح أولاده ونهيهم؟ هو مبتلى وعمل على معالجة نفسه ما تمكن، لكن يبين لأبنائه وينصح ويزجر ويخوف ويهدد، ويعمل على من مناصحتهم، وفي الوقت نفسه يستمر في مجاهدة نفسه ومعالجتها ومداواتها، من هذا الذي هو مبتلى به، لكن يبقى مثل ما يقول الشيخ الآن، يقول "النفوس مجبولة على عدم الانقياد لمن يخالف قوله فعله، فاقتداؤهم بالأفعال أبلغ من اقتدائهم بالأقوال المجردة" نعم

ن/ قال رحمه الله "(قوله واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين* الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم وأنهم إليه راجعون* يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين* واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون) أمرهم الله تعالى أن يستعينوا في أمورهم كلها بالصبر بجميع أنواعه، وهو الصبر على طاعة الله حتى يؤديها، والصبر عن معصية الله حتى يتركها، والصبر على أقدار الله المؤلمة فلا يتسخطها، فبالصبر وحبس النفس على ما أمر الله بالصبر عليه معونة عظيمة على كل أمر من الأمور ومن يتصبر يصبره الله، وكذلك الصلاة التي هي ميزان الإيمان وتنهى عن الفحشاء والمنكر يستعان بها على كل أمر من الأمور، (وإنها) أي الصلاة (لكبيرة) أي شاقة (إلا على الخاشعين) فإنها سهلة عليهم خفيفة، لأن الخشوع وخشية الله، ورجاء ما عنده يوجب له فعلها منشرحا صدره لترقبه للثواب وخشيته من العقاب، بخلاف من لم يكن كذلك، فإنه لا داعي له يدعوه إليها وإذا فعلها صارت من أثقل الأشياء عليه، والخشوع هو خضوع القلب وطمأنينته، وسكونه لله تعالى وانكساره بين يديه ذلا وافتقارا، وإيمانا به وبلقائه ولهذا قال (الذين يظنون) أي يستيقنون (أنهم ملاقوا ربهم) فيجازيهم بأعمالهم، (وأنهم إليه راجعون) فهذا الذي خفف عليهم العبادات، وأوجب لهم التسلي في المصيبات، ونفّس عنهم الكربات، وزجرهم عن فعل السيئات، فهؤلاء لهم النعيم المقيم في الغرفات العاليات، وأما من لم يؤمن بلقاء ربه كانت الصلاة وغيرها من العبادات، من أشق شيء عليه"

ت/ نعم، قال الله جل وعلا (واستعينوا بالصبر والصلاة) استعينوا بالصبر والصلاة على ماذا؟ لم يُذكر، استعينوا بالصبر والصلاة لم يذكر على ماذا؟ والقاعدة: أن حذف المتعلق يفيد العموم، لم يذكر، الآن سبق مثلا أقرب مذكور (أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم)  استعينوا بالصبر والصلاة على مداواة أنفسكم في هذا، وسبق أيضا قبله أوامر فيشمل استعينوا بالصبر والصلاة على كل خير، على كل بر، على كل أبواب الطاعات والعبادات، ولهذا الصبر والصلاة فيهما أعظم معونة للعبد، قال بن جرير له كلمة قصيرة لكن جميلة، إمام المفسرين قال: "إنهما لمعونتان على رحمة الله" الصبر والصلاة، وإذا وُفق العبد لهاتين الصفتين الصبر والصلاة كانتا معونة له على الفوز برحمة الله وأعمال البر والطاعات والخير، وتجنب المنكرات والمحرمات، ولهذا في آية أخرى قال سبحانه وتعالى (إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر) أي استعينوا بها على نهي أنفسكم، يستعينوا بصلاتكم على نهي أنفسكم عن الفحشاء والمنكر، ولهذا -سبحان الله- تجد الصلاة المكتوبة وزعت على أوقات اليوم الليلة مفرقه، يعني ما جُمعت الصلاة الخمس في أول النهار أو في آخر النهار، جاءت مفرقة ينشغل الإنسان بأموره ثم يرجع إلى هذه الصلاة تداوي قلبه وتقربه من ربه، وتزكي نفسه، ثم ينشغل ثم ينادى للصلاة مرة أخرى، فيرجع يصلي ثم ينام، ويستيقظ على المناداة للصلاة، ليستهل يومه بهذه الصلاة، ولا يزال مع هذه الصلوات الخمس تداويه، تعينه، تنهاه، ولا سيما إذا أحسن في أدائها وإقامتها، وأعظم الإحسان في الصلاة أن يبدأ مشروع الصلاة مع العبد من حين يؤذن، إذا سمع الأذان يوقف كل شيء ويعتبر أنه دخل في مشروع هو أعظم موضوع كما وصف النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة بذلك، فالصلاة فيها معونة عظيمة للعبد على ماذا؟ كل خير، أطلق هنا قال (واستعينوا بالصبر والصلاة) ولم يذكر على ماذا، فيشمل كل خير، يشمل كل ما تُنال به الرحمة، كل أبواب الرحمة، كل أبواب البر، تجنب أيضا المنهي، المحرم، استعينوا بالصبر والصلاة.
وهنا قال (استعينوا بالصبر) (ال) الداخل هنا على (الصبر) تفيد الشمول، لأن الصبر أنواع فإذا قيل أي أنواع الصبر المراد هنا؟ الصبر أنواع فأي أنواعه المراد؟ يقال: يشمل كل أنواع الصبر، (ال) الداخلة على الصبر تفيد الشمول، يعني شمول أنواع الصبر كلها، لأن الصبر ثلاث أنواع: الصبر على الطاعة، والصبر عن المعصية، والصبر على أقدار الله المؤلمة، وإذا وُفق العبد إلى هذه الخصلة العظيمة، والخلة المباركة الصبر، قد قال عليه الصلاة والسلام (ما أُعطي عبد عطاء أوسع من الصبر) هذا عطاء واسع عظيم لماذا؟ لماذا كان الصبر عطاء واسعا؟ لأنه هو المعونة على الطاعات، أرأيتم الشخص الذي لا صبر عنده هل يستطيع أن يحبس نفسه على فعل الأوامر؟ الشخص الذي لا صبر عنده هل يستطيع أن يحبس نفسه عن ترك النواهي؟ الشخص الذي لا صبر عنده هل يستطيع أن يحبس نفسه عن التسخط في الأقدار المؤلمة والجزع ونحو ذلك؟ (استعينوا بالصبر والصلاة) أي واستعينوا بالصلاة فإنهما أكبر معونة للعبد على كل خير وفلاح ورفعة في الدنيا والآخرة.
(وإنها) أي الصلاة، هذا في قول أكثر المفسرين، وبعضهم أعاد الضمير في (إنها) على الاستعانة (واستعينوا) هذا فيه الاستعانة، البعض أعاد الضمير على الاستعانة، وجمهور المفسرين أن الضمير عائد إلى الصلاة، (وإنها) أي الصلاة (لكبيرة) أي ثقيلة كبيرة المراد بها ثقيلة (إلا على الخاشعين)  الخاشع المتواضع الذي انكسرت نفسه وذلت، ولهذا يحتاج العبد أن يذلل نفسه، يوطئ نفسه، يتواضع، يخضع. إذا اتصف بهذا الخشوع، هذا التواضع صارت الصلاة ليس فيها ثقل، ليس فيها ثقل على قلبه بل ستكون الصلاة هي راحته، هي أُنسه، هي قرة عينه كما قال نبينا عليه الصلاة والسلام (أرحنا بالصلاة يا بلال) وقال (جُعلت قرة عيني في الصلاة).
قال (وإنها لكبيرة) أي ثقيلة (إلا على الخاشعين) من هم؟ ما صفتهم؟ قال (الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم)
 وهذا فيه تنبيه على مسألة كبيرة جدا في هذا الباب: أن أعظم ما يعين على إصلاح القلب وتزكيته خشوعا وخضوعا وتواضعا إلى غير ذلك ظن العبد في قلبه بمعنى اعتقاده في قلبه انه سيلقى ربه وسيقف بين يدي الله سبحانه وتعالى، فإن الظن هنا (الذين يظنون) المراد به يعتقدون، المراد بالظن هنا العقيدة، (يظنون أنهم ملاقوا ربهم) أي يعتقدون، ولهذا من يأتي فائزا يوم القيامة ويؤتى كتابه بيمينه ماذا يقول؟ (إني ظننت) يعني في الدنيا (أني ملاق حسابيه) ظننت أي اعتقدت في الدنيا أني سألقى الحساب فكنت أُعد لهذا الحساب عدته، (الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم) أي سيلقون الله ويقفون بين يديه سبحانه وتعالى، (وأنهم إليه راجعون) أي: إليه المرجع، إليه المصير فيجازي المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته.
قال رحمه الله تعالى: "أمرهم الله عز وجل أن يستعينوا في أمورهم كلها بالصبر بجميع أنواعه"  وذكرها رحمه الله "والصبر على طاعة الله حتى يؤديها، والصبر عن معصية الله حتى يتركها، والصبر على أقدار الله المؤلمة، فلا يتسخطها، فبالصبر وحبس النفس على ما أمر الله بالصبر عليه، معونة عظيمة على كل أمر من الأمور" استعينوا بالصبر على ماذا؟ كل أمر من الأمور، ومن يتصبر يصبره الله. هنا الشيخ يذكر تنبيها على لطيفة من يقرأ هذه وتحدثه نفسه بأنه ضعيف الصبر، قليل الصبر، أو ما عنده صبر، بعض الناس قد يقرأ هذه الآية (استعينوا بالصبر) فينظر إلى نفسه  أن هذا الصبر ليس عنده، يقول الشيخ: "ومن يتصبر يصبره الله" يتصبر يعالج نفسه، يداويها، يحاول معها، يصبرها "من يتصبر يصبره الله"، وكذلك الصلاة التي هي ميزان الإيمان بهذا وصفها السلف ميزان الإيمان، ما معنى ميزان الإيمان؟ يعني أنها محك يومي يزن المرء فيه إيمانه، محك يومي، ميزان يومي. قال: "وتنهى عن الفحشاء والمنكر" استعانوا بها على كل أمر من الأمور، لاحظ الشيخ في الصبر وفي الصلاة ذكر أن الاستعانة على ماذا؟ على كل أمر، من أين أخذ ذلك؟ من الإطلاق في الآية، قال استعينوا ولم يذكر على ماذا فيشمل كل أمر من الأمور، أمور الخير والصلاح. 
قال: (وإنها) قال الشيخ: أي الصلاة، وهذا قول جمهور المفسرين، لكبيرة أي شاقة، وأيضا معنى كبيرة ثقيلة، شاقة ثقيلة على كل أحد إلا الخاشعين فإنها سهلة عليهم، خفيفة لا يجدون لها أي ثقل ولا أي مشقة، "لأن الخشوع خشية الله ورجاء ما عنده يوجب له فعلها منشرحا صدره لترقبه للثواب وخشيته من العقاب" إذا أردت أن تفهم هذا الثقل -ثقل الصلاة- (إلا على الخاشعين) الخاشعين الذين خشعت قلوبهم تنظر الآن إلى رجل كبير السن جسمه في غاية الضعف، وإذا أراد أن يقوم يقوم بمشقة، ومع هذه المعاناة والثقل في جسمه، والضعف في قواه تجده كل صلاة يتكئ على عكازه ويمشي خطوات ثقيلة لضعف جسمه ولا تفوته الصلاة لخشوع قلبه، وقوة قلبه، وتجد من الشباب من يوصف بأنه في قوته البدنية رافع للأثقال، يرفع الأثقال من قوته البدنية وينادى لصلاة الفجر ويُوقظ لصلاة الفجر واللحاف الخفيف الذي على جسمه، يغطي به جسمه ما يستطيع أن يرفعه لضعف قلبه وليس بدنه، بدنه قوي والآخر ذاك بدنه ضعيف وقلبه قوي فيقوم مع ضعف البدن، وهذا بدنه قوي غاية القوة، يُمدح بدنه بالقوة عند رفقائه وزملائه يُمدح، ولكن اللحاف الخفيف الذي يغطي به نفسه لينام ينادى لصلاة الفجر فما يستطيع أن يرفع اللحاف لا لضعفٍ في بدنه وإنما ضعف في ماذا؟ ولهذا قال السلف "قوة المؤمن في قلبه" وضربوا لها المثال في الصلاة، قال ترى كبير السن، الطاعن في السن، ضعيف البدن ينهض هذا النهوض ويمشي منشرح الصدر للصلاة، وتجد الشاب القوي -قوي البدن- لضعف القوة في قلبه حاله مع الصلاة التفريط والتضييع.
قال: "فإنها سهلة عليهم خفيفة لأن الخشوع وخشية الله و رجاء ما عنده يوجب له فعلها منشرحا صدره لترقبه للثواب وخشيته من العقاب بخلاف من لم يكن كذلك، فإنه لا داعي له يدعوه إليها" الداعي في القلب، وإذا فعلها صارت من أثقل الأشياء عليه إذا فعلها صارت من أثقل الأشياء عليه، والخشوع هو خضوع القلب وطمأنينته وسكونه لله تعالى، وانكساره بين يديه ذلا وافتقارا وإيمانا به وبلقائه ولهذا قال (الذين يظنون) أي يستيقنون، يعتقدون (أنهم ملاقوا ربهم) أي سيقفون بين يديه فيجازيهم بأعمالهم، (وأنهم إليه راجعون) قال الشيخ: "فهذا الذي خفف عليهم العبادات، وأوجب لهم التسلي في المصيبات، ونفّس عنهم الكربات، وزجرهم عن فعل السيئات، فهؤلاء لهم النعيم المقيم في الغرفات العاليات -أسأل الله لنا ولذرياتنا والمسلمين من واسع فضله سبحانه وتعالى- وأما من لم يؤمن بلقاء ربه كانت الصلاة وغيرها من العبادات من أشق شيء عليه.
نفعنا الله أجمعين بما علمنا وزادنا علما وتوفيقا، وأصلح لنا شأننا كله وهدانا إليه صراط مستقيما، اللهم آتِ نفوسنا تقواها، زكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها، اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى، سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك. اللهم صلِ وسلم على عبدك ورسولك، نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين. جزاكم الله خيرا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق