بسم الله الرحمن الرحيم
سورة هود هي ثاني سورة في القرآن حسب ترتيب المصحف سميت باسم نبي من الأنبياء، سميت هذه السورة الكريمة باسم نبي الله هود عليه السلام، قال ابن عاشور: " سميت في جميع المصاحف وكتب التفسير والسنة سورة هود، ولا يُعرف لها اسم غير ذلك " كذلك وردت هذه التسمية عن النبي في حديث ابن عباس أن أبا بكر قال : يا رسول الله قد شبت؟ قال : (شيبتني هود ، والواقعة ، والمرسلات ، وعم يتساءلون، وإذا الشمس كورت ) رواه الترمذي بسند حسن في كتاب التفسير من سورة الواقعة.
والجامع بين هذه السور هو كونها تتحدث عن اليوم الآخر وأهواله وما يكون فيه، والله جل وعلا ذكر ذلك صراحة في كتابه العظيم، حيث قال الله جل وعلا في سورة المزمل: (يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا) والفزع يُورث الشيب وذلك أن الفزع يُذهل النفس فيُنشف رطوبة الجسد، وتحت كل شعرة منبع ، ومنه يعرق ، فإذا انتشف الفزع رطوبته يبست المنابع فيبس الشعر وابيض، كما ترى الزرع الأخضر بسقائه ، فإذا ذهب سقاؤُه يبس فابيض. وإنما يَبيَضُ شعر الشيخ لذهاب رطوبته ويبس جلده .
والناس يختلفون في السبب الذي يدفعهم إلى أن يشيبوا باعتبار تعلق قلوبهم، فمن الناس من يشيبه التعليم، ومن الناس من يشيبه العقار، ومن الناس من تشيبه التجارة، ومن الناس من يشيبه تربية الصبيان، ومن الناس من يشيبه الهم، وغير ذلك، وهذا ظاهر في الناس، ولا غرابة فيه ولا ننكره، ولكن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما كان قلبه معلقا بالله، وكان يخشى الله واليوم الآخر ويخاف ربه ويهابه جاء تعلق شيبه صلوات الله وسلامه عليه بهود وأخواتها، أي: باليوم الآخر. ولا يعني هذا أن النبي عليه الصلاة والسلام كان كثير الشيب، وإنما مرد ذلك إلى العُرف، وقد مات النبي عليه الصلاة والسلام ولا يُحصى من الشيب فيه أكثر من عشرين شعرة، وأكثر شيبه كان في أسفل شفته السفلى وفي أعلى عارضيه عن اليمين وعن الشمال، أما في لحيته فكان الشيب قليلاً جداً في شعيرات يمكن عدها، وكذلك شعر رأسه صلوات الله وسلامه عليه.
ومما شيّب النبي -صلى الله عليه وسلم- منها ذكر اليوم الآخر، وإن كان بعض العلماء يقول: إن الذي شيب النبي قول الله جل وعلا فيها (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) [هود: ۱۱۲].
قال بعض المفسرين الذي شيب النبي - عليه الصلاة والسلام - هو قول الله - عز وجل- (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ ) ، ولكن قِرانه - صلى الله عليه وسلم- سورة هود بسورة المرسلات والواقعة وعمّ و (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ) نفهم منه أن الذي شيبه منها ذكر أهوال اليوم الآخرة لأن هذا هو الجامع بين هذه السور.
وفي هذه السورة ذكر الله - جل وعلا - أخبار الأنبياء، فذكر الأمم وتكذيبها لأنبيائها ورسلها، وكيف كان ذلك سبباً في فنائها وهلاكها، كما قال تعالى: ﴿ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ ) أي: شاهد باق ظاهر، كالحجر في أرض ثمود (وَحَصِيدٌ ) أي : مُنته، كما هو الحال في البحر الميت الذي كان موضع قوم لوط عليه السلام فهذه الأمور كلها مدعاة للشيب.
قال ابن عاشور: " وسميت باسم هود لتكرر اسمه فيها خمس مرات ، ولأن ما حكي عنه فيها أطول مما حكي عنه في غيرها ، ولأن عادا وصفوا فيها بأنهم قوم هود في قوله : (ألا بعدا لعاد قوم هود).
ومن أوجه وضعها بعد سورة يونس :
"أن سورة يونس ذكر فيها قصة نوح مختصرة جداً مجملة فشرحت في هذه السورة وبسطت بما لم يبسطه في غيرها من السور ولا في سورة الأعراف على طولها ولا في سورة (إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا ) التي أفردت لقصته فكانت هذه السورة شارحة لما أُجمل في سورة يونس فإن قوله هناك : (وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ ) هو عين قوله هنا : (كِتَابُ أُحْكِمَتْ ايَتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ) فكان أول هود تفصيلاً لخاتمة يونس" ١
وأما عن مناسبتها لخاتمة ما قلبها وهي سورة يونس : فقد ختمت سورة يونس بقوله (وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمُ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ ) وفيه إيماء بأن الله ناصر رسوله والمؤمنين على الذين كذبوا وعاندوا، فجاءت سورة هود مبدوءة بقوله تعالى (الرَ كِتَابُ أُحْكِمَتْ ايَتُهُ ثُمَّ فَصَلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ * أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ ) لبيان صفة الكتاب الذي أنزله الله تعالى على رسوله محمد ليبلغ دعوة ربه بالنذارة والبشارة .
مكية السورة ومدنيتها : السورة مكية إجماعا قال الأستاذ رشيد رضا هي مكية حتما كالتي قبلها ، واستثنى بعضهم منها ثلاث آيات:
(فَلَعَلَّكَ تَارِكُ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ)
(أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ)
(وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفِي النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ الَّيْلِ)
قيل إن هذه الآيات الثلاث مدنية وهو خلاف الظاهر ولا يقوم عليه دليل.
قال الشيخ صالح المغامسي:
" هذه السورة سورة مكية ، وعدد آيها مائة وثلاث وعشرون آية كلها مكية، إلا قول الله جل وعلا فيها: ﴿ وَأَقِمِ الصَّلَوَةَ طَرَفِي النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ الَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ) فهذه الآية في المشهور عند العلماء نزلت بالمدنية، وأما ما سوى ذلك فآيات مكية نزلت قبل هجرته صلوات الله وسلامه عليه إلى المدنية. وذكر ابن كثير في تفسيره أنها مكية .
موضوع المسؤولية والجزاء يظلل السورة من أولها ، عندما أبرزت جانب الإنذار في رسالات الأنبياء ، إلى آخرها عندما تحدثت عن مصير السعداء والأشقياء يوم القيامة.
--------------------------------
١- أسرار ترتيب القرآن للسيوطي .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق