الثلاثاء، 4 فبراير 2025

تدبر سورة الكهف | المحاضرة الثالثة والعشرون | د. محمود شمس


بسمِ اللَهِ الَرحمَنَ الَرحيم 
الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَأشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهَ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّىٰ اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَىٰ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وعَلَىٰ آلهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَجْمَعِيْنَ. سُبْحَنَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَاً إِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَلِيمُ ٱلْحَكِيمُ، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا يا رب العالمين، وَبَعْدُ: فإني أحييكم بتحية الإسلام: السَّلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ. وإني لأسأل اللّٰه أن يشرح صدورنا وأن يجعلني وَإِيَّاكُمْ من أهل القرآن الكريم الَّذِينَ هم أهل اللّٰه وخاصته. وها نحن نلتقي في لقائنا هذَا وتدبُّر سورة الكهف.
توقفت في اللقاء السَّابِق عند قول اللّٰه تبارك وتعالى: ( لَكِنَّاْ هُوَ ٱللَّهُ رَبِّى وَلَآ أُشْرِكُ بِرَبي أَحَدًا) وقلت: إنَّ صاحب الجنتين نسب النعمة لذاته، ونسب النعمة لنفسه ونسي المُنعِم الحق وبدأ يتعالىٰ ويتكبَّر عَلَىٰ أخيه الفقير، ويتكبر عليه بنعمة اللّٰه تبارك وتعالى مع أنَّ الإنسان لا يملك جلب النعمة، ولا يملك حفظ النعمة، يعني: أنتَ وأنتِ لا تملكين جلب نعمةٍ لك، وإذا أتتك النعمة لا تملكين حفظها، فالله هو المُنعِم الحق عَلَىٰ العِباد، وهو واهب النعم للعِباد، وهو الَّذِي يعلمنا السبيل إِلَىٰ الحفاظ عَلَىٰ النعمة؛ إذًا عندنا جلب نعمة، وعندنا كيفية الحفاظ عَلَىٰ النعمة الَّتِي جُلبت، اللّٰه يعلِّمنا سبيل حفظ النعمة؛ لأنَّ الإنسان -كما نعلم- مُركب من نفس، والنفس لها جانبان:
●نفس تشتهي
●ووجدانٌ يردعها.
يعني: النَّفس تشتهي وتريد أن تجلب ما تشتهيه من أي طريق، لكن هناك وجدانٌ داخليٌّ وهو ما نسميه بـالضمير يردع هذِه النَّفْس الَّتِي تحاول جلب تلك النعمة من أي طريق، فالله يعلّمنا سبيل استقبال النعمة، إذا أنعم اللّٰه عليك بنعمة لكي تحفظ تلك النعمة، ولكي يحفظ الله عليك تلك النعمة، عليك أن تُحسِن استقبالها وتُحسِن استقبال النعمة:
أولا: أن ترد النعمة إِلَى المُنعِم، أي نعمة أنعم اللّٰه بها عليك سواء أكانت جنة أي: حديقة، أو بستان، أو حَتَّىٰ أولاد، أو حَتَّى نظرت في المرآة لنفسك، يعني كل نعمةٍ أنت فيها أيَّا كانت، ولذلك قالَ اللّٰه مخاطبًا الإنسان: (وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ)، جنتك أنت، لكي تحافظ عَلَىٰ النعمة الَّتي أنعم اللّٰه بها عليك، فما بالك إذا دخلت جنة غيرك؟ يعني إذا دخلت جنتك أنت مطالبٌ بأن تقول: (مَا شَآءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِٱللَّهِ) فما بالك إذا دخلت عَلَىٰ نعمة غيرك؟ أظنه من باب أولىٰ أن تقول: (مَا شَآءَ ٱللَّهُ لَا قُوَةَ إِلَّا بِاللَّهِ).
 إذا في هذِه الآية الكريمة يعلمنا اللّٰه حُسْن استقبال النِعم، وحُسْن المحافظة عَلَىٰ النعم ألَّا تنسب النعمة إِلَّا إِلَىٰ المُنعِم الحق، فهو الَّذِي أنعم عليك، فلا تنسبها إِلَى ذكائك ولا إِلَى شطارتك، ولا إِلَى ما أخذت به من أسباب، فقد تأخذ بالأسباب لكنك لا تجد النتيجة المرجوة، فَالّذِي يملك النتيجة المرجوة هو اللّٰه تبارك وتعالى.
أداة (لَوْلًا) هي في الأصل معناها: حرف امتناعٍ لوجود، هذا أصل معناها، وتكون كذلك إذا دخلت عَلَىٰ جملةِ إسمية، يعني هي في الأصل تكون حرفًا دالًا عَلَىٰ امتناع الجواب لوجود الشَّرْط، دائمًا أمثلها لكم بقولي -حَتَّىٰ لا تنسوا-"لولا انشغالي لزرتكم" الزيارة امتنعت، طيب امتنعت الزيارة لماذا؟ امتنعت لوجود الانشغال، هذَا معنىٰ امتناع لوجود، فإذا دخلت عَلَىٰ جملةٍ اسمية فإنها تفيد ذلك، ووردت في القرآن الكريم في قول اللّٰه تَعَالَىٰ: ( لَوْلَآ أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ)، (وَلَوْ تَرَى إِذِ ٱلظَّلِمُونَ مَوْقُوقُونَ عِندَ رَبِِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ ٱلَّذِينَ ٱسْتُضْعِفُواْ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ لَوْلَآ أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ) أين الخبر هنا؟ الخبر هنا محذوف: لَوْلَا أَنتُمْ صددتمونا (لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ) يعني (لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ) دالٌّ عَلَىٰ الخبر وليس هو الخبر، أو دالٌّ عَلَىٰ الجواب وليس هو الجواب (لَولَا أَنتُمْ) صددتمونا (لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ))، فإذا دخلت عَلَىٰ فعل فَإِمَّا أن يكون الفعل مضارعًا، وَإِمَّا أن يكون الفعل ماضيًا:
إذا دخلت عَلَىٰ فعلٍ مضارعٍ فهي تدل عَلَىٰ الحثِّ الحثيث وهو الحضّ، التحضيض (فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ) إِلَىٰ آخر ما ورد في القرآن الكريم، (لَوَلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) هذِه تدل عَلَىٰ حثِّ العِباد عَلَىٰ الاستغفار.
أما إذا دخلت عَلَىٰ فعلٍ ماضٍ فإنها تدل عَلَىٰ التوبيخ: (لَوْلَا جَآءُو عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآء)، هذِه تدل عَلَىٰ التوبيخ، (لَوْلَا جَآءُو عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةٍ شُهَدَآءً).
 فإذا دخلت عَلَىٰ (إذْ) قبل الفعل الماضي، (إذْ) هذِه تدل عَلَىٰ الزمن، ودلالتها عَلَىٰ الزمن هنا أي: أنكم لولا فعلتم كذا فور سماعكم، أو فور دخولكم الجَنَّة، يعني (وَلَوَلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ) يعني: لولا وقت دخولك جنتك مباشرةً (قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ)، ليس معنىٰ ذلك أنك تدخل جنتك وتجلس ثُمَّ بعد ذلك تقول: مَا شَآءَ اللَّهُ بعد أن تجولت بعينيك؛ لا، من أول لحظة دخولك الجَنّة.
ولذلك هذه الآية تعالج ما خطر في بال هذَا الرجل وهو داخلٌ جنته الَّتِي ذكرها اللّٰه في قوله (وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ) هل دخوله الجَنَّة ظلمٌ لنفسه أنه داخلٌ جنته؟ أم أن الجَنَّة هذِه ملكه، ملك له ويدخلها مَتَىٰ شاء وكيف شاء؟ أليس كذلك؟ إِنَّمَا ظلمه لنفسه ما خطر في فكره وهو داخل الَّذِي ترجمه بقوله: (مَا أَظُنُ أَن تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا)، ثُمَّ تمادى في هذَا الأمر فَقَالَ: (وَمَا أَظُنُ السَّاعَةَ قَائِمَةً) كأنَّ الإنسان نفسه تتدرج معه في أمر النِعم فإذا نسب النعمة لنفسه وإذا لم يُحسِن استقبال النعمة يقوده ذلك إِلى البعد عن الله، بل يقوده ذلك إِلَى التكذيب بالبعث وبالجزاء وبالحساب.
يعني: الرجل مرَّ بالخاطرة الذهنية بمرحلتين:
المرحلة الأولى: (مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا) عندما رأى الجَنَّة أمامه البستان، ورأى أمامه الشجر يحمل من الثمار ما يحمل، فرأى أمامه منظرًا جميلًا دقيقًا فَقَالَ: أنا (مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَذِه أَبَدًا).
(وَمَا أَظُنُّ ٱلسَّاعَةَ قَائِمَةً) انظروا إِلَى النَّفْس، وكيف ارتقت به إِلَىٰ مرحلة أَعْلَىٰ، يعني: النَّفس تبدأ بنسبة النعمة للذات -لذات الإنسان- ثُمَّ ترتفع بك إِلَىٰ التكذيب بالبعث وبالحساب وبالجزاء.
لكن خلِّ بالكم: استيقظ وجدانه بعد أن قالَ ذلك: (وَلَئِن رُدِدتُ إِلَى رَبِّي) هذَا يدل عَلَىٰ استيقاظ الوجدان، إذَاً الإنسان فيه نفسُ تشتهي، ونفسُ تحبُّ أن تنسب النعمة لها حَتَّىٰ إنَّ تلك النَّفْس تبالغ، تبالغ في نسبة نعمةٍ لها وهي ليست لها في الأصل، لم يفعل شيئًا لأجلها وَإِنَّمَا يريد أن ينسبها لنفسه، لكن سرعان ما تستيقظ النَّفْس وهكذا الإنسان.
فعَلَىٰ الإنسان عندما يستيقظ الوجدان في داخلك اغتنم هذِه اليقظة لأنَّ هذِه اليقظة من اللّٰه، هو لم يتراجع، إِلَى الآن هو لم يتراجع، لكن هو استيقظ وبحثت نفسه عن مخرج، يعني لم يقل: لا، أنا أخطأت في ذلك، ولم يقل: النعمة من الله، ولم يقل: اللهُ هو الَّذِي وهبها لي، لكن استيقاظ وجدانه ثُمَّ بحث عن مخرج. وأظنُّ أني قلت سابقًا: أنَّ أسوأ نفس هي النَّفْس الَّتِي تلوم صاحبها عَلَىٰ تقصيره أو عَلَىٰ فعله المعصية ثُمَّ سرعان ما تبحث عن مخرج، يعني هي تلومك أنك لماذا لم تقم لصلاة الفجر اليوم؟ لماذا عندما استيقظت أغلقت المنبه مرةً أخرى؟ ثُمَّ إذا أرادت أن تبحث لك عن مخرج تقول لك: لو أنَّ اللّٰه قدَّر لك أن تصلي الفجر اليوم لصليت، لو أنَّ اللّٰه كتب لك ذلك لصليت، لكن اللّٰه كتب لك غير ذلك، هذَا بحثٌ عن مخرج، ولذلك هو وجدانه استيقظ لكن بدأ يبحث عن مخرج لنفسه، يعني (وَلَئِن رُدِدتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنقَلَبًا)، يعني بدأ يُقِرّ بأنَّ هناك بعثًا لأنه بدأ يسخر وبدأ يقول: إذا كان هناك رجوعٌ إِلَىٰ ربي فسأجد خيرًا من هاتين الجنتين منقلبةً لي هناك.
(وَلَولَا) فور دخولك (جَنَّتَكَ) هذه فائدة وجود (إِذَ)، ولذلك فَتّشوا عن (لَوْلَا إِذَ) وبعدها فعل ماضٍ في القرآن:
/ (لَوَلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ) أي: لولا فور سماعكم للشائعات (ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَٱلْمُؤْمِنَٰتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا).
/(فَلَوْلَا إِذْ جَآءَهُم بَأْسُنَا) (فَلَوْلَا) فور مجيء البأس (تَضَرَّعُوا).
أخذنا بالنا، هذه (وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ).
 
 (قُلْتَ مَا شَآءَ ٱللَّهُ لَا قُوَةَ إِلَّا بالله) ما معنى هذِه الجملة؟
أولًا:
(مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ)، (مَا) هنا إِمَّا أن تكون اسمًا موصولًا بمعنى الَّذِي فتكون خبر عن مبتدأ محذوف، يعني فيه قبلها مبتدأ محذوف يُقدَّر: الأمر الَّذِي شاء اللّٰه إعطاءه إيَّاي، (قُلْتَ) الأمر الَّذي (شَآءَ اللَّهُ) إعطاءه إيَّاي، هذا معنىٰ (شَآءَ اللَّهُ) الأولىٰ.
ثانيا: أو أن تكون (مَا) نكرة وقعت نكرة موصوفة، فتكون بمعنىٰ:
هذِه شيءٌ شاء الله لي، (قُلْتَ) هذه شيءٌ (شَآءَ ٱللَّهُ) لي. إذًا أنت هكذا أبعدت نسبة هذه النعمة لنفسك، ونسبت النعمة كاملةً إِلَى اللّٰه.
وتأتي جملة (لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ) تعليل، جملة تعليلية، أي: (لَا قُوَة) لي عَلَى إنشائها، ولا قُوَةَ لمن أنشأها (إِلَّا بِٱللَّهِ) يعني: (لَا قُوَّةَ) لي عَلَىٰ إنشاء هذِه الجَنَّة، و(لَا قُوَةَ) لمن أنشأها -إذا كان هناك من أنشأها من البشر- لا قوة له (إِلَّا بِاللَّهِ) فأنت بذلك تخليت عن ذاتك ونسبت النعمة إِلَى اللّٰه تبارك وتعالى .
فيكون معنىٰ (مَا شَآءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ):
/ (مَا شَاءَ اللَّهُ) إذا كانت اسمًا موصولًا، أي: الأمر الَّذِي شاء اللهُ لي.
/ وإذا كانت نكرة موصوفةً، هذه شيء شاء اللهُ لي.
وتأتي الجملة التعليلية (لَا قُوَةَ إِلَّا بِٱللَّهِ) أي: (لَا قُوَّةَ) لي عَلَىٰ إنشائها، و(لَا قُوَّةَ) لمن أنشأها (إِلَّا بِاللَّهِ ) .
• خلِّ بالكم: النعم عَلَىٰ نوعين:
/ نعم تدل عَلَىٰ عظمة اللّٰه وكمال قدرة اللّٰه في ذاتٍ كنعمةٍ أراها في وجهي، كنعمةٍ أراها في ابنتي، كنعمةٍ أراها في ولدي، كنعمةٍ أراها ... إِلَى آخره، فإذا أردت أن تثني عَلَىٰ اللّٰه خيرًا بهذه النعمة قل: ما شاء الله تبارك الله. إذا أنت تُثني عَلَىٰ اللّٰه بأنْ وهبك هذِه النعمة.
/ أما إذا كانت نعمةً مُنشأة كعمارةٍ، أو كجنةٍ، أو كبستانٍ، أو بيتٍ، أو، أو، أو… قل (مَا شَآءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ)، رزقك اللّٰه الولد بعد أن كنت لا تُنجِب، يعني أعطاك شيئًا لم يكن موجودًا، إِنَّمَا إذا أردت الثَّنَاء عَلَى الله قل: ما شاء اللّٰه تبارك الله، والوارد هنا في الآية: (مَا شَآءَ اللَّهُ لَا قُوَةَ إِلَّا بِاللَّهِ) لأنها نعم محسوسة وهي الجَنَّة.
 ثُمَّ بعد ذلك بدأ الرجل الصالح يفنِّد كلام صاحب الجنتين، صاحب الجنتين كان قد قالَ له: (أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا)، فهو يقول له معترفًا: (إِن تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنكَ مَالًا وَوَلَدًا) يعني صحيح أنا أقل منك مالًا وولدًا وأنت أكثر مني مالًا وولدًا، لكن هل أنت تملك حفظ هذِه النعمة؟ هل أنت تملك دوام هذه النعمة لك؟ هل أنت تملك أن يستمر الحال هكذا؟ أليس اللّٰه بقادر عَلَىٰ أن يبدِّل فيجعل الغني فقيرًا والفقير غنيًّا؟ يعني: (إِن تَرَنِ) الآن أمامك (أَنَا أَقَلَّ مِنكَ مَالًا وَوَلَدًا فَعَسَىٰ رَبِّ أَن يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِن جَنَّتِكَ ) قادر أو ليس بقادر؟ قادر .
 (وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ)  (الحُسْبان): الشَّيْء المحسوب بدقةٍ وبحسبان، الَّذِي لا يخطئ أبدًا كما قالَ الله: (الشَّمّسُ وَٱلْقَمَرُ يحُسْبَانِ)، فالحُسْبَان: هو الشَّيْء المحسوب بدقة، يعني ماذا (وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ)؟
 يُرسل عليها صاعقةً خاصةً بحديقتك محسوبةً لها فَقَطْ
• لو أنَّ الصاعقة الَّتِي أُنزلت من السماء أُنزلت عَلَىٰ جميع البساتين المحيطة لقال: هي آيةٌ كونية أصابتني كما أصابت غيري، أليس كذلك؟ إِنَّمَا كمال القدرة: أن يُرسل اللّٰه حسبانًا من السماء صاعقة محسوبة بدقة تنزل عَلَىٰ حديقتك خِصِّيصًا، فليست صاعقةً عامة، ليس آيةً كونية حَتَّىٰ تقول: أصابتني كما أصابت غيري.
تذكرون أصحاب الفيل عندما أرسل اللّٰه (عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِن سِجِّيلٍ) شيء مخصوص يُرسل لمخصوص، هذَا معنىٰ الحُسْبَان.
• (وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ) ماذا يترتب عَلَىٰ هذَا الإرسال؟
أن تُصبح (صَعِيدًا زَلَقًا)K (صَعِيد) يعني: تراب، يعني:تُخلع الأشجار وتُصبح (صَعِيدًا) يعني: ترابًا كما قَالَ الله: (فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا)، فالحُسْبان سينزل عليها تتحوَّل إِلَىٰ تراب، ويا ليتها تتحول إِلَىٰ ترابٍ فَقَطْ، إِنَّمَا: (صَعِيدًا زَلَقًّا)، ما معنىٰ (زَلَقًّا)؟ يعني: التراب يكون مُبَلَّلًا بالماء فتنزلق عليه الأقدام، فلا تصلح حديقتك حَتَّى للمشي، تعرفون التراب عندما يُبلَّل بالماء، وتُصبح الأرض منزلقة لا يستطيع أحدٌ المشي عليها، فَهذا معنى: (صَعِيدًا زَلَقًّا). (فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًّا) يعني: حَتَّىٰ هذِه الأرض لو قَالَ:(صَعِيدًا) فَقَطْ لقلنا: يمكن السير عليها وإعادة زراعتها، إنَّمَا ( زَلْقًا) بمعنى: أنها تُصبح أرضًا منزلقة، فلا يمكن لأحدٍ أن يمشي عليها.
(أَوَ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا)
 الغور: هنا تعبيرٌ بالمصدر، يعني: الأصل: أو يصبح ماؤها غائرًا، الماء الغائر هو الماء الغائر في الأرض الَّذِي لا يتجمع في مكانٍ واحد، فعندما نحفر بئرًا البئر هذَا ماذا يفعل؟ كيف يتجمع الماء في هذَا البئر؟ يتجمع الماء في هذا البئر من الأرض المحيطة، فيأتي الماء في هذه الحفرة فيملؤها، لو شاء اللّٰه ألَّا يتجمع هذا الماء؛ فمهما حفرتم من آبارٍ فالماء غائرٌ في الأرض، ومن قوة أنه غائر: (أنه غَوْرًا) (غَوْرًا) مصدر كما أقول: رجلٌ عَدْل يعني: متصفٌ بالعدل تمام الاتصاف، إذا ماء غور وأكده اللّٰه بقوله: (قَلَن تَسْتَطِيِعَ لَهُ طَلَبًا) لأنَّ الماء الغائر في الأرض يمكن أن نجعله يجتمع في البئر بآلاتِ أو بأمورٍ أخرىٰ بطرقٍ أخرىٰ، الماء الغائر في الأرض نستطيع أن نجعله يتجمع في البئر الَّذِي حفرناه بوسائل، نأتي مثلًا بمكن شفط الماء، نأتي مثلا بآلاتِ تأتي بهذا الماء وتجمعه في مكانٍ ما، فأكَّد اللّٰه بقوله: {فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ  طَلَبًا). انظروا:
 أولًا: تصبح هذِه الحديقة صعيد، صعيد يعني: أرضها تراب
 ثُمَّ (صَعِيدًا زَلَقًا) يعني: التراب يُبلَّل بالماء، فينزلق وتنزلق الأقدام فلا يستطيع أحدٌ المشي عَلَىٰ هذِه الأرض، يعني: لن يستطيع أن يعيد زراعتها.
 أَوْ يُصْبِحَ مَآوُهَا غَوْرًا) (غَوْرًا ) يعني: غائرًا في الأرض.
 طيب هل يمكن أن نستدعي الماء الغائر في الأرض بالآلات؟ نعم يمكن، لكن قَالَ اللّٰه مؤكدًا ذلك: (قَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا).
 
• (وَأُحِيطَ بِثَمَرِه)
- انتبهوا: هذِه نقطة مهمة جدًّا- (وَأُحِيطَ بِثَمَرِه): رب العِباد لم يفرِّع هذِه الجملة بالفاء لماذا؟ يعني: لماذا لم يقل: فأحيط بثمره، إِنَّمَا: (وَأُحِيطَ بِثَمَرِوه)؟
 حَتَّىٰ لا يجزم أحدٌ أنَّ هلاك هذِه الحديقة كان بناءً عَلَىٰ رجاء هذَا الرجل الصالح فَقَطْ.
 يعني: لو قَالَ الله: فأحيط بثمره لقلنا: إنَّ اللّٰه استجاب فورًا، ما أراد اللّٰه أن يجعلها استجابةً فورية حَتَّىٰ لا يظن أحد أن مجرد رجائه أو تمنيه هلاك مثل هذه الحديقة أو هلاك أي خيرِ في يد إنسان حقَّق اللّٰه له رجاءه.
طيب، هل: «أُحِيطَ بِثَمَرِهِ)) لكفره لأنه كافر؟ طيب، الكفار يمتلكون ما يمتلكون في هذه الدنيا والله لا يُهلِك ما يملكونه بناءً عَلَىٰ كفرهم؛ إذًا الكفر ليس سببًا مباشرًا، أليس كذلك؟ طيب إذًا ما الْسَّبَب الرئيسي الَّذِي جعل الهلاك يتسرَّب لحديقة هذَا الرجل؟
أولًا: طغيان حبِّ المال في قلبه، بأن نسب النعمة لذاته، وَالتَّكَبُّر عَلَىٰ الفقير بما يملك، وَالتَّكَبُّر عَلَىٰ الفقير بما تملك أنت لا تملك، يعني: ماذا تملك أنت حَتَّىٰ تتكبر عَلَىٰ الفقير؟ المال لا تملك جلبه، ولا تملك المحافظة عليه، كل ما لديك من نعم، قل لي نعم عندك أو عندي أنا الَّذِي جلبتها لنفسي أو أستطيع المحافظة عليها؟ من منَّا يملك ذلك؟ لا يملك ذلك.
 ولذلك عندما نذهب إِلَىٰ قارون، فقارون قَالَ: (إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي) نفس الكلام، يعني صحيح اختلفت الجمل، لكن نفس المعاني، (مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا وَمَا أَظُنُ ٱلسَّاعَةَ قَائِمَةً)، و(أَنّا أَكْثَرُ مِنكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا) تعطينا نفس كلام قارون، (فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ) فكانت النتيجة: (فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِه الْأَرْضَ) عقوبة قارون أشد لأنه قالَ: (أَوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِيَّ).
إذًا ما الْسَّبَب الرئيسي الَّذِي كان سببًا في هلاك هُذِه الجَنَّة؟
 
الْسَّبَب الرئيسي: هو طغيان حب النعمة في قلبه، نسبة النعمة إِلَىٰ ذاته، وفرعون كذلك، فالتفاخر والتباهي وَالتَّكَبُّر عَلَىٰ عباد اللّٰه بنعم الله هذِه كلها تزيل النعم، فانتبهوا لما يزيل عنكم النعم، وانتبهوا كيف تحفظون النعم، احفظوا نعم اللّٰه بحُسْن استقبالها، وبحُسْن نسبتها إِلى المُنعم الحق، وكونوا من عباد اللّٰه الشاكرين: (لِئن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ)، (لَئِن شَكَرْتُمْ) هَذَا حُسْن استقبال النعمة.
الإحاطة يعني الأخذ من كل جانب، الإحاطة من كل جانب من كل مكان، وخلّ بالكم من دقة التعبير هل قَالَ: وأحيط بجنته؟ لا
هل قَالَ: وأحيط بنخله؟ لا
هل قَالَ: وأحيط بزرعه؟ لا
لماذا (بِثَمَرِه)؟
لأنَّ الثَّمرة هي المرجوة من الزرع الَّذِي في الحديقة، ما الَّذِي يرجوه الزارع من حديقته؟ يرجو الثمرة، فالهلاك أتى للثمرة، يعطينا دلالات، ما الدلالات؟ دلالات أن كان هذا الزرع قد أثمر واقترب عَلَىٰ الجني، يعني: إذا كان مثلًا شجر تفاح أثمر والتفاح أمامه، وخلاص يعني يجنيه صباحًا كأصحاب الجَنَّة الَّتِي قَالَ اللّٰه عنها: (فَطَافَ عَلَيْهَا طَآئِفٌ مِن رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ) يعني: لو قَالَ: وأحيط بجنته؛ لقيل: إنَّ هناك بعض الثمار قد نجت له، أو أنه كان قد جمع بعض الثمار، والإحاطة جاءت لِلجَنَّةِ بعد أن أخذ بعض الثمار، إنَّمَا: (وَأُحِيطَ بِثَمَرِه) يعني: خلاص، لم يستفِد ولن يستفيد من هذِه الحديقة.
(وَأُحِيطَ بِثَمَرِه) الثمر، وبالطبع الهلاك للشَّيْءِ عندما يبدأ في الانتفاع يكون أشد تحسُّرًا، صح؟ يعني خلاص الثمرة سيجنيها في الصباح لكنه أُحيط بها فهلكت، انظروا إِلَىٰ تصوير القرآن لحال هذَا الرجل.
أول حاجة بدأ يعملها ما هي؟
 (يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا) تقليب الكفين، أظن تعرفون تقليب الكفين جيدًا، يضرب كفًّا بكفِّ، ويقلِّب كفيه عَلَىٰ ظهره مرة، وعَلَىٰ وجهه، إِلَىٰ آخره، شدة التحسُّر؛ ولذلك هذِه نأخذ منها ماذا؟ أنتم تعرفون التعبيرات الجسدية، في القرآن الكريم، فيه تعبيرات جسدية في القرآن الكريم لها دلالات في المعاني:
المتحسّر بشدة: (يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ) يضرب كفيه في بعضهما البعض ويلقبهما، هذَا المتحسِّر.
والظالم يعض عَلَىٰ يديه
والمغتاظ: يعض الأنامل
 هذِه كلها حركات جسدية.
●وفي قوله: (جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِٱلْبَيِّنَٰتِ فَرَدُّواْ أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَهِهِمْ) تعرفون ما معنى: (فَرَدُّواْ أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَهِهِمْ)؟ تعجبوا،
(رَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ) يعني: تعجبوا، ولا يزال النَّاس حَتَّىٰ اليوم عندما يتعجبون يضعون يدهم عَلَىٰ فيهم هكذا، وَالَّذِي يقول: ((واو))، وَالَّذِي يقول كذا، وَالَّذِي يقول كذا، إِلَىٰ آخره، ألا يحدث هُذَا؟ يحدث عندما يتعجب الإنسان من سماع خبر ما، هذه كلها تُسمى الحركات الجسدية المعبِّرة عن دلالاتٍ في القرآن.

●(فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْقَقَ فِيْهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا)
 ما تعبير (خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا) هُذَا؟
العروش
: هي أسقف البيوت، حَتَّىٰ كنت زمان أسمع: احنا هنعرش بيتنا اليوم! قبل أن يظهر التسليح والمسلح، أيام ما كان السقف من خشبٍ ومن.. إِلَىٰ آخره، هل كنتم تعرفون هذا؟ يقولون: نعرِّش، تعريش البيوت، التعريش يعني: ما يضعونه عَلَىٰ السقف، ومعنى: (خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا) يعني: الأسقف وقعت ولمَّا وقعت الأسقف وقعت الجدران فوقها كما قالَ الله: (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا)، هذا تعبير (وَهِىَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا).
 
● ثُمَّ يتندَّم كلامًا بقوله: (يَلَيْتَنِي لَمْ أُشْرِك بِرَبِّى أَحَدًا)
 (لَيْتَ) هُذَا تمنِّي استعمله هاهُنا في التحسُّر، وأدخل حرف النداء عَلَىٰ (لَيْت) مع أنَّ (لَيْت) حرف ولا يُنادَى إِلَّا العاقل، يعني: أنا لا أنادي إِلَّا العاقل، صح؟ فهو هنا نزَّل غير العاقل منزلة العاقل، وبدأ يقول: يا حسرتي احضري! بالضبط هكذا، كأنه يقول: يا حسرتي احضري! حسرتك عَلَىٰ ماذا؟ أنني (لَمْ أَشْرِك بِرَبِّى أَحَدًا) خلِّ بالكم: عندما استيقظ وجدانه بدايةً وهو يقول: (وَلَئِن رُدِدتُّ) قالَ: ( إِلَى) ماذا ؟ ( إِلَى رَبِّى)، لكنه إقرارٌ بالربوبية فَقَطْ؛ ولذلك في حوار الرجل الصالح قالَ له: (لَكِنَّاْ هُوَ ٱللَّهُ رَبِّى) الرجل الصالح استشهد بالألوهية والربوبية، يعني: كأنَّه يقول له: يقظتك غير صحيحة، يقظتك تحتاج إِلَى تعديل، طيب هذِه المرة قالَ: (لَمْ أُشْرِك بِرَبِّى أَحَدًا) هذِه ربوبية مقترنة بألوهية مع أنَّه لم يذكر لفظها، لم يقل: الله، لكن قوله: (لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّى أَحَدًا) تدلُّ عَلَىٰ إقراره بالألوهية وبالربوبية.
ولذلك ذهب الكثير من المفسرين أنَّ قوله هذَا دلَّ عَلَىٰ شدة تندمه وإيمانه بعد ذلك، واللهُ أَعْلَمُ.
ونتوقف هاهُنا الليلة، ونُكمل بحول اللّٰه وقوته في لقائنا القادم، وأسأل اللّٰه  أن يرزقني وَإِيَّاكُمْ التَّوْفِيْق والسداد في القول والفعل والعمل، وأن يبارك اللّٰه لي ولكم في وقتنا ووقتكم، وفي صحتنا جميعًا، وفي أرزاقنا، وفي أولادنا، وأن يشفي اللّٰه مرضانا، وأن يرحم اللّٰه موتانا.
وَصَلِّ اللَّهُمَّ وَسَلِّمَ وَبَارِكَ عَلَىٰ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وعَلَىٰ آلهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِيْنَ وَالسَّلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق