الأحد، 26 يناير 2025

فوائد منتقاة من سور يونس / الآيات (١-١٠)

 - (الر ۚ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ) 
(الحكيم) : المُحْكَم بالحلال والحرام والحدود والأحكام ؛ قاله أبو عبيدة وغيره. وقيل: الحكيم بمعنى الحاكم أي إنه حاكم بالحلال والحرام ، وحاكم بين الناس بالحق، فعيل بمعنى فاعل دليله قوله (وَأَنزَلَ مَعَهُمُ ٱلْكِتَبَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ ٱلنَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيه } [ البقرة : ٢١٣].

وقيل: الحكيم بمعنى المحكوم فيه أي حكم اللّٰه فيه بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وحكم فيه بالنهي عن الفحشاء والمنكر، وبالجنة لمن أطاعه وبالنار لمن عصاه، فهو فعيل بمعنى المفعول، قاله الحسن وغيره.


ـ (أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَىٰ رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ ۗ)

المهمة الأساسية للرسول هي الإنذار والتبشير ، وجاء الإنذار عاما لكل الناس لأنهم يحتاجون إلى من يهددهم ويتوعدهم ويعرفهم نتيجة إعراضهم عن دعوة ربهم أومخالفتهم لحكم من أحكام شريعته وخروجهم عليها.


ـ { وَبَشِّرِ الَّذِينَ امَنُوا } وردت البشارة في كتاب اللّٰه جل وعلا كثيرا :

/ إما بشارة بمولود وهو أكثرها ورودا، فإن اللّٰه جل وعلا قال عن خليله إبراهيم ( وَيَشَرْنَٰهُ بِإِسْحَقَ }، وقال ( وَلَقَدْ جَآءَتْ رُسُلُنَا إِنَرَاهِيمَ بِٱلْبُشْرَى ) ، وقال (بَشَرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُن مِنَ القَانِطِينَ )، وجاء في خبر زكريا (إِنَّا نُبَشِرُكَ بِغُلَمٍ اسْمُهُ يَحْيَىٰ لَمْ تَجْعَل لَهُ مِن قَبْلُ سَمِيًّا )}، وهذا يدلك على أن الإنسان جُبِل على أنه يفرح بالمولود لأن لله جل وعلا ما ذكر هذا في حق العِظام من الرسل إلا لدلالة أن ذلك يُوافق الطبع ويتأتى مع أحوال النفوس، ولهذا بُشر الأنبياء بالأولاد ذكورا وإناثا.

/ كما جاءت البشارة في الأُعطيات الأخروية وهذا هو المقصود في هذه الآية الكريمة.


( أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ ) "اختلف العلماء في معنى قوله ( قَدَمَ صِدْقٍ ):

/ فمن العلماء من قال : المقصود به الجنة يعني المكان والمدخل أو المقام ،وحجة هؤلاء قول اللّٰه جل وعلا ( وَقُل رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ ) فقالوا إن المدخل والقدم كلها بمعنى واحد والمقصود بالآية هنا الجنة وهذا يظهر أنه بعيد.

/ ومنهم من قال : إن المقصود به شفاعة نبينا صلى الله عليه وسلم واحتجوا بما جاء في السنة الصحيحة أنه صلى الله عليه وسلم قال: (أنا فرطكم على الحوض ) ومعنى فرطكم أي سابقكم إلى الحوض هذه حجة من قال أن القدم هنا الشفيع .

/ ومنهم من قال : إن المراد بذلك ما قد كتبه اللّٰه في الأزل من النجاة والسعادة لأهل الإيمان ،ودليله قول اللّٰه جل وعلا في سورة الأنبياء (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَىٰ أُولَٰئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا ۖ وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ) [الأنبياء: ١٠٢ -١٠١] ، وهذا القول يُروى عن ابن عباس رضوان اللّٰه تعالى عليهما.

/ وقال بعض العلماء : إن المقصود ما تدخره الأمة من صبرها على وفاة نبيها صلوات اللّٰه وسلامه عليه ،ولا ريب أن وفاته مصيبة وأي مصيبة، وهذا لا خلاف فيه بين المسلمين، لكن كون أن له علاقة بالآية فالحق أن هذا موضع نظر ولا يظهر أن هناك علاقة بين قول اللّٰه جل وعلا ( أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ )  وبين وفاته

/ وأرجح الأقوال - والعلم عند الله - أن المقصود بقوله ( أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ ) : العمل الصالح ، وهذا هو قول مقاتل بن سليمان -أحد أعظم المفسرين- واختاره الإمام الطبري -رحمه اللّه- وحجة هؤلاء أنه جاء في كلام العرب أنها تُكني عن النعمة باليد تقول فلان له علي يد يعني له علي نعمة، وتقول عن الثناء الحسن تُكني عنه باللسان جاء في القرآن (وَاجْعَل لِى لِسَانَ صِدْقِ فِي الْأَخِرِينَ ) معنى لسان صدق يعني ثناء حسنا في الآخرين ، وتُكني بالقدم عن السعي وهذا ثابت عندهم وفيه أشعار لهم. وعليه فيُصيح ( أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ ) أي ما ادخره اللّٰه لهم من أعمالهم ، وما قاموا به من جلائل الطاعات ،هذا ينفعهم يوم يلقون اللّٰه ، ويُصبح المقصود بالبشارة هنا: أن ما قدموه من عمل صالح محفوظ لهم ، والقرينة التي تُعين على هذا أن اللّٰه لم يذكر العمل هنا فلم يقل وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات.


- "هذا التبشير من أعظم ما يُعين على الطاعة ، أن تعلم أن اللّٰه تعالى يحفظ لك عملك ، فقد يأتيك من يُثبطك إن اجتهدت في الطاعة يقول : لو كنت بنفسك أرفق، ولو دفعت مالا قال أبناؤك أحوج، ولو صنعت وصنعت أتى لك بما يُغيّر حالك، نعم دين اللّٰه وسط لكن عندما يتذكر المؤمن أن هذا محفوظ عند اللّٰه يُعينه على العطاء. وقد رُزق محمد بن كعب القرظي -أحد التابعين ومن المفسرين- مالا فجأة فأنفقه فقيل له: لو ادخرت المال لولدك ، قال أدخر لي مالي عند ربي ، وأدخر ربي لولدي "


- أهمية الصدق في الأمور كلها فهو جماع الخير وعليه تدور الأعمال النافعة والصدق في ثلاثة، قال ابن القيم:

"فالصدق في الأقوال: استواء اللسان على الأقوال كاستواء السنبلة على ساقها، والصدق في الأعمال: استواء الأفعال على الأمر والمتابعة كاستواء الرأس على الجسد ، والصدق في الأحوال: استواء أعمال القلب والجوارح على الإخلاص واستفراغ الوسع وبذل الطاقة. فبذلك يكون العبد من الذين جاءوا بالصدق وبحسب كمال هذه الأمور فيه وقيامها به تكون صديقيته ولذلك كان لأبي بكر الصديق رضي تااه عنه ذروة سنام الصديقية، سُمي الصديق على الإطلاق، والصدِّيق أبلغ من الصدُوق والصدُوق أبلغ من الصادق، فأعلى مراتب الصدق مرتبة الصديقية وهي : كمال الانقياد للرسول مع كمال الإخلاص للمرسل .

وقد أمر اللّٰه تعالى رسوله أن يسأله أن يجعل مدخله ومخرجه على الصدق فقال : ( وَقُل رَبِّ أَدْخِلْنِى مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاَجْعَل لِي مِن لَدُكَ سُلْطَاننَا تَصِيرًا )، وأخبر عن خليله إبراهيم أنه سأله أنه يهب له لسان صدق في الآخرين فقال : (وَاجْعَل لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْأَخِرِينَ )، وبشّر عباده بأن لهم عنده قدم صدق ومقعد صدق فقال تعالى: (وَبَشِّرِ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَيْهِمْ ) ، وقال: ( إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ (55) ) ، فهذه خمسة أشياء: مدخل الصدق ومخرج الصدق ولسان الصدق وقدم الصدق ومقعد الصدق، وحقيقة الصدق في هذه الأشياء : هو الحق الثابت المتصل بالله الموصل إلى اللّٰه وهو ما كان به وله من الأقوال والأعمال وجزاء ذلك في الدنيا والآخرة "*٣


- ( إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ ۖ) 

لما ذكر تعالى عن الكفار أنهم تعجبوا من الوحي والبعثة والرسالة، وأزال ذلك التعجب بأنه لا يبعد البتة في أن يبعث خالق الخلق إليهم رسولا منهم يبشرهم على الأعمال الصالحة بالثواب وينذرهم على الأعمال الباطلة الفاسدة بالعقاب، كان ذلك الجواب إنما يتم ويكمل بإثبات أمرين:

(أحدهما) إثبات وجود اللّٰه أي: لهذا العالم إله قاهر قادر نافذ الحكم بالأمر والنهي والتكليف.

(والثاني) إثبات المعاد أي: الحشر والنشر والبعث والقيامة حتى يحصل الثواب والعقاب اللذان أخبر بهما الأنبياء.

فذكر اللّٰه تعالى في هاتين الآيتين ما يدل على تحقيق هذين المطلوبين.

أما إثبات الإلهية فبقوله تعالى: ( إِنَّ رَبَّكُمُ ٱللَّهُ لَذِى خَلَقَ السَّمَوَتِ وَٱلْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ) ، وأما إثبات المعاد والحشر والنشر فبقوله تعالى: ( إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا ۖ وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا)، فثبت أن هذا الترتيب في غاية الكمال ونهاية الحُسن والجمال.


- "خلق اللّٰه السموات والأرض في ستة أيام مع أنه قادر على خلقها في لحظة واحدة ليُعلِّم عباده التريث في الأمور وعدم العجلة في الأمور، وأن يعملوا أمورهم منظمةً موضحةً تامة على بصيرة وعلى علم من دون عجلة وإخلال بما ينبغي فيها، وهو سبحانه مع كونه قادراً على كل شيء وعالماً بكل شيء مع ذلك لم يعجل بل خلقها في ستة أيام وهو قادر على خلقها في لمحة أو دقيقة (إنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) سبحانه وتعالى، فجعلها منظمة مدبرة في أيام معدودات، ليُعلّم عباده كيف يعملون، وكيف ينظمون أمورهم، وكيف يتريثون في الأمور، ولا يعجلون حتى تنتظم مصالحهم، وحتى تستقيم أمورهم على طريقة واضحة وطريقة يطمتنون إليها، فيها مصالحهم، وفيها ما ينفعهم ويدفع الضرر عنهم.

وقد أشار اللّٰه سبحانه إلى هذا المعنى في آيات، قال عز وجل: ( وَهُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضَ فِي سِنَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَآءِ لِيَبْلُوكُمْ أَيُكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ) ، فأخبر أنه خلقها هكذا؛ ليبلونا وليختبرنا أينا أحسن عملاً، وأتقن عملاً، وأكمل عملاً. فالعَجِل الذي لا يتدبر الأمور قد يُخِل بالعمل، فالله خلقها في ستة أيام ليبتلي العباد بإتقان أعمالهم، وإحسان أعمالهم، وعدم العجلة فيها، حتى لا تختل شؤونهم ومصالحهم، ففي هذه الآيات وما جاء في معناها الدلالة على أنه سبحانه خلق هذه الأشياء بهذا التنظيم وبهذه المدة المعينة ليبلوا عباده ويختبرهم أيهم أحسن عملاً، ما قال أكثر عملاً قال أحسن، فالاعتبار بالإتقان والإكمال والإحسان لا بالكثرة.

- يظهر لنا من خلال الآيات الكريمات أهمية الإيمان بالقضاء والقدر فلا شيء يحدث في الكون كله إلا بسابق علمه سبحانه وإرادته فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن.


/ لما ذكر حكمه القدري وهو التدبير العام، وحكمه الديني وهو شرعه الذي مضمونه ومقصوده عبادته وحده لا شريك له، ذكر الحكم الجزائي وهو مجازاته على الأعمال بعد الموت فقال: ( إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ حَيعًا ) أي: سيجمعكم بعد موتكم، لميقات يوم معلوم.


/ ( هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ ۚ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَٰلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ ۚ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ*إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ)

 ولما قرر ربويته وإلهيته ذكر الأدلة العقلية الأفقية الدالة على ذلك وعلى كماله في أسمائه وصفاته من الشمس والقمر، والسماوات والأرض وجميع ما خلق فيهما من سائر أصناف المخلوقات وأخبر أنها آيات ( لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ) و ( لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ ).

أخبر سبحانه أن هذه المخلوقات آيات لقوم يعلمون ولقوم يتقون ذلك أن العلم يهدي إلى معرفة الدلالة فيها، وكيفية استنباط الدليل على أقرب وجه، والتقوى تحدث في القلب الرغبة في الخير والرهبة من الشر الناشئين عن الأدلة والبراهين، وعن العلم واليقين.


/ إن مجرد خلق هذه المخلوقات بهذه الصفة دال على كمال قدرة اللّٰه تعالى وعلمه، وحياته وقيوميته، وما فيها من الإحكام والإتقان والإبداع والحسن دال على كمال حكمة الله، وحسن خلقه وسعة علمه، وما فيها من أنواع المنافع والمصالح كجعل الشمس ضياء، والقمر نورا يحصل بهما من النفع الضروري وغيره ما يحصل يدل ذلك على رحمة اللّٰه تعالى واعتنائه بعباده وسعة بره وإحسانه، وما فيها من التخصيصات دال على مشيئة اللّٰه وإرادته النافذة.

/ في هذه الآيات الحث والترغيب على التفكّر في مخلوقات الله، والنظر فيها بعين الاعتبار، فإن بذلك تنفتح البصيرة، ويزداد الإيمان والعقل، وتقوى القريحة، وفي إهمال ذلك تهاون بما أمر اللّٰه به، وإغلاق لزيادة الإيمان، وجمود للذهن والقريحة.

/ وعن سر وصف الشمس بالضياء ووصف القمر بالنور قال بعض المفسرين : خصّ الشمس بالضياء لأنها أقوى وأكمل من النور ، وخصّ القمر بالنور لأنه أضعف من الضياء، وقال آخرون : ما بالذات ضوء وما بالعَرض نور، وقد نبه سبحانه وتعالى على أنه خلق الشمس نيرة في ذاتها ،والقمر نيرا بعَرضِ مقابلة الشمس والاكتساب منها.

/ يُلاحظ أنه ختم الآية الأولى بقوله (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ) ثم ختم الآية الثانية بقوله ( لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ )} مما يدل على أن الإنسان الذي يتأمل ويتدبر بديع صنع اللّٰه في مخلوقاته ويعلم ما فيها من الأدلة والبراهين على وجوده سبحانه ووحدانيته لابد أن يؤمن بالله ويخشاه ويعمل في طاعته وعبادته ليتقي عذابه وغضبه ،فالعلم مع الإيمان يؤدي إلى العمل بطاعته.


/ (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُم بِإِيمَانِهِمْ ۖ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ)

( يَهْدِيهِمْ رَبُّهُم بِإِيمَانِهِمْ ۖ) لها معنيين:

 بسبب إيمانهم، وهذا يحتمله ظاهر اللفظ وهو اختيار ابن جرير - رحمه الله- 

كما أن المعنى الثاني (يَهْدِيهِمْ رَيُّهُم بِإِيمَٰنِهِمْ ) بحيث يكون ذلك نوراً لهم بقدر هذا الإيمان، وهذا أيضاً تحتمله الآية.

ومن هذه الهدايات التي تحصل لأهل الإيمان: ما يحصل لهم من الهداية إلى الصراط، وقبله يحصل لهم هداية عند سؤال الملكين، ويحصل لهم هداية عند الحساب، ويحصل لهم هداية على الصراط، ومن الهدايات التي تحصل لهم على الصراط أن اللّٰه يجعل لهم نوراً يمشون به، ومنها أن اللّٰه يهديهم إلى الجنة، ويهديهم إلى منازلهم في الجنة.

/ قوله ( في جَنَّٰتِ النَّعِيمِ) أضافها اللّٰه إلى النعيم لاشتمالها على النعيم التام، نعيم القلب بالفرح والسرور، والبهجة والحبور، ورؤية الرحمن وسماع كلامه، والاغتباط برضاه وقربه، ولقاء الأحبة والإخوان، والتمتع بالاجتماع بهم، وسماع الأصوات المطربات، والنغمات المشجيات، والمناظر المفرحات. ونعيم البدن بأنواع المآكل والمشارب، والمناكح ونحو ذلك، مما لا تعلمه النفوس، ولا خطر ببال أحد، أو قدر أن يصفه الواصفون.


/ { دَعْوَىٰهُمْ فِيهَا سُبْحَنَكَ اللَّهُمَّ وَتَجِيَّنُهُمْ فِيهَا سَلَٰمٌ وَءَاخِرُ دَعْوَىٰهُمْ أَنِ ٱلْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ}

"دعواهم" هنا بمعنى دعاؤهم لكن يأتي الإشكال من جهتين :

 الإشكال الأول: أن الجنة بالاتفاق ليس فيها تكليف ليس فيها عمل فكيف يقال { دَعْوَىٰهُمْ فِيهَا } ؟

 هذا أجابت عنه السنة أنهم يُلهمون التسبيح كما يُلهم أحدكم النفس الآن بصورة طبيعية، الإنسان يتنفس بصورة طبيعية يُلهم إلهام بصورة طبيعية ما فيه أحد يتكلف النفس هذا شيء يقع بصورة طبيعية من الله، فأهل الجنة يُلهمون التسيح من غير كلفه كما يُلهم أحدنا النفسK لكن قال بعض العلماء - وهذا لا دليل عليه لكنه موجود - قالوا: إنهم إذا اشتهوا شيئا يقولون سبحان اللّٰه فيأتيهم ما يشتهيه وهذا غير بعيد لكن لا نملك دليلا على صحته أو رده، وقلنا إن الغيب لا يُتكلم فيه إلا بنص ظاهر، هذا إشكال بسيط .

 الإشكال الثاني: عندما نقول الآن "سبحانك اللهم" أنت لم تطلب شيء ومع ذلك سمّاه اللّٰه جل وعلا دعاء.

 نأتي إلى مسألة تقع في رمضان سنوياً وهو أن الإمام إذا أثنى على اللّٰه بقوله (اللهم إنه لا يعز من عاديت ولا يذل من واليت) أو يقول (ربنا وجهك أكرم الوجوه ) أو يثني على اللّٰه ، فيقول من في الحرم "سبحانك" هذا القول لا يوجد أي دليل عليه لأن الثناء على اللّٰه نوع من الدعاء وإذا دعا الإمام فإن موقف المأموم واحد من اثنين إما أن يسكت وإما أن يُأمن ولا يوجد شيء في الدعاء أن يقول الإمام شيئا ويقول المأموم سبحانك ، لا يوجد في السنة فيما نعلم ولا في القرآن دليل على أن الإمام إذا قال شيئا يقول المأموم سبحانك.


/  الدعاء يأتي بمعنى الثناء والدليل هذه الآية فإن اللّٰه قال { دَعْوَىٰهُمْ فِيهَا } أي دعاؤهم فيها سبحانك اللهم وهذا ليس فيه طلب.

 ومما يدل عليه من السنة : 

*أنه ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يدعوا عند حلول الكرب بهذه الكلمات (لا إله إلا اللّٰه الحليم العليم، لا إله إلا اللّٰه رب العرش العظيم، لا إله إلا اللّٰه رب السموات ورب الأرض رب العرش الكريم) وليس في هذه طلب فلا يلزم من الدعاء أن يكون طلبا بل إن من الطلب أن تُثني على اللّٰه.

* قول النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في الترمذي ( خير الدعاء دعاء يوم عرفة وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا اللّٰه وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ) هذا مدح وثناء على اللّٰه فسماه الني - صلى الله عليه وسلم -دعاء.

* ما ثبت بعدة طرق عند النسائي وعند أحمد أن سعدا بن أبي وقاص - رضي الله عنه - مرّ على عثمان بن عفان فلما مرّ سلّم فلما سلّم نظر إليه عثمان وملأ عينيه منه ولم يرد السلام فذهب سعد إلى عمر - رضي الله عنه - فقال : يا أمير المؤمنين هل حدث في الإسلام شيء؟ قال: لا، لماذا تسأل؟ قال إنني مررت على عثمان فسلمت عليه فملأ عينيه مني ولم يرد السلام، فبعث عمر إلى عثمان واستدعاه وقال له ما منعك أن ترد السلام على أخيك؟ قال لم أره فحلف سعد أنه سلم وأن عثمان رءاه، وحلف عثمان أنه لم يرَ سعدا ولم يدري أن سعدا سلم عليه، ثم تراجع عثمان وقال: استغفر اللّٰه وأتوب إليه تذكرت الآن - وهذا دليل أنك لا تعجل على الناس - قال تذكرت الآن لكنني كنت أفكر في مسألة إذا تذكرتها تصيبني غشاوة، قال إنني سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: سأدلكم على دعوة وسكت، فكمل سعد، قال أنا أكمل لك القصة ، فأراد أن يقول لنا الدعوة ثم جاء أعرابي فشغله فمضى قبل أن يخبرنا بها فأسرعت وراءه - سعد يسرع وراء الرسول - قال فلما أراد أن يدخل الدار فضربت بقدمي على الأرض بقوة حتى أشعره أن أحدا وراءه فلما ضرب سعد الأرض بقوة التفت - صلى الله عليه وسلم - قال: مه مه - كلمة للاستفهام تقولها العرب - قال: أبو إسحاق!! - وهذه كنية سعد- قال: نعم يا رسول الله، ثم قال: يا رسول اللّٰه إنك أردت أن تقول لنا دعوة فجاء الأعرابي فشغلك، فقال: نعم دعوة أخي ذي النون (لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين) ما دعا بها مسلم في كرب إلا استجاب اللّٰه له). 

موضع الشاهد من القصة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سمى قول ذي النون (دعاء)، وقد سمّاه اللّٰه من قبل في القرآن دعاء قال الله: ( وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَىٰ فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَٰهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ) [الأنبياء: ٨٢].

/ السلام هنا تحية الله لهم والدليل (سَلَامٌ قَوْلًا مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ ) [يس: ٥٨] ، وتحية الملائكة لهم ودليلها (سَلَامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ ۚ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) [الرعد: ٢٤] ، وتحيتهم بعضهم لبعض وهذا دليله حياتهم في الدنيا لأنهم إذا كانوا يسلمون على بعضهم في الدنيا فمن باب أولى أن يكون بينهم سلام في الآخرة .

———————————

١- تفسير القرطبي

٢- برنامج مع القرآن للشيخ صالح المغامسي / بتصرف

٣- مدارج السالكين

٤- موقع الشيخ بن باز - رحمه الله- / باختصار 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق