الأحد، 26 يناير 2025

تدبر سورة الكهف | المحاضرة العشرون | د. محمود شمس


الحمد لله رب العالمين وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهدُ أن محمدا عبده ورسوله سبحانك لا عِلمَ لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليمُ الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا يا رب العالمين وبعد: فإني أُحييكُم بتحية الإسلام السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وإني لأسأل الله تبارك وتعالى أن يشرحَ صدورنا وأن يجعلني وإياكم من أهل القرآن الكريم الذين هم أهلُ الله وخاصتُه وها نحنُ نلتقي في لقائنا هذا و ( تدبر سورة الكهف ).

تكلمتُ في اللقاء السابقِ عن قول الله تبارك وتعالى أعوذ بالله من الشيطان الرجيم : ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا ) وبينتُ كيف نصل إلى أحسن العمل من خلال التفكُر في مُلك الله وملكوت الله ومن خلال أن نفهم جيداً أن الأرض وما عليها زينة مُنتهية وأن نضع الموتَ أمام أعيُننا دائماً حتى ننجحَ  في هذا الابتلاء وهذا الاختبار من الله تبارك وتعالى. واليوم نبدأ ونُكمل وكنتُ قد توقفتُ عند السِر في قولهِ : ( إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا ) ما معنى ( لَا نُضِيعُ )؟
( لَا نُضِيعُ ) في الأصل تُطلق على ضياعُ الشيئِ أو كونُهُ قد أُتلِف لكن الإضاعةُ هنا تُطلق على منع التمكُن من الانتفاع فمعنى ( إِنَّا لَا نُضِيعُ ) : إنا لا نمنع أحداً أن ينتفِع  بأجرِهِ على أحسن العمل الذي فعلهُ في الدُنيا ، إذن اللهُ تبارك وتعالى يؤكد بأنهُ لن يضيع أجر من أحسن عملا ، وقوله : ( إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا ) إجمالٌ يتطلبُ تفصيلاً لأن قولهُ: ( لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا ) إجمال والإنسانُ في هذه الحالة يُثار لديه سؤال بعد هذا الإجمال لابُد من إثارة سؤال وما هذا الأجرُ  يا الله ؟ وما هذا الأجرُ الذي لن يضيع؟ فيأتي اللهُ تبارك وتعالى بالإجابةِ على السؤال (أُولَٰئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ ) اللهُ تبارك وتعالى كما قُلتُ سابقاً نعيمُ الجنةِ أكبرُ بكثيرٍ مما قد ذكرهُ اللهُ تبارك وتعالى لكن اللهَ ترغيباً لنا يذكُرُ ما نفهمهُ بعقولنا أو نستطيع أن نتخيله بما نراهُ نعيماً في الدنيا فاللهُ تبارك وتعالى بيَّن لنا أن هؤلاءِ مكانتهم عند الله عظيمة باستعمال اسم الإشارة الذي يدلُ على بُعد مكانتهم عند الله جل وعلا ، فاسمُ الإشارة هُنا للبعيد والبُعدُ بُعدُ مكانةٍ وليسَ بُعدُ مكان ( أُولَٰئِكَ)، وقولهُ: ( لَهُمْ ) اللامُ هُنا تُفيدُ المِلك والخصوصية يعني لهم وحدهم ، فهؤلاء ( لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ) قولهُ :(جَنَّاتُ عَدْنٍ ) كلمة (عَدْنٍ) ذُكِرت أظن في ها هُنا وفي سورة التوبة وأظنُ في سورة الصف وفي سورة البيِّنة ، كلمة ( عَدْن ) تعني أنها دارُ خُلدٍ وإستقرارٌ مُستمِر ، دارُ إقامة مُستمرة ، يعني معنى ( جَنَّاتُ عَدْنٍ) : أنها دارُ إقامة مُستقِرةٍ ، ذَكرَ اللهُ شيئاً من وصفها في سورة التوبة قال : (وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ۚ )  أي إن المساكن التي سيقيمون فيها هي جناتُ عدنٍ فتكون مساكن طيبة خالية من أي مُنغِص ومن أي رائحةٍ لا تُعجِبُ الإنسان في الدُنيا فضلاً عن رائحةٍ الجنة التي يعيشون فيها ويقيمون فيها، ثم وصفَ اللهُ  تلكَ الجنة بقولهِ : ( تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ ) الأنهارُ تجري من تحتهم أم تجري من تحتها؟ أحياناً ربُ العباد يقول : ( تَجْرِي  مِنْ تَحْتِهِا الْأَنْهَارُ ) فتكونُ الأنهار تجري من تحت الجنة، وأما  ( تَجْرِي  مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ ) فالأنهارُ تجري من تحتهم أي أنهم يشعرون بنعيم ذلك ويشعرون بهذا التلذُذ وتلك اللذة لأن الأنهار عندما تجري من تحتهم فهذا نعيمٌ من النعيم الذي وعدَ اللهُ به عبادهُ في الجنة أسألُ الله تبارك وتعالى أن يجعلني وإياكم من أهلها. إذاً (جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ ) نُلاحِظ هُنا أنه ذكر ( يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ ) قبل ( وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ ) بينما في سورة الإنسان قال : ( عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ ۖ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ )
يعني هُنا ذَكَرَ التحلي بالأساوِر أولاً ثم ذكر الملبس ، يعني نوعُ اللباسِ الذي سيلبسونهُ نوعان : لِباس تَستُر للجسد ولِباسُ تَحلِي ، هُنا ذَكَرَ ماذا ؟ ذَكَرَ التحلي أولاً هُنا لماذا ؟ لأنهُ هُنا يتحدث عن الجنة وأهمِ مظاهر الجنة فالتحلي بالأساوِر من مظاهرِ الجنة وليس من صفاتِ أصحاب الجنة ، أما الملبس فهوَ خاصٌ بأصحاب الجنة ، يعني الملبس يتعلق بأصحاب الجنة ، التحلي بالأساوِر إلى آخِرِه هذا مظهر من مظاهر الجنة ومن يدخُل الجنة، في سورة الإنسان ذَكَرَ الملبس أولاً لأن هُناكَ الوصف قائم على أصحاب الجنة أولاً ( وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَّنثُوراً وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ ۖ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ ) إذاً هاهُنا والله يتحدثُ عن مظاهر الجنة ذَكَرَ الزينة أولاً وهو  التحلي بالأساوِر إلى آخِرِه ، وهو يتحدث في سورة الإنسان عن صفات أصحاب الجنة وما سيتنعمونَ بهِ ذَكَرَ الملبس أولاً قبل (وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ ). الأساور، لماذا أساور ؟ وهل الأساور يلبسها الرجل في الجنة وهل سيلبس في الجنةِ ذهباً ؟ نعم ، الأمرُ في الجنةِ غير الأمر في الدنيا ، ولذلك في الجنةِ خمرٌ ولكنهُ ليس كخمر الدنيا ، بل الخمر في الجنةِ أنهار ، أنهارٌ في الجنةِ من خمرٍ فيها لذةٍ للشاربين, إذاً الأمرُ في الجنةِ  لا يتعلق بما حرمهُ الله عليه في الدنيا وإنما يجعلهُ لهُ نعيماً ، طيب لماذا الأساور ؟ خلي بالكم من مفاهيم الناس في الدنيا أن الملوك والمترفين وأهل المكانةِ العاليةِ في الدُنيا يلبسون تلك الأساور ولذلك فرعون بعد أن اتهم موسى عليه السلام ( أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ ) لأن الملوك والمترفين وفهمُ فرعون بجهله أن المُرسل من الله ينبغي ألا يقل عن ملوك الدنيا في ملبسه وفيما يتحلى به فطالبهُ بأنه يُلقى عليه أسورةٌ من ذهب ، ولذلك قال الله تعالى على لسان فرعون ( فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ ) لأنهُ بجهلهِ يُخيَّلُ إليهِ وهو يُخيِّلُ لقومه أن للرسالةِ شعاراً كشعار الملوك فينبغي أن يكون ملبس موسى مما يلبسه الملوك هذا فهمهُ. وكلمة (فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ) هذه أسورة ورد فيها قراءتان: ( فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ ) ( فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْاوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ )، الأساور جمع لكلمة أسوار  وأصل جمع أسوار أساوير لكن حدث فيها إعلال وإبدال إلى أن أصبحت أساورةٌ، وكانت تاء هذه  عوضاً عن الحرف المحذوف من  كلمة أساوير، وأمًا كلمة أسورة  فهي جمع لكلمة سوار، إذاً الإسورةُ أو الأساورةُ، فأسورة جمع قلة وأساورة جمع يدل على  الكثرة، وذكر ها هنا الذهب وذكر هناك في سورة الإنسان أساور من فضة، هذان المعدنان  همًا المعدنان الثمينان اللذان  يقدرهما أهل الدُنيا  لأن الله يذكر النعيم  في الجنة بقدر ما تعقله العقول وبقدر ما تتخيله أو تفهمه، هذا معنى الأساور التي قال الله فيها: ( يحلون فيها من أساورمن ذهب) ثم انتقل إلى الملبس لأنه يتعلق بأصحاب الجنة فقال (ويلبسون ثيابا خضرا من سندس وإستبرق ) لماذا (خضراً) بالذات؟ تعلمون أن اللون الأبيض والبياض يبدد النظر ويؤلمه في الدنيا، والسواد مذموم في الدنيا وليس من ملابس أهل النعيم، فكان اللون الأخضر المناسب للتنعم، ولنعيم الله تبارك وتعالى لأنه كما يقولون مريحٌ للبصر أيضا، وهذا كله تقريب للأذهان وتقريب للمفاهيم ولذلك الله تبارك وتعالى عندما ذكر (ويلبسون ثيابا خضرا من سندس وإستبرق) يبين نعيم أهل الجنة في الجنة. والله تبارك وتعالى ذكره في مواضع متعددة، وخلوا بالكم الجزاء على العمل في الدنيا جعل الله تبارك وتعالى دخول الجنة برحمته لكن لابد لك من رابطٍ وضابطٍ يكون سبباً في دخولك الجنة، يعني نحن لن ندخل الجنة بأعمالنا وإنما برحمة الله تبارك وتعالى بناء على إخبار النبي صلى الله عليه وسلم. ولذلك عندما تفكرون في ذكر الإرث في الجنة ( وتلك الجنة التي أورثتموها) (ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها) لماذا أورثتموها؟ الإنسان يرث من تكون بينه وبينه صلة نسب، يعني لا يرث الإنسان أحداً إلا إذا كان هناك بعض الروابط النسبية التي تُوصِّله به.
فالله تبارك وتعالى سمى الجنة إرثًا ليبين أنك لن تحصل على الجنةِ إلا برحمة الله تبارك وتعالى وليس مقابل جهد منك لأن الإنسان يرث دون جهد أليس كذلك؟ لكن في نفس الوقت لا يرث إلا من كان بينه وبينه صلة أو رابط إذاً ندخل الجنة برحمة الله لكن لابد ان يكون هناك رابطا وصلة تجعلك تنال رحمة الله تبارك وتعالى، هذا الضابط أو هذا الرابط هو الإيمان والعمل الصالح، والإيمان بالله وبرسوله صلى الله عليه وسلم. ثم ذكر الله  هيئتهم في الجنة، بعد أن ذكر ما يُحلّون به وذكر ملبسهم يذكر هيئتهم، هيئتهم الاتكاء الذي لا يفعله الإنسان إلا إذا كان مستريحاً فقال (متكئين فيها على الأرائك)، الأرائك جمع أريكة، والأريكة هي: السرير المرتفع أو الكنبة العالية المرتفعة، والأريكة هي السرير المرتفع الذي تعلوه الحجلة، الحجلة هي عبارة عن قطعة من القماش يضعها الناس فوق السرير، البعض يسميها الناموسية، المهم أن الإنسان يرى في ذلك نعيماً، فالله يذكره على أنه نعيمٌ في الجنة لكن النعيم أكبر من ذلك بكثير، الاتكاء على الأرائك نوعٌ من أنواع الراحة فوصفهم الله أنهم يجلسون في أريحية ويجلسون جلسة المترفين. ثم مدح الله سبحانه وتعالى هذه  الجلسة وأتى بأسلوب المدح (نِعم الثواب) أين المخصوص بالمدح؟ نعم ثواب الجنة المذكورة، الجنة التي ذكرها الله سبحانه وتعالى، ( وحسنت مرتفقا) ذكر وحسنت مرتفقا  لتقابل أهل النار عندما قال ( بئس الشراب وساءت مرتفقا ) لكن الجنة حسنت مرتفقاً  أي ارتفاقاً، أي الإنسان يضع مرفقه مستريحا منعماً من رب العباد لأنه في نعيم مقيم. المرفق هو مرفق الانسان، والمرتفق هو ما يرتفق عليه الانسان بمرفقه، يعني عندما أضع مرفقي على شيئ ما فهذا الشيء مرتفق، والمرفق هو العضو في الإنسان كمًا قلت.
ثم ينتقل الله عز وجل إلى  قصة ذكرها الله في سورة الكهف (واضرب لهم مثلا رجلين)
ما مناسبة هذة القصة هنا؟
مناسبتها وهي قصة الرجلين الذي جعل الله لأحدهما  جنتين من أعناب .. الخ القصة. الله تبارك وتعالى ذكر في بداية قصة أصحاب الكهف الذين أووا الى الكهف فراراً بعقيدتهم التي فروا بها خوفاً من الملك الجبار الذي كان سيؤذيهم لو أنهم ظلوا في مكانهم ولذلك أووا إلى الكهف وطلبوا من الله أن يؤتيهم رحمة من لدنه فالله تبارك وتعالى نشر عليهم رحمته، ثم أتى الله بثلاث قصص بعد ذلك منهم قصة الرجلين، وهذه القصص تمثل طغيان حب المال لأن هناك فرقً بين حب المال وبين طغيان حب المال، الإنسان يحب  المال بفطرته، فحب المال كما تشاء  ولكن لا يطغى حب المال في قلبك على حبك  للعطاء والإنفاق، فأنت تحب المال فتجمعه من حلال أولاً ثم إذا دُعيت إلى صدقة أو إنفاق فيستعلي حبك للصدقات  وللإنفاق على حبك للمال، بهذا أنت حب المال ليس خطرا  عليك، أما إذا كان حب المال  يدعوك إلى عدم التصدق وعدم الإنفاق وعدم إخراج زكاتك فأنت بذلك حب المال يطغى في قلبك طغياناً وهذا هو المحرم عليك. هذا أولاً
ثانياً: قضية حب المال أيضاً أنك تنسب النعمة لنفسك كما نسبها قارون لنفسه وقال ( إنما أوتيته على علم عندي ) وهنا هذا الرجل قال ( أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا) فهو هنا نسب النعمة لنفسه وهذا أيضاً من أخطر الأمور التي تجعلك تُعاقب بما لديك من نِعم، ويُذهب الله عنك تلك النعم طالما تنسب النعمة لنفسك. وكما نعلم أن كل نعمةٍ أنعم الله بها على الإنسان إنما هي من الله تبارك وتعالى (وما بكم من نعمة فمن الله) فالقصة هاهنا جاءت لتقول أن أول ما يزحزح الإنسان عن عقيدته الإيمانية الصحيحة طغيان حبه للمال. يعني في هذه القصة رسالة، الرسالة هي: طغيان حب المال هو الذي يجعلك تتزحزح عن عقيدتك الصحيحة ويُنْقص في إيمانك بالله تبارك وتعالى، لأن طغيان حب المال سيدعوك إلى أن تجمعه من حلال أو من حرام، هذا أول خطر. وطغيان حب المال في القلب سيلهيك عن ذكر الله، وطغيان حب المال في القلب سيجعلك تبخل عن نفسك في الإنفاق أو في الصدقة ولا تعطي حق الفقراء والمساكين، لأن للفقراء والمساكين عند من لديه من النَّعَم لهم حق عليك ولذلك قلت مرارا في قوله تبارك وتعالى: (وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ) "طَعَام"، لم يقل: "وَلَا يَحُضُّ عَلَى إِطْعَامِ الْمِسْكين". . الله لا يريدك أن تطعم المسكين، ولا يريدك  تحض على إطعامه إنما يريدك أن تعطي للمسكين طعامه، يعني، المسكين له حق عندك فأعطه حقه، ولذلك لم يقل: "وَلَا يَحُضُّ عَلَى إِطْعَامِ الْمِسْكين" لا يريد الله منك أن تطعمه، إنما يريد منك أن تعطيه حقه دون أن تمن عليه بذلك لأنه حقه. والله تبارك وتعالى استعمل "إطعام" في أماكن أخرى، يعني مثلا في كفارة اليمين، قال: (فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ) لأن كفارة اليمين أنت ملزم بإخراجها، ليس لك في ذلك خيار، فأنت تخرج بقدر إطعام عشرة مساكين، إنما هنا يريدك الله أن تعطي المسكين حقه..
الفرق بين المسكين والفقير هذا خلاف فقهي. وأنا تكلمت فيها سابقا، وفرقت بين المسكين والفقير من خلال استعمال القرآن الكريم، ليس من وجهة نظر فقهية. وبإيجاز: الله تبارك وتعالى يستعمل كلمة "فقير" دائما في موضع العزة، وموضع الإكرام، وموضع التقدير، فهو لا يسأل الناس إلحافا (يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ)؛ هذا هو الفقير. فالفقير هو الرجل الذي يجلس في بيته ولا يسأل الناس، الله تبارك وتعالى هو الذي يقود الناس إليه. يعني لو أن الفقير تذلل إلى الله وطلب من الله جل وعلا، الله يقذف في القلوب التوجه إليه، يعني بدل أن يذل نفسه لعباد الله فليذل نفسه لله، والله هو الذي سيوجه العباد إليه. المسكين مأخوذة من المَسْكَنَة، الله قال : (وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ) "اسْتَكَانُوا" يعني  تذللوا وخضعوا وانقادوا، ولذلك المسكين هو الذي يسأل الناس، ويطوف بالناس، ويسال هذا، ويسأل ذاك. ولذلك لو قلنا طيب بناء على ذلك لماذا وجه الله الكفارات الشرعية كلها للمسكين؟ يعني بناء على هذا الكلام كان ينبغي أن تُوَجَّهَ للفقير، فلماذا وجهها للمسكين في كل الكفارات الشرعية؟ (فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا)، أيضا هنا (إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِين)، (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ)، فلماذا المسكين؟ في ذلك علاج للنفس وفوائد نتعلمها.
 ما العلاج والفوائد التي نتعلمها؟ 
النفس شحيحة في تنفيذ أمر الله تبارك وتعالى إذا تعلق بالمال، النفس فيها شح، فلو أن الإنسان عنده كفارة وقلنا له اذهب وابحث عن الفقير الجالس في بيته لتعطيه كفارتك لتحجج ولقال بأنه لا يوجد فقراء في البلد. خلاص، الناس كلهم أغنياء، لا أجد فقيرا، هو يريد أن لا يخرج كفارته فالله تبارك وتعالى وَجَّهَ الكفارة للمسكين بداية، والإنسان إذا بدأ في طاعة لله، يبدأ يبحث عن أفضل ما يقدمه لله، طبيعة الإنسان هكذا، فالله وجهه للمسكين لأن المسكين سيقابلك ويقول لك أعطني، هات، فأنت ستضطر أن تعطيه، فإذا أعطيته تبدأ تفكر في أفضل من تعطيه من كفارتك. فإذا وُجِّهْتَ للفقير فتبحث عنه حتى تعطيه، لأن طبيعة النفس، ولذلك نحن مطالبون بدلالة الناس وإرشاد الناس إلى أمور دينهم، هذه تسمى دلالة الهداية والإرشاد،  أنت إذا كنت سببا في دخول أي إنسان المسجد لأول مرة ربما يكون بعد ذلك أفضل مني ومنك، أنت فقط حاول أن تستدرجه حتى توصله للخير، وكم من أناس لم يكن لهم في حفظ القرآن الكريم مثلا، لكن هناك من الأصحاب أو الصديقات أو الأصدقاء من يكون سببا في ذلك، والإنسان عندما يبدأ، يبدأ يفكر في الوصول إلى الأفضل، لأن الله تبارك وتعالى عندما أخذ هذا الإنسان بأسباب هداية الدلالة والإرشاد وفقه الله لهداية التوفيق والمعونة.
إذًا، أولا: لا تنسب النعمة لنفسك. 
ثانيا: لا تجعل حب المال يطغى في قلبك على حب العطاء، اجعل حب العطاء هو الذي يستعلي على حبك للمال، وهذا هو معنى  قول الله تبارك وتعالى: (وَآتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ) في آية (لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ)، (وَآتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ) "عَلَىٰ"  هنا حرف يفيد الاستعلاء، فهنا أي شيء يستعلي على أي شيء؟ إعطاؤك للصدقة وعطاؤك يستعلي على حبك للمال. ولذلك بعض من أهل اللغة يقولون إن "عَلَىٰ"  هنا بمعنى "مع" ، طب "مع" حرف يدل على المصاحبة، ولو قال الله تبارك وتعالى : "وَآتَى الْمَالَ مع حُبِّهِ"، المعية بمعنى المصاحبة هنا، فإذا كان حب الإنسان للمال مساويا لحبه للعطاء حبه للمال سيغلب. إذًا، قال الله تبارك وتعالى: (وَآتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ) لكي يبين أن حبك للعطاء لابد أن يستعلي على حبك للمال. فكان الغرض من ذكر هذه القصة هنا هذه الدروس التي تعطينا تلك الدلالات.
هذان الرجلان الله أعلم هل هم من أهل الطائف، قيل ذلك لأن الطائف فيها جنات وفيها ...إلخ، فقيل ربما، لكن، قيل: إن هذين الرجلين هما المذكوران في سورة الصافات في قوله تبارك وتعالى: (فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍۢ يَتَسَآءَلُونَ)، أهل الجنة بعد أن استقروا في الجنة يبدؤن في التساؤل.
طيب الله تبارك وتعالى قال في الآخرة: (فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ)؛ ففي هذه الآية نفى الله التساؤل، وفي آية (فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍۢ يَتَسَآءَلُونَ) أثبت التساؤل فهل التساؤل في الآخرة مثبت أم منفي؟
هو منفي في المرحلة الأولى: (...إِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ) في المرحلة الأولى لم يستقر أحد فكلٌ يسأل عن نفسه، وكل يقول نفسي نفسي (لِكُلِّ ٱمْرِئٍۢ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍۢ شَأْنٌ يُغْنِيهِ)، لكن بعد أن يستقر أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار، يبدأ أهل النار يتساءلون، الضعاف الذين أُدْخِلوا النار بسبب إِتِّباعهم للمستكبرين يبدؤن يتساءلون، ويبدأ التلاوم التي هي: (فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍۢ يَتَسَآءَلُونَ) الأولى،  (قالوا إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ ٱلْيَمِينِ)* إلى آخر الآيات.
هذان الرجلان ، رجلٌ منهم كان مؤمناً ومصدقاً وموقناً بكل الغيبيات - وكان له قرين - وقرين يعني صديق مُلازم له - هو الذي يحاوره في تلك القصة كما يرى البعض. فلما دخل الرجل المؤمن الجنة قال قائلٌ منهم - يعني من أهل الجنة - إني كان لي قرين - صديق ملازم لي - يقول: أإنك  لمن المصدقين؟ هذا استفهام إنكاري ، يعني كان يُنكر عليه أنه يُصدق بالبعث وبالحساب و بالجزاء، والاستفهامُ الإنكاري عندما يأتي يكونُ المُستَنْكَر- هو ما دخلت عليه الهمزة، فالاستفهام هنا دخل على كاف الخطاب المتعلقة بالمؤمن ،
يعني كاف الخطاب هنا متعلقة بالمؤمن، فهو ماذا كان يستنكر؟ يستنكر أن تكونَ أنت صديقي وتكونُ مُصدقاً!! يعني هو يستنكر التصديق والايمان من صديقه هذا هو المعنى، وهذه تُعطينا دلالة لابد أن نفهمها وهي: هل يجوزُ للمؤمن المُطيع أن يُصادقَ ويظلَ صديقاً لمن لم يؤمن وللمكذبين؟ ! هذه الآية تعطي دِلالة أنه لا يمنع أن تظل معه صاحباً لكن بغرض وبنية أن تأخُذَه معكِ إلى الإيمان واليقين، واحذر من نفسك أن تنجرف أنت معه، يعني هذا كان مؤمناً مصدقاً وقرينه الملازم له إلى أن مات -كان قريناً له لان كلمة قرين لا تُطلق على القرين الملازم- لكن لم يتأثر هذا المؤمن بهذا الصديق المكذب، وفي نفس الوقت لم يستطع أن يأخذَه معه إلى الايمان، لكن القرآن يذكُرَ أنه كان قريناً له. إذن لا يمنع من أن أُصادقَ من ليس بمؤدٍ لطاعة الله أو بمن كان على غيرِ ديني  لكن بشرط أن أُحاول أنا أن أُؤثر فيه وأكونُ منتبهاً أن لا أتأثر أنا به. اذا وجدت نفسك ستتأثرُ به ابتعد، إنما اذا كنت على ثقةٍ من إيمانِك ويقينِك بالله وأنكَ لن تتزحزح فلا يمنع أن تحاول، تحاول أن تكونَ معه لعل اللهَ أن يهديَهُ بكَ. الذي (قال قائلٌ منهم إني كان لي قرين) القرين المؤمن لأن (فاقبلَ بعضُهم على بعضٍ يتساءلون) هؤلاءِ أهل الجنة، فالمؤمن هو الذي يتساءل عن هذا القرين، يعني يقول (كان لي قرينٌ يقولُ أإنك لمن المُصدقين) يعني كان مُكذباً بالبعث {ءَإذا مِتنا وكنا تراباً وعظاماً ءإنا لمدينون} هنا الموضع الوحيد الذي قال الله فيه ( لمدينون)، كل المواضع في القرآن ( ءإنا لمبعوثًون) لماذا هنا ( لمدينون)؟ وما معنى لمدينون؟ يعني لمجزيون يعني هل سيجزينا الله تبارك وتعالى بعد أن كنّا تراباً وعظاماً؟! ولذلك قال هنا (ءإنا لمدينون) لانهم بُعثوا ودخل أهلُ الجنةِ الجنة ودخل أهلُ النارِ النار- فهو الآن يتذكَره عندما كان يقول له: هل نحن بعد البعثِ سنُحاسب وسنُجازى؟ فهو يريدُ أن يبحث عنه ليقولَ له: أنا في مكانةِ كذا وأين أنت؟ يعني لماذا قال هنا (ءإنا لمدينون)؟ لأن هذه المقولة يذكُرُها هذا القائل بعد البعث فلم يعد يصلُح ( ءإنا لمبعوثون) لأن البعث قد تم، إنما هنا ( لمدينون). (قال هل أنتم مطّلعون) المؤمن يقول لأهل الجنة، لأصحاب الجنة يا جماعة اطلعوا معي، اطلعوا يعني ابحثوا عنه، يعني ابحثوا عن صديقي هذا،عن قريني هذا، فاطَّلع فرآهُ في سواءِ الجحيم، عندما اطّلع رآه في سواءِ الجحيم فقال له: (تاللهِ إن كدت لتُردين) يُقسِم له بالله، القسم بـ (تاللهِ) له خصوصية في الاستعمال القرآني، ما خصوصيته؟ يعني ما خصوصية (تالله)؟
خصوصية (تالله) في القرآن الكريم لا تردُ إلا فيما كان جوابُ القسم غريبا عجيبا، جوابُ القسمِ لـ (تالله) في القرآن يكونُ غريباً عجيباً، لو فتشتم عن (تالله) في القرآن لوجدتم هذا الأمر، (قالوا تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض وما كنا سارقين) وهكذا وهاهنا، طيب ما محلُ الغرابة هنا؟ يعني ما محل الغرابة في ( تالله إن كدت لتردين)؟ أنه وجد العاقبةَ مختلفة للإثنين والآخر لم يكن مُصدقاً بذلك، فهو بذلك انتهى من صديقهِ هذا وجعل هذا الصديق يتيقن بأنه كان صادقاً في الدنيا عندما دعاهُ لذلك. إذن (تالله إن كدتَ) (كدت) تُستعمل في المقاربة، فعلٌ من أفعلِ المقاربة، يعني معنى ذلك لأنه كان يريدُ أن يأخُذَهُ معه، ومعنى (لَتُردين) تردين تُستعمل بمعنى الهلاك، وبمعنى الموت لكنه هنا المعنى الهلاك، إن كدت لتُردينِ يعني لتُهلِكُني.
(ولولا نعمةُ ربي لكُنتُ من المُحضرين) طبعاً تعرفون ( لولا) انها حرفُ امتناعٍ لوجود- النعمة هنا المُرادة: نعمة الهداية والاستمرار على الهداية إلى أن توفاهُ الله ، ولذلك الإنسان عليه أن يطلبَ من اللهِ الاستمرار على ما هو عليه من هداية، وأن يُثبتَ اللهُ قلبَهُ ويستمرَ على ذلكَ إلى أن ينتهيَ الأجل. ( ولولا نعمةُ ربي لكُنتُ من المحضرين) يعني لكنت من المحضرين إلى جهنم.
أسألَ اللهَ تباركَ وتعالى أن يرزُقَني وإياكم الفهمَ والتدبرَ والعمل بما نفهم ، وأن يجعلني وإياكم من أهلِ القرآنِ الكريم الذين هُم أهلُ اللهِ وخاصتُه ، وأن يباركَ اللهُ في أولادنا وأولادِكُم ،وأن يشفيَ مرضانا ومرضى المسلمين ، وأن يرحمَ موتانا وموتى المسلمين ، ويرحم والدَينا ويرحم مشايخنا وأساتذتنا و علماءنا وصلى الله وسلمَ وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين، و الحمد لله ربّ العالمين والسلام عليكم ورحمةُ الله وبركاته.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق