الأحد، 8 سبتمبر 2024

تدبر سورة الكهف / د. محمود شمس/ المحاضرة الثامنة

وقفنا في اللقاء السابق عند قول الله تبارك وتعالى أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:

(نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ ۚ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13) وَرَبَطْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ..) [ الكهف: ١٣-١٤] 
(وربطنا على قلوبهم) الفعل (ربط) عند أهل اللغة يتعدى بنفسه بدون حرف جر فأقول: ربطت الشنطة، وربطت الكيس ...الخ ، لكنه لم يرد في القرآن الكريم إلا متعديا بحرف الاستعلاء. وقد ورد في ثلاثة مواطن: 
الموضع الأول: في سورة الأنفال في غزوة بدر في قوله تعالى: (إذ يغشيكم النعاس أمنة منه وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان وليربط على قلوبكم)
● وهنا (وربطنا على قلوبهم)  
الموضع الثالث: في سورة القصص (وأصبح فؤاد أم موسى فارغا إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها)  
فالفعل (ربط) في هذه المواضع الثلاثة تعدى بحرف الجر (على).
لو تدبرنا نجد أن المواضع الثلاثة أصحابها وأهلها أصحاب قلوب اطمأنت ورضيت بقضاء الله وبقدره وتهيأت نفسيا لما أُعدت له، إلا أن هناك أمرا بشريا حدث جعلهم يزحزحون عن الإيمان، ويزحزحون عن اليقين، ويزحزحون عن الثبات. 
في موضع الأنفال مثلا في غزوة بدر الصحابة رضي الله عنهم ما كانوا قد خرجوا لقتال ولا لغيره لكن عندما فُرض عليهم الأمر فتهيأوا نفسيا للقتال، لكن عندما علموا بالعدد وبالعدة بعدد المسلمين وبعدد المشركين وبعِدة المسلمين وبعِدة المشركين، فبالطبع لا توجد أي أوجه مقارنة بين هذا العدد وذاك العدد، وبين تلك العدة وتلك العدة، فبعضهم كاد قلبه يتزحزح عن اليقين الذي ملأه. 
فالله تبارك وتعالى ربط على قلوبهم، يعني لم يربط القلب، لا.. إنما ربط على ما في القلب، القلب يملاؤه اليقين والثبات، وحسن التوكل على الله إلا أن النسبة البشرية جعلت الأمر يتحرك في قلوبهم. فالله تبارك وتعالى ربط على الإيمان، وعلى اليقين، وعلى الثبات الذي ملأ القلوب حتى لا يتزحزح ويخرج من القلب. إذا الربط هنا ليس ربطا للقلب وإنما هو ربط على ما في القلب. وهنا في قصة أصحاب الكهف نذهب أولا لقصة موسى ونجعل قصة أصحاب الكهف للنهاية.
 أم موسى عندما أوحى الله لها أن إذا خفت على رضيعك فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني، فبالله أي امرأة وأي أم تقبل هذا؟! (إن خفت عليه فألقيه في اليم) يعني الطبيعة البشرية تقول: وإن خفت عليه ففري به إلى أرض أخرى، أو فأخفيه عن العيون، أو.. أو.. ، من باب الأخذ بالأسباب، إنما لأن الله تبارك وتعالى هو الذي أوحى إليها، فقد أوحى إليها بأنك إن خفت عليه فألقيه في اليم، والله تبارك وتعالى أخبرها بخبرين وبشرها ببشارتين (إنا رادّوه إليك وجاعلوه من المرسلين) هذان خبران متضمنان بشارتان. وأيضا نهاها بنهيين قال لها (ولا تخافي ولا تحزني) وأمرها بأمرين (فألقيه في اليم ولا تخافي) هناك (أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم) ولذلك في هذه الآية أمران ونهيان وبشارتان وخبران. لكن بعد أن نفذت أمر الله تبارك وتعالى لها بدأت النسبة البشرية تتحرك فيها، والنسبة البشرية حدثتها بما قلت سابقا أنك كان بإمكانك أن تخرجي به إلى أرض أخرى، كان بإمكانك أن تُخفيه عن أعين فرعون وملأ فرعون، كان من الممكن أن تفعلي وأن تفعلي (فأصبح فؤاد أم موسى فارغا) أصبح فارغا من كل شيء إلا من قلقها على موسى.
القلب لا يسمى فؤادا إلا إذا توقد واشتعل كالشيء المشتعل، يعني أصابه القلق فتوقد اشتعالا من قلقه. وهذا هو الفرق بين الفؤاد والقلب، يعني القلب يوصف بالفؤاد عندما يكون القلب مشتعلا متوقدا. ولذلك حتى في قوله تعالى(وأفئدتهم هواء) أي خالية وخاوية وفارغة، أفئدتهم لا تحمل شيئا. إذن القلب يوصف بالفؤاد عندما يكون مشتعلا متوقدا. ولذلك يقال عن الفؤاد إنه عين القلب، وهو عين البصيرة، وهو الذي ينقل إلى القلب إما اليقين والثبات والتوكل، وإما الخيبة والحسرة. يعني الفؤاد يتأمل في الكون فينقل إلى القلب، والقلب وعاء لما ينقله له الفؤاد. 
إذا (إن كادت لتبيدي به) (لتبدي به) وليس (إن كادت لتبديه) لو قال الله إن كادت لتبديه، لكان المعنى إن كادت لتظهره، إنما (لتبدي به) كأنها تحمله على يديها وتقول يا ناس هذا وليدي وهذا طفلي، وهذا هو الفرق بين (تبدي به) و( تبديه) ، (إن كادت لتبيدي به) بمعنى تأخذه على يديها وتُظهره للناس جميعا وتقول لهم انظروا هذا طفلي. 
 (لولا أن ربطنا على قلبها) الربط هنا أيضا ليس للقلب، إنما الربط على القلب، لأن القلب امتلأ يقينا وثباتا وحسن توكل بدليل أنها نفذت أمر الله، ولذلك التعليل الذي بعد ذلك (لولا أن ربطنا على قلبها لتكون من المؤمنين) ليثبت الإيمان في قلبها، لأن ما تعانيه إنما هو تحريك للنسبة البشرية.
 وهنا في موضع سورة الكهف، أصحاب الكهف فتية آمنوا بربهم والله تبارك وتعالى زادهم هدى ومن زيادته لهم للهدى أن ربط على قلوبهم، ربط على قلوبهم بمعنى أنه جعل القلب متمكنا واثقا من كمال قدرة الله تبارك وتعالى فبدأوا يتكلمون ويتصرفون ويفعلون بناء على حسن توكلهم على الله. هذا معنى (وربطنا على قلوبهم).

(إذ قاموا فقالوا ربنا رب السماوات والأرض)  (إذ) هذا ظرف للربط، يعني ربطنا على قلوبهم وقت قيامهم، يعني لكي يقولوا ربنا رب السماوات والأرض في مجتمع مشرك ومولع بالشرك والملِك الجبار الذي يناصر الشرك والمشركين، فلكي يتمكنوا من هذا الإعلان الله تبارك وتعالى ربط على قلوبهم في هذا الوقت (إذ قاموا) يعني الربط على قلوبهم مقارن لقيامهم وقولهم. 
● القيام قد يكون حسيا وقد يكون قياما معنويا يدل على شدة الاهتمام. القيام الحسي: القيام الذي يكون بعد قعود، يعني واحد كان قاعدا أو جالسا ثم قام، أي قام واقفا هذا قيام حسي.
والقيام المعنوي: أنهم اهتموا وقالوا (ربنا رب السماوات والأرض) وأعلنوها لكنهم يتكلمون وهم جالسون. 
طيب هل القيام هنا قيام حسي أم قيام معنوي؟  يُحتمل القيام الحسي، ويُحتمل أن يكون قياما معنويا.
● قيام حسي أن يكونوا قاموا أمام الملك الجبار وقالوا هذا الكلام. هذا يحتمل، أو أنهم وقفوا خطباء في القوم ينصحونهم ويوجهون لهم هذا الكلام، فيكون القيام هنا قياما حسيا. 
● وقد يكون القيام قياما معنويا أي إنهم اهتموا وقالوا وأعلنوا لكنهم تكلموا وهم جالسون، لأنهم أقدموا على عمل عظيم مهتمين بهذا القول. ويطلق القيام على من يقوم بعمل عظيم، حتى أحيانا نقول قمت بقراءة كتاب كذا، وقمت بعمل كذا، وأنت لم تقم وتتحرك من مكانك، إنما أنت بذلت جهدا وفعلت فعلا عظيما أنك أنجزت قراءة هذا الكتاب. هذا معنى (إذ قاموا).
( لن ندعوا من دونه إلها لقد قلنا إذا شططا) 
 (لن ندعوا من دونه إلها)  لماذا لم يقولوا لن نعبد من دونه إلها؟ يعني لم يذكر لفظ العبودية بل لفظ الدعاء؟ 
 لأن الدعاء ذاته عبادة، والدعاء يشمل كل أقوال وكل أفعال تبين عبوديتهم لله تبارك وتعالى، فنحن لا نعبد إلا إياه، ولا ندعو إلا إياه، ولا نستغيث إلا به، ولا نلجأ إلا له، فلو قالوا: لن نعبد من دونه إلها قد يفهم البعض أن الدعاء أو أن الاستغاثة، أو أن اللجوء لغير الله جائز، لكن هم أتوا بالأشمل الأتم (لن ندعو من دونه إلها) لن ندعو من غير الله تبارك وتعالى إلها.
● ثم بعد ذلك (لقد قلنا إذا شططا) هذه جملة استئنافية، وهي استئناف بياني لأن التي قبلها تثير سؤالا لن ندعو من دونه إلها طيب وماذا يعبد غيركم ممن تخاطبونهم الآن؟ فأتوا بالجواب: (لقد قلنا إذا شططا) أي لو قلنا أننا نعبد غير الله تبارك وتعالى فقولنا هذا قول شطط. وهم أشركوا أنفسهم مع القائل ولم يخاطبوهم، يعني لم يقولوا لقد قلتم إذا شططا، إنما (لقد قلنا) يعني قبل هذا القول كنا نقول معكم قولا شططا، يعني (لقد قلنا إذا) هنا تعني أننا قبل قولنا (ربنا رب السماوات والأرض لن ندعو من دونه إلها لقد قلنا إذا شططا) يعني لو قلنا بغير ذلك فقولنا هذا قول شطط. والقول الشطط هو: الإفراط في مخالفة الحق والصواب، الإفراط في القول الخاطئ، القول البعيد عن الصواب. إذا هم أقروا بأن القول بغير ذلك هو قول شطط، ولا مانع من أن يكون هذا الأسلوب أسلوب تنزل مع الخصم، بمعنى أننا لو وافقناكم وقلنا كما تقولون (لقد قلنا إذا شططا).
وطبعا (قد) إذا دخلت على الفعل الماضي فإنها تدل على التحقيق قولا واحدا "قد قلنا"، وباللام التي تفيد التوكيد أيضا (لقد قلنا إذا شططا)، فلو أننا وافقناكم على قولكم هذا لكان معنى ذلك أننا نقول قولا مخالفا للحق والصواب وهو القول الشطط.  
في قوله تعالى (هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة) هذه الجملة أيضا استئناف بياني آخر لأنها ترد على سؤال مقدر، السؤال المقدر: 
من ذا الذي يقول بهذا القول الشطط؟ لأنهم لم يخاطبوا القوم، لم يقولوا لقد قلتم، فربما يسأل سائل من ذا الذي قال هذا القول الشطط؟ فجاءت الإجابة (هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة). 
(هؤلاء) هنا اسم إشارة فلماذا يشيرون إليهم؟ يشيرون إليهم تمييزا لهم بأنكم أنتم المرادون بهذا الكلام، يعني عندما أريد أن أميز أني أخصّك بكلام فإني أقول أنت وأشير إليك بأصبعي حتى تميّز من الذي أتكلم عنه، إني أتكلم عليك أنت (هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة) . وأنا قلت قبل ذلك أن القرآن الكريم إذا استعمل الفعل (اتخذوا) معنى ذلك أنهم بذلوا الجهد الكبير في سبيل هذا الاتخاذ  لأنه كان من الممكن أن يقول هؤلاء قومنا عبدوا من دونه آلهة.
وفي قولهم (قومنا) دلالة على أن القومية إذا اتفقوا على الباطل فكل القوم موصوف بهذا الباطل، لأن هناك باطل وباطل يرتكب باسم القومية، ولذلك لو قرأتم في القصص القرآني تجدون كلمة (قوما) دائما ترد في الحكم عندما يحكمون على قوم النبي المرسل إليهم (ولكني أراكم قوما تجهلون) لم يقل (ولكني أراكم تجهلون) فالقومية هنا تعني اتفاقهم والترابط فيما بينهم على هذا القول الذي جعلهم يوصفون بالجهل. فقولهم (هؤلاء قومنا) القومية هي التي دعتهم إلى ذلك. ولذلك البعض يظن أن من القومية أن نبقى على عاداتنا التي عرفناها عن آبائنا، هذه قومية باطلة، هل تعلمون أن الناس في زماننا هذا يتمسكون بالعادات أكثر من تمسكهم بالعبادات، يعني تمسك الناس بالعادات أقوى بكثير من تمسكهم بالعبادات، يعني لا يتركوا عادة واحدة توارثوها، وإنما قد يهملون عبادة، وقد يهملون سُنة بحجة أنها سنة، فإذا أردت أن تصحح لهم فتلك مصيبة كبرى، كيف تصحح أنت؟! ولذلك كان رب العباد حريصا على أننا نوصّل دعوتنا بأسلوب حكيم، وبأسلوب يتصف بالحكمة. يعني أنا قصدت بالأسلوب الحكيم هو الأسلوب الذي يتصف بالحكمة بحيث إنك تكسب قلوب من توصّل له المنهج الذي توصله قبل أن تتكلم معه. يعني رب العباد وهو يخاطب عباده المؤمنين في أنهم يقولون ما لا يفعلون، وهل هناك أخطر على المؤمن من أن يقول ما لا يفعل؟ بالطبع لا، يعني إذا كان قوله يخالف فعله فهذا شأن المنافق الذي قوله يخالف فعله، ومع ذلك لم يسلب الله عنهم الإيمان قال (يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون) هل سلب عنهم الإيمان؟ هل سلب وصفهم بالإيمان؟ إطلاقا، لم يسلب عنهم الإيمان. حتى في القصاص -في القتل- (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى) وقال بعدها (فمن عُفي له من أخيه شيء) هذا قاتل!! وقاتلٌ مقتولا من رحمي، يعني قتل أخي أو قتل ابني أو قتل..الخ ومع ذلك لم يسلب عنه الأخوة.  
فالله تبارك وتعالى يعلمنا أننا ينبغي أن نتعلم الأسلوب الصحيح في الدعوة وفي توجيه الناس، وفي إرشاد الناس. النفس بطبيعتها لا تقبل النصيحة، ولا تقبل التوجيه، هذه فطرة في النفس، وهذا أشد عند الأزواج عندما تنصحه الزوجة، فلنراعي هذا، أن الزوج لا يقبل النصح خاصة من زوجه، إنما لا بد من مقدمة تُثني عليه، ومن مقدمة تبرز صفة طيبة فيه، حتى لا يأخذ هذا الكلام دليل نقص فيه.
هذا (هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة) أي عبدوا آلهة غير الله تبارك وتعالى. فبقولهم هذا بينوا وأفصحوا عمن قال القول الشطط، من الذي قال القول الشطط؟ (هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة) وبيّنوا أنهم فعلوا، يعني لم يقولوا فقط، إنما فعلوا (اتخذوا من دونه آلهة) فهم أرادوا بذلك أن يتعجبوا من حالهم، وأن يفضحوا صنيعهم. يعني أرادوا أن يفضحوا فعلهم.

ثم قال بعدها (لولا يأتون عليهم بسلطان بيّن) يعني هم يطالبونهم بأنهم يأتون على ما يعبدونه من دون الله بسلطان بيّن. 
(لولا) حرف امتناع لامتناع، فإذا دخلت على جملة إسمية تكون حرف امتناع لوجوب، عندما أقول: لولا انشغالي لزرتكم، الزيارة حصلت وإلا ما حصلت؟ ما حصلت، لماذا؟ لوجود الانشغال، إذا حرف امتناع لوجود، لكن إذا دخلت على الفعل المضارع تدل في الأصل على التحضيض، التحضيض: الحث الشديد، لولا تُكرم والديك، لولا تشكر فلانا، لولا تفعل كذا، يعني أحضك وأحثك حثا حثيثا على هذا الفعل. لكن ليس كل (لولا) تدخل على الفعل المضارع تكون للتحضيض لأنهم ها هنا هل أتوا بسلطان بين على اتخاذهم من دون الله آلهة؟ هل هم أتوا بسلطان بيّن؟  لو كانوا اتبعوا الحث الشديد لأتوا بسلطان بين، فلما لم يأتوا بالسلطان البيّن على اتخاذهم من دون الله آلهة كانت (لولا) هنا للتبكيت والتوبيخ. يعني تتحول من الحث الشديد إلى التوبيخ. فلو قلت لأحد الناس: لولا تُكرم والديك، فإذا به يعقُه، فهل أنا يعني حضضته وحثثته على هذا الفعل، هو لم يلتزم بالحضّ وبالحث الذي حضضته فتكون (لولا) توبيخا له طالما أنه لم ينفذ فهي توبيخ له. إذا (لولا يأتون عليهم بسلطان بين) أي بحجة واضحة وبيّنة، فإذا لم يأتوا بالسلطان البيّن فهم كاذبون، ولذلك فرّع الله على قوله (لولا يأتون عليهم بسلطان بين) (فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا) أي لا أحد أظلم منه، الذي افترى على الله كذبا. 
(افترى) عندنا افتراء، وكذب، وبهتان. 
الكذب هو: الإخبار بغير الواقع. كأن يقول أحدهم: الشيخ لم يحضر المحاضرة اليوم، فهذا كذب لأنه أخبر بغير الحقيقة والواقع. 
الإفك: مأخوذ من أَفَكَ، وهو قلب الحقائق، ولذلك سمى الله قرى قوم لوط المؤتفكة، يعني المنقلبة لأن الله قلبها، قلب رأسها إلى أسفل، فالإفك قلب الحقائق والواقع، وهو أشنع وأبشع وأقبح أنواع الكذب. لماذا؟ لأن فيه شيئا من الحقيقة ولأن فيه شيئا من الحقيقة لا يستطيع الإنسان أن يرُده، يعني لو أن واحدا زارك بالأمس وتكلم معك في محاضرة تدبر لسورة الكهف، وتكلمتم في هذه المحاضرة، فجاءني وقال لي لقد زرت فلانا بالأمس، هذا حصل وإلا ما حصل؟ هذا حصل، حقيقة أنه زارك وتكلمنا في محاضرة تدبر سورة الكهف، هذا أيضا حصل، وقال لي هذا الشيخ لا يفهم شيئا. يعني هو أخذ الحقيقة وساقها في البداية ثم قلبها، يعني هذه الجملة الأخيرة أنت لم تقلها لكن لأنه قدّم بمقدمات حقيقية، قلب الحقيقة إفك، والإفك معناه قلب الحقيقة إلى غير الحقيقة. يعني أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تأخرت عن الركب أم لم تتأخر؟ تأخرت وركبت ناقة صفوان ابن المعطل أم لم تركب؟ ركبت فأخذ المنافقون ذلك وقالوا ما قالوا، يعني أخذوا الحقيقة وقلبوها لتتبع هواهم. هذا معنى الإفك.
الافتراء: اختلاق وقائع لم تحدث. وهذه الكثير من الناس يتقنها جدا. أنه يحكي وكأنه كان موجودا، يعني واحد يقول أنا زرت فلانا بالأمس، وهو لم يزرك ولم يعرفك. وتكلمنا في كذا، برضه لم تتكلما في هذا الموضوع لأن الزيارة ما وقعت، فهو يختلق قصة لم تحدث. طبعا الافتراء سهل تكذيبه لأني أستطيع أن أكذبه، ولذلك الكفار (وقال الذين كفروا إن هذا إلا أفك افتراه) هم لماذا نعتوا الإفك بالافتراء؟الإفك يُنعت بالافتراء في القرآن (إلا إفك مفترى) (إفك افتراه) لماذا؟ 
هم أرادوا أن يصفوا القرآن بأقبح وأبشع وأشنع أنواع الكذب الذي هو الإفك، يعني يريدون أن يأتوا له بهذا الوصف لكنهم لو قالوا إفك وسكتوا لكان معنى ذلك أن للقرآن حقيقة، وأن القرآن وحي من عند الله لكن محمدا صلى الله عليه وسلم بدّل فيه وغيّر، هم لا يريدون ذلك، هم يريدون أن يقولوا إنه ليس بحقيقة في الأصل فوصفوا الإفك بأنه افتراه، يعني هو إفك وافتراه حتى يقولوا إنه ليس له حقيقة. 
إذا (فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا) لا أحد أظلم من هذا الذي يفتري على الله كذبا. افتروا على الله كذبا أنهم أشركوا به وعبدوا معه غيره. هذا معنى (فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا).
البهتان: أن تصف الإنسان بما ليس فيه. وعندنا حديث (فإن كان فيه فقد اغتبته وإن لم يكن فيه فقد بهته) أن تصف الإنسان بما ليس فيه، فكون الإنسان يصف إنسانا بما ليس فيه فهذا هو البهتان. وورد في القرآن الكريم (قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم).
ونتوقف هاهنا الليلة عند قول الله تعالى (وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله) ونكمل في لقائنا القادم. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين، والحمد لله رب العالمين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

--------------------

https://t.me/tadaborsoratalkahf/57

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق