الاثنين، 16 سبتمبر 2024

شرح تفسير السعدي للشيخ عبد الرزاق البدر - الدرس السابع - من قوله: السياق يرشد إلى بيان المجمل، وتعيين المحتمل

 🎧 لسماع الدرس

الحمد لله ربّ العالمين، وصلى الله وسلّم وبارك على عبده ورسوله نبيّنا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين، اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللمسلمين والمسلمات أما بعد:
📖 فيقول الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله: "فائدة: السياق يرشد إلى بيان المجمل وتعيين المحتمل والقطعِ بعدم احتمال غير المراد، وتخصيص العام، وتقييد المطلق، وتنوع الدلالة. وهو من أعظم القرائن الدالة على مراد المتكلم، فمن أهمله غلط في نظره، وغلط في مناظرته فانظر إلى قوله: { ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ } كيف تجد سياقه يدل على أنه الذليل الحقير" 
🎙الشرح: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلّى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علمًا، وأصلح لنا إلهنا شأننا كله ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين أما بعد: لا نزال مع هذه القواعد والفوائد المتعلقة بالتفسير وضبطه مما نقله المصنف رحمه الله تعالى من كتاب 'بدائع الفوائد' للإمام ابن القيم رحمه الله تعالى. وهذه الفائدة تتعلق بأهمية السياق، سياق الآيات القرآنية، وأثر ذلك في فهم المعنى، ومعرفة التفسير للآية، فإن فهم الآية لا بد فيه من مراعاة سياقها. السياق يتعلق بالسباق واللحاق وموضوع الآية، هذا كله له أثر في التفسير وفي فهم المعنى، ومن ذلكم ما أشار إليه هنا أن السياق يرشد إلى بيان المجمل، وتعيين المحتمِل، والقطع بعدم احتمال غير المراد، وتخصيص العام، وتقييد المطلق، هذه كلها السياق له أثر في معرفتها. حاصل القاعدة التأكيد على أهمية النظر إلى سياق الآية في التفسير فإن هذا فيه معونة على الفهم الصحيح للآية. وتعتبر هذه قاعدة مهمة من قواعد التفسير، ولهذا ابن دقيق العيد رحمه الله في كتابه 'شرح عمدة الأحكام' يقول عن هذه القاعدة: "فاضبط هذه القاعدة فإنها مفيدة في مواضع لا تحصى." 
قال رحمه الله تعالى "فائدة: السياق أي: 'سياق الآية' قال: يرشد أي: 'يدل' إلى بيان المجمل." المُجمل هو: ما لم تتضح دلالته على معناه بمفرده، يعني يحتاج تنظر في السياق حتى تعرف ما يبين الإجمال. يعني مثلا لما تقرأ قول الله عز وجل { وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ } من هم الذين لهم هذه البشارة؟ ما عملهم؟ ما نوع الصبر الذي سيقت هذه البشارة العظيمة لأهله؟ بشارة مطلقة { وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ } هنا حذف المتعلق ليعم كل خير، البشارة بكل خير. ما قال بشرهم بالجنة، ولا قال بشرهم بالنعيم، ولا قال بشرهم براحة الدنيا، ليعم ذلك كله. فمن هم الذين لهم هذه البشارة العظيمة؟ تكمل السياق فيأتيك البيان { وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ۝ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ۝ أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ }. 
يعني مثلا قول الله عز وجل: { ...وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ...} هذا اللفظ فيه إجمال، ولهذا أول ما نزل هذا القدر من الآية قبل نزول قوله (من الفجر) بعض الصحابة رضي الله عنهم اتخذ خيطا أبيض وخيطا أسود، وبعضهم مثل عدي رضي الله عنه اتخذ عقالين أبيض وأسود ووضعهما تحت وسادته وينظر فيهما، ولما أصبح يعني جاء إلى النبي عليه الصلاة والسلام وأخبره بما فعل فقال له عليه الصلاة والسلام: إن وسادك لعريض، لأن الخيط الأبيض والخيط الأسود المقصود به ماذا؟ سواد الليل وضياء الصبح، فإذا كان هذا يجعل تحت الوسادة، إذا الوسادة ماذا؟ الوسادة عريضة تشمل هذه السعة كلها، يعني تعمد أن تضع الخيط الأسود والخيط أبيض تحت الوسادة، إذن الوسادة عندك عريضة تستوعب هذه المساحة الشاسعة الكبيرة، قال إن وسادك لعريض. إذا اللفظ ماذا؟ فيه إجمال، فيه إجمال من الخيط الأبيض ومن الخيط الأسود من الفجر. السياق بيّن الإجمال لما نزل قوله: (من الفجر) علموا أن المعني الليل والنهار، الخيط الأبيض من الخيط الأسود ضياء الصبح وسواد الليل. 
قال: وتعيين المحتمِل. اللفظ المحتمل لأكثر من معنى، فلما تريد أن تعين المراد، هل هذا المعنى المراد؟ أو هل هذا هو المراد؟ السياق يعين على تفسير أو تعيين المراد في الاحتمال الذي في اللفظ. يعني لما تقرأ في آية البر في سورة البقرة قال الله عز وجل: {...وَآتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ...} (وآتى المال) عندنا هذا اللفظ محتمل، محتمل أن المراد الزكاة المفروضة، يعني آتى زكاته المفروضة ويحتمل الصدقة المستحبة، (آتى المال) يعني آتى صدقته المستحبة التي ليست هي مفروضة عليه آتاها ذوي القربى واليتامى والمساكين. اقرأ الآية الآن بتمامها حتى تنظر ماذا بقي لك في هذا الاحتمال (وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة) إذًا قوله (آتى المال على حبه) هل المراد به الزكاة المفروضة؟ الزكاة المفروضة جاء ذكرها الآن، إذًا هذه آتى المال على حبه الصدقة المستحبة. أما الزكاة المفروضة سيأتي ذكرها في السياق. فانظر كيف أن السياق أعانك على ماذا؟ تعيين المحتمل. أنت الآن عندك اللفظ (آتى المال على حبه) محتمِل للزكاة المفروضة ومحتمل للصدقة المستحبة، تريد أن تعيّن ما المراد؟ فإذا أكملت سياق الآية تعيّن المراد. 
القطع أيضًا، القطع بعدم احتمال غير المراد، يعني الآن لما تأتي إلى بعض الآيات تجد أنه قد تُفسّر، قد يفسرها بعض المفسرين بمعنى غير مراد من الآية، ولا يتابع عليه، ويكون الذي يعينك على القطع بعدم احتمال غير المراد هو ماذا؟ هو نظرك في السياق. يعني مثل قول الله عز وجل في سورة النحل: { يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِّلنَّاسِ ۗ} الآن السياق في ماذا؟ في النحل والعسل، قال: (يخرج من بطونها شراب) 'فيه' هذا عائد على ماذا؟ على الشراب، الذي هو العسل وهذا واضح السياق. مجاهد رحمه الله قال: (فيه شفاء للناس) القرآن. يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله: قال مجاهد: يعني القرآن، أي قوله (فيه شفاء للناس) يعني القرآن، قال ابن كثير انظر كلامه وجماله ودقته: "وهذا قولٌ صحيح في نفسه" يعني القرآن فيه شفاء الله عز وجل قال: { وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ... } قال: وشفاء لما في الصدور { قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ ۖ...} قال "هذا قولٌ صحيح في نفسه، لا شك فيه أن القرآن شفاء ولكن ليس هو الظاهر ها هنا" يعني ليس هو المراد هنا في السياق فإن الآية ذكر فيها العسل، أن الشفاء يعود على الضمير في قوله 'فيه' أي العسل. قال ابن كثير رحمه الله: "ولم يُتابَع مجاهد على قوله هاهنا." قال ابن العربي في كتابه 'في التفسير': "فإن مساق الكلام كله للعسل ليس للقرآن فيه ذكر. وكيف يُرجع ضميرٌ في كلام إلى ما لم يجري له ذكر فيه؟" يعني كيف يعاد الضمير إلى شيء لم يذكر أصلا في السياق؟ فإذًا الآن استفدنا من السياق القطع بعدم احتمال غير المراد. 
قال: وتخصيص العام. أيضا مما يستفاد من السياق. والمراد بالعام: اللفظ المستغرق لجميع أفراده بلا حصر. وسيأتي معنا بعده تقييد المطلق، والمطلق هو: ما دل على شائع في جنسه. أي أنه لا يعم جميع أفراده، بل يخص فردا منها لكنه غير معين. وحتى يتضح لنا الفرق بين المطلق والعام، الآن لما يقول قائل: أكرمت رجلا، ويقول آخر: لم أكرم رجلا. أكرمت رجلا هذا مطلق أم عام؟ عام بمعنى كل رجال الدنيا ضيفهم في بيته، هل هذا هو المقصود؟ العام: المستغرق لجميع أفراده بلا حصر. والمطلق: لا يعم جميع أفراده، بل يخص فردا منه، لكن غير معين. السؤال مرة ثانية: 'أكرمت رجلا' عام أم مطلق؟ مطلق، يعني رجل هذا شائع في الجنس، لكن لا يستغرق جميع أفراده، بل يخص فردًا منهم لكنه غير معين. أكرمت رجلا، هو واحد لكنه رجل يعني من جنسه، ما يدخل بهيمة ما يدخل مثلا طير. طيب، 'لم أكرم رجلا' عام أم مطلق؟ عام. فالعام قد يكون يوجد ما يخصّصه، يعني أنا لما أقول: 'لم أكرم رجلا' من كَذا، هذا يسمى ماذا؟ تخصيص. ولما يقول: 'أكرمت رجلا من جيراني' هذا يسمى ماذا؟ تقييد للمطلق. 
قال: "وتخصيص العام" يستفاد من السياق تخصيص العام". مثاله قوله تعالى: { وإِن كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّىٰ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } 'وإن كن أولات حمل' هذا عام يشمل: الحرّة والأمة. لما تنظر في السياق تجد أن في السياق ما يقيد هذا بالحرائر لأنه قال: (وإن كنّ أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن)، فجعل أجلًا تعود المرأة بعده إلى الاستقلال بنفسها، والأمة لا تستقل بنفسها. فدل السياق على أن المراد بالنفقة هنا 'وأنفقوا عليهن' أن المراد بأولات الأحمال الحرائر دون الإماء.
قال: "وتقييد المطلق" المطلق مثل ما تقدم لا يعم جميع أفراده، بل يخص فردًا منها لكنه غير معين. يعني من الأمثلة قول الله عز وجل: { ...وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ } (وليطوفوا) هذا أمر، والأمر للوجوب ما المقصود بهذا الطواف؟ حمل بعض أهل العلم المعنى في (وليطوفوا) على طواف القدوم، استدل بالآية على وجوبه، لأنه أمر والأمر للوجوب، وأن طواف القدوم واجب، وجمهور أهل العلم على أنه مستحب. الآن هذا لفظ مطلق، 'وليطوفوا' مطلق. لما تقرأ السياق تجد أن فيه دلالة واضحة بينة أنه ليس المراد طواف القدوم وإنما المراد طواف الإفاضة، ليس طواف القدوم الذي أول ما يصل إلى مكة يأتي به وإنما المراد طواف الإفاضة، لما تقرأ السياق تجد ما يدل على ذلك. قال الله عز وجل: { ...وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ ۖ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ ۝ ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ... } 'ثم' هذه تفيد ماذا؟ التعقيب والتراخي، ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ حلق الشعر، (وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) أمر بقضاء التفث وهو الحلق، والطواف بالبيت عقب ذبح الهدي. هل قبل طواف القدوم هناك هدي يذبح؟ عقب ذبح الهدي لأن ثم تفيد الترتيب والتعقيب، والذبح يختص بيوم النحر، فدلنا السياق على ماذا؟ على ما يقيد اللفظ المطلق (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيق) أي: طواف الإفاضة، ويسمى طواف الزيارة، وهو ركن من أركان الحج. والأطوفة التي في الحج ثلاثة: مستحب، وركن، وواجب. المستحب: طواف القدوم، والركن: طواف الإفاضة، والواجب: طواف الوداع. 
قال: "وتنوع الدلالة" أيضا مما يستفاد من السياق. تنوع الدلالة أي: دلالة اللفظ على المعنى. تجد اللفظ تتنوع دلالته، لفظ واحد لكن تتنوع دلالته بحسب السياق. هو لفظ واحد كلمة واحدة تقرأها في موطن مدح وتقرأها في موطن ذم وهي لفظة واحدة، هذا يسمى تنوع في الدلالة. من أين نعرف ذلك؟ من السياق. يقول ابن تيمية: "فإن الدلالة في كل موضع بحسب سياقه وما يحف به من القرائن اللفظية والحالية." يعني الآن لما تقرأ لفظة 'عظيم' في قوله: { وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ }، ولما تقرأها في قوله: { ...إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا }، أو قوله: { ...وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ }. الأول مساق ثناء ومدح، والثاني والثالث مساق ذم وزجر، واللفظة واحدة 'عظيم'. لكن تنوعت دلالة اللفظ بحسب السياق. 
📖 قال رحمه الله: "وهو من أعظم القرائن الدالة على مراد المتكلم، فمن أهمله غلط في نظره، وغالط في مناظرته. فانظر إلى قوله: { ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ } كيف تجد سياقه يدل على أنه الذليل الحقير؟" 
🎙الشرح: وهو المراد به: السياق. أي السياق من أعظم القرائن المراده، القرائن الدالة على مراد المتكلم. أحيانا في مجالس الناس تجد شخص يتحدث عن أمر ويأتي شخص في نصف الحديث ما سمع الحديث من أوله، فغالبا يذهب ذهنه إلى أمر غير الذي يتحدث عنه المتحدث، لماذا؟ لأنه بعيد من السياق. ولهذا بعضهم لما يتكلم بشيء يقولون له لا أنت أسكت ما أنت معنا أصلا، لست معنا في السياق. فالسياق له أهمية جدا في الفهم. قال: "وهو من أعظم القرائن الدالة على مراد المتكلم" فتنظر في السياق، ما هو السياق؟ سباق الكلام، ولحاق الكلام، ومقصود الكلام، فينظر فيه ما يأتي الإنسان يقف في وسط الكلام ويأخذ منه، أصحاب الأهواء طريقتهم في الاستدلال يجتزئ شيء من الآية، يعني مثل: الحلولية يأتي إلى قوله تعالى: { وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ ۚ }، { إلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ۖ } الإمام أحمد لما رد عليهم رحمه الله ماذا قال؟ قال: بدأ الخبر بالعلم، وختمه بالعلم، يعني السياق كله في العلم. 
(وهو معكم) أي: بعلمه. فرد عليهم بماذا؟ بالسياق. السياق الذي هو : السباق، واللحاق، وموضوع الآية. هذا من أعظم القرائن الدالة على مراد المتكلم، فمن أهمله غلط في نظره أي استدلاله بالآيات. وأيضا غالط في مناظرته، إذا يناظر الآخرين ويناقشهم على ما عنده فهذه مغالطة؛ لأنها مبنية على غير علم وعلى غير أساس صحيح في فهم كلام القائل.  قال: "فانظر -يعني مثال- إلى قوله: { ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ } من يقرأ 'العزيز الكريم' مجردة عن السياق التي هي فيه يظن أن هذا مدح وثناء. قال: { ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ } كيف تجد سياقه يدل على أنه الذليل الحقير؟ 'العزيز الكريم' أي: الذليل الحقير. فهذا كله يؤكد على ماذا؟ أهمية السياق وأثره في التفسير وبيان المراد. 
📖 قال رحمه الله: "فائدة: إخبار الرب عن المحسوس الواقع له عدة فوائد منها: أن يكون توطئة وتقدمة لإبطال ما بعده، ومنها أن يكون موعظة وتذكرة، ومنها أن يكون شاهدا على ما أخبر به من توحيده، وصدق رسوله، وإحياء الموتى، ومنها أن يُذكر في معرض الامتنان، ومنها أن يُذكر في معرض اللوم والتوبيخ، ومنها أن يُذكر في معرض المدح والذم، ومنها أن يُذكر في معرض الإخبار عن اطلاع الرب عليه، وغير ذلك من الفوائد." انتهى كلامه رحمه الله وهو في غاية النفاسة والاشتمال على كثير من القواعد والضوابط المتعلقة بتفسير القرآن، فجزاه الله خيرا. 
🎙الشرح: قال رحمه الله تعالى فائدة" كل هذه الفوائد والقواعد كما تقدم منقولة من 'بدائع الفوائد' لابن القيم. ولهذا قال الشيخ رحمه الله في تمام الكلام: "انتهى كلامه رحمه الله"، يعني ابن القيم في كتابه بدائع الفوائد.
يقول فائدة: "إخبار الرب عن المحسوس الواقع" تجد في القرآن آيات كثيرة جدا فيها إخبار عن المحسوس الواقع، ما هو المحسوس الواقع؟ السماء، الأرض، الأشجار، البحار، الأنهار، الجبال، الأودية، الأمطار، إلى غير ذلك المحسوس الواقع. فتجد في القرآن إخبار الرب عن المحسوس الواقع له عدة فوائد. الآن لما تقرأ في القرآن عن إخبار المحسوسات الواقعة انتبه لهذه القاعدة. وهذا التنبيه أن هذا فيه فوائد، ولا بد أيضا فيه من النظر في السياق الذي مر معنا حتى ينظر وجه ذكر هذا المحسوس في هذا الموطن؛ لأنه يتنوع.
قال: إخبار الرب عن محسوس الواقع له عدة فوائد منها:- 

١. أن يكون توطئة وتقدمة لإبطال ما بعده. يعني لما تقرأ قول الله عز وجل: { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ ۚ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَىٰ ۚ إِنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } لما ذُكر هذه الصفات للأرض، هذا تقدمة لما بعده إبطال عقيدة من ينكرون البعث. { وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ۝ ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَىٰ وَأَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } يأتي الإخبار عن المحسوس الواقع توطئة لإبطال ما بعده لإبطال عقيدة من العقائد الباطلة. 

٢. ومنها أن يكون ذكره موعظة وتذكرة. { أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ ۝ إِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ ۝ إِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ ۝ وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ ۝ فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ } فقد يكون موعظة وتذكرة. وأيضا ذكر الأمم السابقة والعقوبات التي أحلها بهم { فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ ۖ }، { تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ ۖ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ ۖ }، { قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ } هذه كلها فيها مواعظ، تذكير للعباد.

٣. منها أن يكون الإخبار -أي: الإخبار عن المحسوس الواقع- شاهدا على ما أخبر به من توحيده. يعني مثلا قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ۝ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ ۖ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ } أي أنه لا خالق لهذه الأشياء غير الله. 
إذًا الإخبار عن هذه المحسوسات ذكر شاهدًا على ماذا؟ على التوحيد، توحيد الرب، وهذا كثير جدا في القرآن، يعني اقرأ سورة النحل وما عدّه فيها سبحانه من أنواع الأشياء المحسوسة والنعم الكثيرة، ختم ذلك بقوله: { كَذَٰلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ ۝ فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ۝ يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ }.

٤. قال: وصدق رسوله، يعني أن يكون الإخبار عن المحسوس الواقع شاهدا على صدق رسوله، يعني مثلا قوله: { وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ }، { وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ } في قصة يوسف، 'أمرهم' أي: على إلقاءه في الجب، فهذه فيها شواهد ودلائل على صدق الرسول.

٥. شاهد أيضا على إحياء الموتى. مر معنا مثاله في مثل قوله: { وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ۝ ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَىٰ وَأَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }، كذلك قوله تعالى: { اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ ۖ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ۝ وإِن كَانُوا مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِم مِّن قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ ۝ فَانظُرْ إِلَىٰ آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ۚ إِنَّ ذَٰلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَىٰ ۖ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }.

٦. قال رحمه الله تعالى ومنها: أن يذكر ما هو المحسوس المعاين في معرض الامتنان، أي: امتنان الله على عباده. وهذا له أمثلة كثيرة منها:
● قول الله عز وجل في سورة إبراهيم: { اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ ۖ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ ۖ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ ۝ وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ ۖ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ ۝ ...وإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا... } فالسياق هذا في معرض امتنان الله على عباده. 

٧. ومنها أن يذكر المحسوس الواقع في معرض اللوم والتوبيخ (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا ۖ وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ۖ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ ۝ وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَّعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ ۝ وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَّحْفُوظًا ۖ وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ } هذه كلها سيقت في مقام ماذا؟ لوم وتوبيخ لهؤلاء مع هذه الآيات الظاهرة البينة وهم باقون على كفرهم وإعراضهم وصدودهم. 

٨. ومنها أن يذكر في معرض المدح والثناء { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ ۝ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } 

٩. أيضا قد يذكر المحسوس الواقع في مساق الذم. مثل: { وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ }، { مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ } 

١٠. ومنها أن يذكر في معرض الإخبار عن إطلاع الرب عليه. مثل قوله: { وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۚ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطًا }، ومثل قوله في آخر آية من سورة الطلاق: { اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا }.

قال رحمه الله: "وغير ذلك من الفوائد، انتهى كلامه" أي: ابن القيم رحمه الله تعالى وهو في غاية النفاسة، والاشتمال على كثير من القواعد والضوابط المتعلقة بتفسير القرآن، فجزاه الله خيرا، وأيضا جزى الشيخ عبد الرحمن خيرا، وأيضا جزاكم الله أنتم خير الجزاء. 

نفعنا الله أجمعين بما علمنا وزادنا علما وتوفيقا، وأصلح لنا شأننا كله، وهدانا إليه صراطا مستقيما ... سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفر الله وأتوب إليك. اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين. جزاكم الله خيرا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق