بسم الله
والحمد لله وصلى الله وسلم وبارك على رسول الله..
لا زلنا في مدخل التدبر، نتكلم في هذا المقطع عن
الأسباب المعينة على التدبر.
أيضا هذا من الأسئلة الشريفة التي يتدارسها أهل
العلم وهي: ما هي الأسباب المعينة على التدبر؟
وأهل العلم في تناولهم للأسباب يختلفون:
منهم من يُوسع
الأسباب حتى يصل إلى الأمور الحسية فيقول: مثلا أن تقرأ القرآن على طهارة، أن يكون
اتجاهك للقبلة، أن تكون لبست أحسن ثيابك، وأن يكون المكان مهيئ.
ومنهم من يقتصر على الأمور القلبية بعنى أنه
يجعلها على حضور القلب، وكمال الإيمان، وغير ذلك.
يعني بعضهم يُوسّع، وبعضهم يُضيق.
ولابد أن نعلم
أنه لا يُضيق الكلام في هذا الباب، يعني لا يوجد حرج لا على أصحاب المنهج الأول، ولا
على أصحاب المنهج الثاني لأن القضية هي اجتهاد في بيان الأسباب، فبعضهم يفصّل في
الأسباب ولهذا تكثر عنده الأسباب المعينة على التدبر، وبعضهم يقتصر على أصولها
ويظن أن الإنسان إذا حصل على هذه الأصول اكتفى بها عن غيرها.
أنا ذكرت هذا لأن الكتب التي تكلمت عن التدبر
بعضها يطيل في الأسباب فيوصلها إلى ثلاثين سبب، وبعضها يوصلها إلى خمسة أسباب،
وحتى لا يحس الإنسان بفارق بين هذه
المناهج بينت لكم سبب المأخذ، فبعضهم يُفصّل ويتعمق بالتفصيل لأجل أن يريد أن يُقرِّب التدبر أكثر، أو يُسهل
التدبر أكثر، وبعضهم يذكر معاقد الأمور أو أصول الأمور، عموما نحن سنأخذ جملة من
الاسباب يمكن للإنسان بعد ذلك أن يفكر في غيرها، نحن سنفتح باب الأسباب:
فمن أوائل الأسباب التي يذكرها علماء السلوك في
التدبر:
حضور القلب: يعني أن يكون القلب حاضرا ومعنى
حاضر يعني أن يكون القلب منتبها غير ساهي ولا غافل ولا لاه وإنما عنده حضور ، يعني
القلب منصت، ولهذا يفهم معنى الآية هذا أولا، ثم يفهم ما يمكن أن يؤخذ من الآية،
وكثيرا ما يذكر ابن القيم هذه القضية حضور القلب. وحضور القلب ممكن الإنسان يعني
يتدرب عليه وذلك لأنه يجعل الإنسان المسلم يحرص على أن يكون منتبها، قد يغفل
أحيانا لكن يرجع بعد ذلك إلى انتباهه، إلى يقظته، يعني أن يكون يقظ القلب.
حضور القلب هو السبب الأكبر في قضية التدبر،
لأنه إذا كان القلب حاضرا فهِم المعنى وبالتالي سهُل عليه أن يستنبط ويستلّهِم من
هذا المعنى لأنه حاضر، وهذا حتى في حياتنا اليومية حينما يكون الإنسان منتبها إلى
كلام أستاذه أو شيخه، أو حينما يكون الإنسان منتبها لقصة يرويها أحد الحضور، كلما
كان منتبها لديه الاستعداد أن يفكر في دقائق القصة، أو في كلام أستاذه وفي دقائق
هذا الكلام ويفهم أعماق الدرس لأنه أصلا منتبه، وإذا غفل وسهى بالتأكيد فاته الشيء
الكبير.
السبب الثاني من أسباب تدبر القرآن: فهم معاني الآيات، ونحن قررنا قبل -في المقاطع السابقة- أنه لا يمكن للتدبر أن يكون تدبرا صحيحا إلا
إذا كان تفسير الآية يعني معنى الآية صحيحا، ولا يمكن للتدبر أصلا أن يكون إلا إذا
اتضح المعنى وإلا كيف تتدبر كلام أنت لا تعرف معناه؟! انظروا مثلا: حينما يقرأ
الإنسان -مثلا- بيتا من الشعر الجاهلي صعب المعاني فإنه لا يمكن أن يستنبط ولا
معنى واحد، لماذا؟ لأن المعنى غير مكتمل، أو بالأصح المعنى غير واضح، كذلك أيضا
هنا إذا كان معنى الآية غير واضح فإنه لا يمكن أن يحدث التدبر، ولهذا نحن نشترط في
التدبر فهم المعنى. فالإنسان الذي يريد أن يتدبر القرآن عليه أن يتعب قليلا في فهم
معاني القرآن، وفهم معانيه أسهل من التدبر لأن القرآن عربي الإنسان العربي يفهم
غالبه، يعني أغلب الآيات مفهومة بحكم العربية، فإذا قرأ الإنسان كتاب في كتب
التفسير وفهم معاني الآيات بعد ذلك سهُل عليه أن يستنبط المعاني ويستلهِم ال العِبر.
السبب الثالث: سلامة التفكير، هذه يذكرها بعض الذين
كتبوا في التدبر، أن يكون الإنسان طريقة التفكير عنده سليمة. وطريقة التفكير
السليمة، يعني لا يحاول أن يجعل القرآن خاضع لأفكاره، بمعنى أن عنده قضية يبحث
لإثباتها في آيات القرآن، عنده شيء من الهوى كما هو سلوك -مثلا- المخالفين لأهل السنة، تكون عنده قضية
فيحاول إثباتها عن طريق آيات القرآن، يعني مثلا عنده خلل في القدر في الجبر أو في
غيرها فيحاول أخذ الآيات التي تناسب هواه، وهذا لاشك أنه لا يمكن أن ي أن ينتج
تدبرا سليما، إنما هذا ينتج هوى لأنه يحاول أن يُخضع القرآن لتفكيره، والقرآن لم يُنزل
لأجل ذلك، إنما أنزل القرآن لأجل أن يتفكر فيه الإنسان، يعرض حاله عليه، يصحح سلوكه،
بناء على هذه الآيات يفهم ماذا يريد الله من هذه الآية، ما الذي أمر الله به في
هذه الآية، ما الذي نهى الله عنه في هذه الآية، ماذا يستفاد من هذه القصة التي ذُكرت،
قصة موسى -مثلا- وإلا يونس وإلا سليمان وإلا إبراهيم وهكذا، أنزل القرآن لأجل ذلك،
فإذا كانت طريقة التفكير سليمة بإذن الله سيكون التدبر سليما.
السبب الرابع: تثوير القرآن، ومعنى تثوير القرآن يعني إثارة القرآن، إثارة الآية، وتثوير القرآن يكون بعدة أشياء:
يكون بإثارة اسئلة على الآية -فمثلا- قول الله تعالى: (الحمد
لله رب العالمين) ينبغي للإنسان أن يثير عدة أسئلة: ما الحكمة من بدأ الآية
بالحمد؟ لماذا لم تبدأ الآية بالشكر؟ يعني ليش ما تكون الآية الشكر لله رب
العالمين؟ لماذا لفظ الحمد تحديدا؟ لماذا قُدمت الألوهية على الربوبية؟ (الحمد لله)
بعد ذلك قال (رب العالمين) فقُدمت الألوهية على الربوبية، لماذا اقتُصر على
العالمين دون سائر المخلوقات؟ فإثارة الأسئلة هذا هو تثوير القرآن الذي أثنى عليه،
أو الذي أمر به ابن مسعود فقال: "ثوروا القرآن" ثوروه يعني أثيروا المعاني
الكامنة الموجودة في الآية، ولا يمكن الإثارة إلا عن طريق طرح الأسئلة، وقد كان
أهل العلم يعني على هذه الطريقة، الطبري -مثلا- في تفسيره كثيرا ما يقول فإن قيل
لم خصّ الله المشرق والمغرب لقوله (ولله المشرق والمغرب)؟ فإن قيل لم خصّ الله
الوجه في قوله (أسلمت وجهي)؟ ويبدأ بعد ذلك يحاول أن يجيب على هذه الأسئلة، إثارة الأسئلة على الآية هذه من وسائل التدبر،
وهناك فن من الفنون ينبغي المتدبر أن يتدرب عليه وهو فن السؤال، يعني أن يأتي
الإنسان المتدبر أن يتعود، أن يتدرب الإنسان المتدبر على إثارة أكبر قدر ممكن من
الأسئلة على الآية، كلما كان الإنسان يُحسن السؤال عن الآية كلما هيأه ذلك إلى أن
تكون عنده ملكة التدبر. فمرة يسأل عن اللفظ الفلاني لماذا بدأ به؟ ومرة يسأل عن أسماء
الله الحسنى لماذا خُتم بها؟ ومرة يسأل عن قضية التقديم والتأخير، ومرة يسأل عن
هذا الحرف، فائدة هذا الحرف دون هذه الحرف. يعني لماذا جاءت الآية بكلمة (ثم)،
لماذا ابتدأت الآية بحرف (إما) التي تفيد التوكيد؟ وغيرها.
كلما ملك الإنسان زمام الأسئلة وأحسن طريقة الأسئلة، كلما كان أقرب لملكة التدبر.
السبب
الخامس: انتفاء الموانع، وهذا سنفرده بمقطع.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق