قال تعالى : ﴿كَذَلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ما كانَ لِيَأْخُذَ أخاهُ في دِينِ المَلِكِ إلا أنْ يَشاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَن نَشاءُ﴾ [يوسف: ٧٦]
.. ومن لطيف الكيد في ذلك: أنه لما أراد أخذ أخيه توصل إلى أخذه بما يُقِر إخوته أنه حق وعدل، ولو أخذه بحكم قدرته وسلطانه لنُسب إلى الظلم والجور، ولم يكن له طريق في دين الملك يأخذه بها. فتوصل إلى أخذه بطريق يعترف إخوته أنها ليست ظلما، فوضع الصواع فى رحل أخيه بمواطأة منه له على ذلك. ولهذا قال: ﴿فلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُون﴾ [يوسف: ٦٩].
/ ومن لطيف الكيد: أنه لم يفتش رحالهم وهم عنده، بل أمهلهم حتى جهّزهم بجهازهم، وخرجوا من البلد، ثم أرسل في آثارهم لذلك.
وذُكر عن السدي "فلما ارتحلوا أذن مؤذن أيتها العير" ، والسياق يقتضي ذلك، إذ لو كان هذا وهم بحضرته لم يحتج إلى الأذان، وإنما يكون الأذان نداء لبعيد يطلب وقوفه وحبسه. فكان في هذا من لطيف الكيد: أنه أبعد من التهمة للطالب بالمواطأة والموافقة، وأنه لا يشعر بما فقد له، فكأنه لما خرج القوم وارتحلوا وفصلوا عن المدينة احتاج الملك إلى صواعه لبعض حاجته إليه فالتمسه فلم يجده فسأل عنه الحاضرين فلم يجدوه فأرسلوا في أثر القوم. فهذا أحسن وأبعد من التفطن للحيلة من التفتيش في الحال قبل انفصالهم عنه. بل كلما ازدادوا بعدا عنه كان أبلغ في هذه المعنى.
/ ومن لطيف الكيد: أنه أذّن فيهم بصوت عال رفيع يسمعه جميعهم، ولم يقل لواحد واحد منهم إعلامًا بأن ذهاب الصواع أمر قد اشتهر ولم يبق فيه خفاء وأنتم قد اشتهرتم بأخذه ولم يتهم به سواكم.
/ ومن لطيف الكيد: أن المُؤذن قال إنكم لسارقون ولم يعين المسروق حتى سألهم عنه القوم فقالوا لهم: ماذا تفتقدون؟ قالوا: نفقد صواع الملك فاستقر عند القوم أن الصواع هو المتهم به، وأنهم لم يفقدوا غيره. فإذا ظهر لم يكونوا ظالمين باتهامهم بغيره. وظهر صدقهم وعدلهم في اتهامهم به وحده، وهذا من لطيف الكيد.
/ ومن لطيف الكيد: قول المؤذن وأصحابه لإخوة يوسف عليه السلام - ﴿قالُوا فَما جَزاؤُهُ إنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ﴾ - أي ما عقوبة من ظهر عليه أنه سرقه منكم، ووُجد معه؟ أي ما عقوبته عندكم وفي دينكم؟ ﴿قالُوا جَزاؤُهُ مَن وُجِدَ في رَحْلِهِ فَهو جَزاؤُهُ﴾ [يوسف: ٧٥].
فأخذوهم بما حكموا به على نفوسهم لا بحكم الملك وقومه.
/ ومن لطيف الكيد: أن الطالب لما همّ بتفتيش رواحلهم بدأ بأوعيتهم يفتشها قبل وعاء من هو معه تطمينا لهم، وبعدا عن تهمة المواطأة.
فإنه لو بدأ بوعاء من هو فيه لقالوا: وما يدريه أنه في هذا الوعاء دون غيره من أوعيتنا؟ وما هذا إلا بمواطأة وموافقة. فأزال هذه التهمة بأن بدأ بأوعيتهم أولا فلما لم يجده فيها همّ بالرجوع قبل تفتيش وعاء من فيه الصواع وقال: ما أراكم سارقين وما أظن هذا أيضًا أخذ شيئًا. فقالوا: لا والله لا ندعكم حتى تفتشوا متاعه فإنه أطيب لقلوبكم، وأظهر لبراءتنا، فلما ألحوا عليهم بذلك فتشوا متاعه، فاستخرجوا منه الصواع. وهذا من أحسن الكيد.
فلهذا قال تعالى: ﴿كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ما كانَ لِيَأْخُذَ أخاهُ في دِينِ الملِكِ إلا أنْ يَشاءَ اللهُ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَن نَشاءُ وفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ﴾ [يوسف: ٧٦].
-----------------------------------------
تفسير ابن القيّم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق