الأحد، 1 فبراير 2015

تفسير سورة القمر (١-٥)/ د. رقية المحارب

د. رقية المحارب
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين ..
اليوم إن شاء الله سنتناول سورة القمر بالتفسير وهي من السور المكية وتُسمّى سورة اقتربت الساعة وجاء في حديث أبي واقد الليثي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ بـ (ق) و (اقتربت الساعة ) في الفِطرِ والأضحى. وعنون الإمام البخاري-رحمه الله تعالى - في كتاب التفسير لها بهذا العنوان سورة (اقتربت).
 وتُسمّى سورة القمر وبذلك ترجمها الترمذي.
 إذا هي سورة القمر وتُسمّى سورة اقتربت وتُسمّى سورة اقتربت الساعة .
 الآيات:
(اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ ۚ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (3) وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4) حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ ۖ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ (5) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ ۘ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَىٰ شَيْءٍ نُكُرٍ (6) خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ (7) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ ۖ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَٰذَا يَوْمٌ عَسِرٌ (8) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (9) فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَىٰ أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) وَحَمَلْنَاهُ عَلَىٰ ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ (14) وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (16) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17))
انقطع التسجيل هنا
( سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) ذلك لتعلُقِها ببدر كما ذكر بعض أهل التفسير من قوله جل وعلا (أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) قالوا نزل ذلك أو نزلت ذلك في بدر أو لعل النبي صلى الله عليه وسلم قرأها يوم بدر وإن كانت نزلت قبل في مكة.
وهذه السورة ذُكر في أسباب نزولها ما ذكره الواحدي بسنده إلى عبدالله بن مسعود قال: انشقّ القمر على عهد محمد صلى الله عليه وسلم فقالت قريش هذا سِحرُ بن أبي كبشة سَحَرَكم فسألوا السُّفّار -الذين لم يكونوا في البلد حين حدثت تلك الحادثة - فقالوا نعم قد رأينا فأنزل الله عز وجل (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) وكان نزولها في حدود سنة خمسٍ قبل الهجرة. وفي الصحيح أن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (أُنزل على محمد بمكة وإني لجارية ألعب (بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَىٰ وَأَمَرُّ ) وكانت رضي الله تعالى عنها عُقِد عليها في شوال قبل الهجرة بثلاث سنين أي في أواخر سنة أربعٍ للهجرة بمكة وعائشة يومئذ بنت ست سنين.
وذكر بعض المفسرين أن انشقاق القمر كان سنة خمسٍ قبل الهجرة. وعن ابن عباس قال: كان بين نزول آية (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) وبين بدر سبع سنين .
 وهذه السورة من السور التي -كما سبق أن ذكرت- قصيرة المفاصل يعني قصيرة الآيات، وامضة مُزلزلة .. مُرعِدة .. خاتمتها أو نهايتها غالبا بحرف الراء فالراء فيها من الترعيد والتكرار ما يُزلزل القلوب ويُرعدها.
 / قال الله جل وعلا (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) فهل اقتربت الساعة أول أو انشقّ القمر أول؟
بعض أهل التفسير يقولون فيه تقديم وتأخير انشقّ القمر واقتربت الساعة لأن انشقاق القمر علامة من علامات اقتراب الساعة كما جاء في قوله صلى الله عليه وسلم (بُعِثت أنا والساعة كهاتين) فبعْث النبي صلى الله عليه وسلم علامة على اقتراب الساعة، كذلك انشقاق القمر علامة على اقتراب الساعة فكأنما قُدِّم وأُخِّر يعني (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) انشق القمر فكان إيذانا باقتراب الساعة.
 وفي هذا من الإيماء إلى زلزلة القلوب وإعادة النفوس إلى المصير وإلى الخاتمة التي تكون سواء كان ذلك بيوم القيامة أو كان بقيامة الإنسان يعني بساعته .. بموته فالأمر سيان لأنه إذا انقطع العمل فكأنما قامت قيامة الإنسان لأنه لا عمل عنده يُقدِمه بين يدي الساعة فلذلك إذا قامت قيامته أو مات قامت قيامته لأنه لا عمل له يقدّمه بعد ذلك. وقد جاء في صحيح البخاري وجامع الترمذي (عن أنس بن مالك قال سأل أهل مكة النبي صلى الله عليه وسلم أن يُريهم آية فأراهم انشقاق القمر) وزاد الترمذي عنه (فانشق القمر بمكة فرقتين فنزلت (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) إلى قوله (سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ) وفي رواية للترمذي عن ابن مسعود قال (بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمِنى فانشق القمر) ، وجاء في حديث عبد الله بن مسعود في الصحيح قال (انشق القمر ونحن مع النبي صلى الله عليه وسلم بمِنى فانشقّ فرقتين فرقة فوق الجبل وفِرقة دونه فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم اشهدوا اشهدوا ) زاد في رواية الترمذي عنه يعني (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ).
 وروي مثل هذا الحديث عن علي بن أبي طالب وابن عباس وابن عمر وحُذيفة وأنس بن مالك وجبير، وهؤلاء لم يشهدوا انشقاق القمر لأن من عدا عليا وابن عباس وابن عمر لم يكونوا بمكة ولم يسلموا إلا بعد الهجرة ولكنهم لاشك ما تكلموا إلا عن يقين، ومثل هذا يُروى ويُتناقل كثيرا يعني آية من الآيات وعلامة من العلامات تحدث في السماء لاشك أنه يشهدها كل أحد ويُحدِّث بها كل أحد والصحابة يحدُث منهم أن يسمعوا الحديث من بعضهم فيُحدِثون به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن لم يعزوه عن من رووه عنه، فهذا ابن عباس يروي أحداثا مما لم يلقاها وكانت حدثت قبل سِنه ومع ذلك يرويها كأنما رآها وهو لم يرها لكن قطعا رآها عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومثل هذا يُسمّى مراسيل الصحابة يعني الصحابة يروونه ويُسقطون الصحابي بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم ويُعدّ ذلك من الصحيح الذي اتفق الجمهور على أنه لا يؤثر في الحديث لأن الصحابة جميعا عُدول عدّلهم الله جل وعلا في كتابه ورضي عنهم.
/ قال الله جل وعلا (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) فإذا اقتربت الساعة فلا تستعجلوا أمر الله جل وعلا فقد جاء وكأنما حدث ووقع. وقد جاء في أضراب أخرى أو آيات أخرى ، مواضع أخرى من كتاب الله جل وعلا هذا المعنى فقال الله سبحانه وتعالى في سورة النحل (أَتَىٰ أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ) وجاء أيضا مثل ذلك في قول الله جل وعلا (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مَّعْرِضُونَ).
 وقد وردت أحاديث أيضا في هذا المعنى منها:
 قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أنس قال (خطب النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه ذات يوم وقد كادت الشمس أن تغرُب فلم يبقَ منها إلا يسير فقال: والذي نفسي بيده ما بقي من الدنيا فيما مضى منها إلا كما بقي من يومكم هذا فيما مضى منها أو منه، وما نرى من الشمس إلا يسيرا ) يقول أنس وما نرى من الشمس إلا يسيرا.
وحدّث الإمام أحمد بسنده عن سهل بن سعد قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (بُعثت أنا والساعة هكذا وأشار بأصبعيه السبابة والوسطى) وفي لفظ (بُعثت أنا والساعة كهذه من هذه إن كادت لتسبقني) يعني هذه من هذه لقُرب ما بين نهاية الطرفين مبعث النبي صلى الله عليه وسلم وقيام الساعة، حتى قاس بعض الناس المدة الزمنية من خلق آدم -فيما يذكر المؤرخون- إلى مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وقاس اصبعي اليد فنظر في نسبة الزائد من الوسطى عن السبابة فقاسه بالسنين، حتى قال بعضهم إنه قرابة ألف وأربعمئة وخمسين، يعني تقريبا .. تقريبا، وإن كان هذا ليس بشيء لكنه من باب التقريب ولا يُجزم به ولا يُقطع به إلا أنه الذي نعلمه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (بُعثت أنا والساعة كهاتين) كناية عن قُرب الساعة لمبعث النبي صلى الله عليه وسلم.
 وجاء في الحديث (ويل للعرب من شر قد اقترب اليوم فُتِح من سدّ يأجوج ومأجوج هكذا وحلّق بالسبابة والإبهام )
وأيضا جاء في حديث خالد بن عُمير قال (خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فحِمد الله وأثنى عليه ثم قال: فإن الدنيا قد آذنت بصرم وولت حذاء ولم يبق منها إلا صبابة كصبابة الإناء يتصابها صاحبها وإنكم منتقلون منها إلى دار لا زوال لها فانتقلوا منها بخير ما يحضرنكم فإنه قد ذُكر لنا أن الحجر يُلقى من شفير جهنم فيهوي فيها سبعين عاما ما يُدرك لها قعرا والله لتملؤنه أفعجبتم، والله لقد ذُكر لنا أن ما بين مصراعي الجنة مسيرة أربعين عاما وليأتين عليه يوم وهو كظيظ من الزحام)
وفي حديث عبد الرحمن السُلمي قال نزلنا المدائن فكنا منها على فرسخ فجاءت الجمعة قال حضر أبي وحضرت معه فخطبنا حذيفة فقال: ألا إن الله يقول (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) ألا وإن الساعة قد اقتربت ألا وإن القمر قد انشقّ ألا وإن الدنيا قد آذنت بفراق ألا وإن اليوم المضمار وغدا السباق. فقلت لأبي أيستبق الناس غدا؟ فقال يا بني إنك لجاهل إنما هو السباق بالأعمال. وهذا دليل على أن ذلك من العِظة والتذكير للناس أن الساعة اقتربت فباردوا بالأعمال.
وقد يقول قائل إن ذلك في أقوام ماتوا وجاء بعدهم أقوام وماتوا وجاء بعدهم أقوام وماتوا فأي شيء تكون العِظة لاقتراب الساعة وقد توالت الأجيال والعصور ولم تقم الساعة فما هي لهم تلك؟ وهل تقوم الساعة؟ وهل نُوعظ بالساعة وهي لا تقوم فينا؟
إذا عُرفت علامات للساعة تكون قبل قيامها واليوم هناك آثار تدل على أن الساعة لا تقوم هذه الأيام أو لا تقوم في هذه السنين. إذا نظرنا إلى الأحداث التي أخبر عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل قيام الساعة أنه لا تقوم الساعة -مثلا- وفي مكة جبل، لا تقوم الساعة -مثلا- إلا على شرار القوم ، لا تقوم الساعة والقرآن يُقرأ ويُتلى وهو في السطور والصدور، لا تقوم الساعة والكعبة قائمة لأن الكعبة قيام للناس. فهذه أحداث وأمور ظاهرة موجودة محمية محفوظة زوالها ليس بقريب -فيما يُرى- فهل معنى ذلك أن الساعة ليست في هذه الأيام أو السنين القريبة منا؟ يُقال نعم، يُقال فأي شيء في التحذير منها لنا نحن؟
الذي حذّر النبي صلى الله عليه وسلم ربُه من الساعة وهو يعلم أنه يموت قبلها، والصحابة كذلك حذّرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يعلم أنهم يموتون قبلها حتى قال إنه لا يأتي على الناس مئة سنة وفيها نفس منفوسه -يعني فيه ناس باقين- من الذين حدّث النبي صلى الله عليه وسلم وهو فيهم. وبالفعل ما جاءت مئة سنة إلا وقد مات كل من سمِع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مقاله ذاك. فإذا التحذير بالساعة والترهيب بالساعة والتخويف بالساعة لا لأنها تقوم عليهم وإنما التحذير بأنها اقتربت واقترب الحساب الذي يكون للناس فيها وبها وهذا مُشعِرٌ بصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أخبر به لأنه أظهرهم على آية من الآيات وهذه الآية رأوها ومع أنهم رأوها إلا انهم كذبوا بها ولم تُغنِ عن كافرهم شيئا وإنما أغنت مؤمنهم. فكذلك سائر الآيات التي كان يمكن أن تكون كمثل انشقاق القمر لو أن النبي صلى الله عليه وسلم ما جاء إلا بمثلها لم يبقَ لنا آية ننظر إليها ونعرِف بها صدق نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ولذلك فإن القرآن ما جاء أو أخبرنا القرآن أن النبي صلى الله عليه وسلم ليست هذه الآيات هي آياته المعجزات وإن كانت قد حدثت لأولئك في عصره إلا أنها لا تُذكر بالنسبة إلى معجزاته وليست بشيء بالنسبة إلى معجزة القرآن لأن معجزة القرآن هي معجزة النبي صلى الله عليه وسلم الخالدة التي جاء بها إلى الناس قال الله جل وعلا (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَٰذَا الْقُرْآنُ لِأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ) فهذه هي معجزة النبي صلى الله عليه وسلم. وقد جاء في آيات أن الله جل وعلا لم يستجب لطلبهم للآيات، الآيات المعجزات التي يريدون أن يروها قال تعالى (وَإِذْ قَالُواْ اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) وقال تعالى (وَقَالُوا لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنبُوعًا) (قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلَّا بَشَرًا رَّسُولًا) يعني النبي صلى الله عليه وسلم ما أجابهم لما طلبوا من الآيات، وطلبوا هذه الآيات كثيرا (أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا) فهذه الطلبات طلبوها كثيرا ومع ذلك ما أُجيبوا لها إنما كانت معجزة النبي صلى الله عليه وسلم هي المعجزة البالغة الخالدة، والحمد لله أن الله جل وعلا لم يُجِب إلى ذلك، لماذا؟ جاء بيان السبب في أن الله سبحانه وتعالى لم يُجبهم إلى ما طلبوا، جاء بيان ذلك أنهم لو رأوا آية لن يؤمنوا بها قال الله جل وعلا ( وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا) فلذلك لم يوالِ الله عليهم الآيات لأنها كفتهم الآيات من أمثال هذا الآيات السابقة، كفتهم الآيات السابقة من أمثال هذا وسنتحدث عنه في وقته إن شاء الله.
/ قال الله جل وعل (وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ) يعني إن ذلك الذي تأتينا به سحر مستمر .. سِحر دائم .. سِحر مستمر، وقالوا سِحر مرٌ مستمر يعني من المرارة أو أنه سِحر مُستمِر يعني دائم، أو سِحر مستمر سِحر طويل بالغ الأثر عامّ شامل فلذلك لن نؤمن به.
/ (وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ) كذبوا بالحق حينما رأوه وجاءهم، (وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ) التي أمرتهم بالباطل وإلا فإن ما يتبِعونه ضلال مُبين، يعبدون أصناما آلهة من دون الله جل وعلا ويدعُون ما يرونه من الحقيقة المعجزة الباهرة الظاهرة.
/ قال الله جل وعلا (وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ)
قال قتادة: معناها أن الخير واقع بأهل الخير والشر واقع بأهل الشر.
وقال ابن جريج: مُستقِرٌ بأهله.
وقال مجاهد: (وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ) أي يوم القيامة سيستقِرّ الأمر.
وقال السّدي: مُستقِر أي واقع.
/ أقول: (وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ) لعل المعنى وكل أمر من الحقّ مما جاء به الأنبياء مُستقِر باقٍ وما كانت عليه تلك الأقوام من الكُفر والشِرك بائد منقشع لن يبقى له قرار كمثل ما قال الله جل وعلا أو كمثل ما ضرب الله جل وعلا للحق والباطل .. وللكلمة الطيبة وللكلمة الخبيثة فأما الحق فيمكث في الأرض وأما الباطل فيذهب جفاء كما قال الله سبحانه وتعالى قال (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ) يمكث في الأرض يعني يستقِّر، ما الذي يستقِّر؟ الحق. ما الذي يذهب جفاء ؟ الباطل . ولذا لما قال الله جل وعلا (وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ) قال (وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ) يعني كأنما الختام للحقِّ وهذا تمهيد لما سيذكره الله جل وعلا من الآيات والأنباء المُحكمات التي جاء بها النبي صلى الله عليه وسلم وأخبر بها في القرآن جُملة وتفصيلا، ثم هي ستأتي أيضا خبرا في هذه السورة وامضة سريعة خاطفة وهي قصص الأنبياء التي كان لها القرار وهي الأمر من الله جل وعلا وهو شأن التوحيد وأمر التوحيد وهو المُستقِّر الباقي فلا تقلق يا محمد فإنّا حافظون لهذا الدِّين وإنا مُثبتون لهذا الدِّين وهو الباقي القارّ المُستقِّر في الأرض وما سواه سيزول وإن كان له بريق. وفرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا ومع ذلك ما كان له قرار. وقارون علا بماله وطغى وتكبر فما كان له من قرار. وغير هؤلاء من جميع الأمم بجبروتهم وبطشهم وقوتهم فكل ما عندهم من قوة إذا كانت بالباطل فإنه لا قرار لها. من أين يذهب هذا الباطل؟ يتبخر كما يتبخر الزبد وينكشف كما ينكشف السراب لأنه لا حقيقة له إنما الحقيقة التي تقِر وتستقر في النفوس هي حقيقة التوحيد التي جاءت بها الرسل ولذلك جاء بعدها قوله تعالى (وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ) أي ما فيه واعظ لهم عن الشرك والتمادي على التكذيب . وقوله (ولقد) تأكيد ولا يكون التأكيد إلا في مقابل التكذيب فما هو الذي كذبوا به؟ كذبوا بالحقيقة التي جاء بها الرسل وهي التي تستقر وتثبت في الأرض. والله أعلم.
 / قال الله جل وعلا (حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ) حكمة بالغة الحكمة فيمن هداه الله جل وعلا إذا شاء وأضلّ من أضلّ إذا شاء وذلك حكمة من الله سبحانه وتعالى وله الحُكم والأمر يهدي من يشاء ويُضِل من يشاء.
 / قال سبحانه (فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ) يعني النُذُر (ما تُغنِ) "ما" هنا إما أن تكون ما النافية يعني ما تُغنِ لا تُغنِ إذا لم يشأ الله هداية القوم فالنُذُر لا تُغنيهم وهذا كأنما فيه رد عليهم حينما طلبوا الآيات، هم الذين طلبوا الآية قالوا أعطنا آية فلما طلبوا الآيات وجاءتهم الآية ثم لم يؤمنوا بها قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم ما تُغنِ النُذُر لو جئتهم بآية لا يؤمنوا بها وإن تأتهم كل آية لا يؤمنوا بها.. ما يؤمنون فلذلك قال (فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ) يعني لا تُغني عنهم النُذُر . أو يمكن أن تكون "ما" هنا على الاستفهام (فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ) يعني فهل تُغني النُذُر بمعنى "هل"، و "هل" هنا استفهام إنكاري ، "هل" هنا استفهام استنكاري يعني من غلبت عليه الشقاوة وختم الله على قلبه فإن الله لا يهديه فمن يهديه من بعد الله ؟! لا يهديه أحد ولو جاءتهم الآيات لا يُغنيهم شيء كما قال الله جل وعلا  (فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ) الذين لا يؤمنون لا تُغنِ عنهم الآيات والنُذُر شيئا.
 وهذا الكلام وإن كان وُجِّه للنبي صلى الله عليه وسلم فهو كذلك لكل من سار على نهجه، المكذبون يسيرون على نهج المكذبين، والضُلال يسيرون على نهج الضُلال في كل العصور، والدعاة والمهتدون يسيرون على نهج الرسل والمهتدين في كل العصور.
 فمن يقرأ القرآن قد يقول طيب أنا اقرأ القرآن الآن هذه أمور حدثت وكذا ماذا استفيد منها؟ تستفيد منها العِبر .. تستفيد منها أنك تسير على نفس المسار .. نفس الطريق، كل الناس ستكون هذه الطُرُق لهم نماذج بدليل أن الله جل وعلا قال (وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ * حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ) يعني هذه الأنباء التي جاءتهم كأنها لهم لأنهم يرونها قال (وَإِنَكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِم مُّصْبِحِينَ * وَبِاللَّيْلِ) تمرون عليهم وترونهم، ترون الآثار، ترون قوم عاد وآثارهم وترون ثمود وآثارهم، وترون لوطا وآثارهم، وترون فرعون وآثاره ترون هذه القرون أُهلكت وترونها وترون أن الحقيقة والقرار لا تثبُت إلا للأنبياء والرسل وإن كانوا قِلة وإن كانوا مطرودين وإن كانوا مُبعدين وإن كانوا… و….و….الخ لكن الذي يبقى قوله والذي يثبت هو حامل تلك الراية ذاك المِشعل هو الذي يثبت فإن الذي يحمل المشعل ويحمل الراية يكون القول قوله والذين يتبعونه ينجون لكن لا يبقى لهم تاريخ، لا يبقى لهم ذِكر، صحيح يكون لهم نجاة، النجاة للمؤمنين والذِكر للمُبلغين حاملي الرسالات، الذين يُبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله، الله جل وعلا حسيبهم كفى بالله حسيبا، ولذلك لما خرج قوم موسى مع موسى وتبِعهم فرعون وجنوده ماذا قالوا؟ قالوا ( إِنَّا لَمُدْرَكُونَ) قال موسى (كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ) ما قال “إن معنا ربي‘‘ قال  (إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ) لِم؟ لأنه هو صاحب اليقين ، هو حامل الراية .. هو المُنذِر .. هو المُبلِّغ، ولذلك النُذُر أصحابها ، أصحاب النُذُر الحاملون لواءهم الذين يبقى ذِكرهم. الآن -مثلا- شيخ الإسلام ابن تيمية تعتقدون ما كان في عصرِه أمثاله من العُبّاد؟! فيه أمثاله وأكثر منه أيضا لكن لم يبقَ لهم ذِكر، شيخ الإسلام بلّغ هذه الدعوة وحمل لواءها، على قدر ما أُذي وحُورِب إلا أنه بقي له ذِكر، قد كان يأتي شيخ الإسلام من اللأواء والصعوبة حتى يصعُب عليه أن يقرأ القرآن .. يأمر أحد يقرأ عليه ما يستطيع أن يقرأ القرآن من كثرت ما كِيد له، كادوا له بالسحِر .. كادوا له بالسجن وكادوا له بكل وسيلة وشغّبوا عليه وكفّروه ومقتوه وسبّوه على المنابر وأحرقوا كُتُبه ومع ذلك بقي. هكذا أشخاص أمثاله كم من المُبرزين أعيان معدودين تجدينهم مذكورة أسماؤهم في الكتب، مجموع تُراثهم، يُشار إليهم، بل إنها تُبنى مساجد اليوم في هذا العصر وتُسمّى بأسمائهم ، كم مسجد لمحمد بن عبد الوهاب، كم مسجد لشيخ الإسلام ابن تيمية، كم مسجد لأحمد بن حنبل، كم مسجد لأبي حنيفة، كم مسجد للبخاري، كم .. كم.. وكم، كم مسجد لابن باز، أنا أعلم ابن باز لما مات ما عنده شيء من مال لكن مع ذلك والله لما ذهبت إلى سيريلانكا وجدت دار الإمام ابن باز وأنا يقينا أعلم أنه يمكن ما له يد في ذلك إلا أن يشاء الله. يمكن تذهبين إلى أمريكا وتجدين مسجد ابن باز، وتذهبين إلى الصين تجدين مسجد ابن باز، وتذهبين إلى باكستان تجدين مسجد ابن باز، الله جل وعلا يحفظ للذين يحملون راية دينه، يحفظ لهم لأنهم حملوا اللواء فجعل الله لهم من يرفع ذِكرهم، ولذلك إبراهيم عليه السلام قال (وَاجْعَــــلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ) فجعله الله له، تبقى أسماؤهم، ولذلك فالداعي إلى الله جل وعلا لا يأبه بالمُخالفين ولا بالمُعارضين وهذا الذي يأمره به ربه ويقول له ( فَتَوَلَّ عَنْهُمْ) لا تُشغِل نفسك بهم، ارفع راية هذا الدِّين وينضوي تحتها من ينضوي لو واحد (يأتي يوم النبيّ ومعه الفئام من الناس ويأتي النبيّ ومعه العشرة ويأتي النبيّ ومعه ثلاثة  ويأتي النبيّ ومعه اثنان  ويأتي النبيّ ومعه واحد  ويأتي النبيّ ما معه أحد) نبيّ وحامل لواء وما معه أحد، ما تحت رايته أحد، وواحد من أمة محمد صلى الله عليه وسلم يدخُل الجنة به كقبيلة ربيعة ومُضر -بشفاعته- واحد من أمة محمد صلى الله عليه وسلم ماهو بنبيّ، الله أعلم من هو. فهكذا ترين أن -سبحان الله العظيم- حملُ الراية ليس بالأمر الهين، الدُعاة إلى الله جل وعلا الذين يُبلِّغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله، الله جل وعلا يقول (وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا).
/ قال ( فَتَوَلَّ عَنْهُمْ)  يا محمد تولَّ عنهم، والتولي عنهم ليس معنى ذلك يعني لا تدعُهم، لا .. لكن لا تحزن عليهم .. لا يُشغِلوا قلبك .. لا يهمُوك .. لن يضِيروك .. لا تنظر في أقوالهم ولا تستمِع إلى شُبُهاتهم ولا تقُل قالوا وقالوا. محمد صلى الله عليه وسلم تأتيه عائشة رضي الله تعالى عنها      

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق