أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
{ إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ }[البقرة:158].
طبعًا – أيها الأخوة – تُلاحظون نحن لا نفصل في التفسير، لو فصلنا في الفوائد والتفسير والاستنباطات لأخذ الوقت وقتًا أطول.
آية الصفا والمروة – أيها الأخوة – ذكر الله سبحانه وتعالى هذا الجبل جبلي الصفا والمروة، وهم جبلان – كما تعلمون – قريبان من الكعبة، ولهما قصة، أول يعني كانت قصة هاجر عندما كانت تجري بين الصفا وبين المروة وطبعًا قبل أن تُصبح ممهدة كما تلاحظونها، كان واديًا، كانت تجري تصعد إلى فوق الصفا وتنظر وتُنادي لعلها ترى أحدًا، لأن ابنها إسماعيل يقتله العطش، فلا ترى أحدًا فتجري في الوادي حتى تبلغ الصفا أو المروة ثم تنظر وفعلت ذلك عدة مرات. هذا هو كان أصل فريضة هذه الفريضة العظيمة وهي السعي بين الصفا والمروة.
الله سبحانه وتعالى يقول هنا: { إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ}، انظروا – أيها الأخوة – جعل الله سبحانه وتعالى هذه القصة التي كانت لهاجر من شعائر الله التي يُتعبد لله عندها إلى اليوم.
{ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا}هذه الآية غريبة، ولا يُمكن أن يُفهم معناها إلا إذا عرفنا سبب النزول كيف؟ نحن نعرف الآن أنه يجب علينا إذا ذهبنا للعمرة أو الحج، يجب علينا أن نسعى بين الصفا والمروة، فكيف تقول لنا: لا جناح عليه أن يطوف !! كأن أقول لك الآن: إذا ذهبت إلى المسجد فلا حرج عليك أن تُصلي الظهر. كيف لا حرج علي أن أُصلي الظهر؟! يجب علي أن أُصلي الظهر. فالتعبير هذا له قصة ، ولذلك أشكل حتى على بعض الصحابة فجاء أحدهم إلى عائشة رضي الله عنها قال: يا أم المؤمنين كيف يقول الله سبحانه وتعالى : { إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا}، لعله لو قال: (فلا جناح عليه ألا يطوّف بهما)؟ قالت: ليس كذلك يا ابن أخي ، إنه كان العرب في الجاهلية، كان هناك رجل واحد اسمه إساف وامرأة اسمها نائلة، وكان من قصتهما أنهما وقعا في الفاحشة في الحرم، فمسخهما الله سبحانه وتعالى حجرين، أحدهما على الصفا والآخر على المروة - صنمين- ولذلك كانت العرب تعرف هذا في الجاهلية، فكان أحدهما اسمه إساف وأحدهما اسمه نائلة، وكانت العرب في الجاهلية تُعظمهما -مع أن قصتهما قصة مُخزية- فلما جاء الإسلام هُدما هذين الصنمين، وبقي في نفس المسلمين حرج أن يسعوا بين الصفا والمروة مع أن الصنمين هذه كانت موجودة، وهم يعلمون أن الإسلام قد جاء بهدم الأصنام وهدم آثارها وكل ما يتعلق بها، فأراد الله سبحانه وتعالى أن يُزيل هذا الحرج من النفوس ويقول للناس: الصفا والمروة من شعائر الله والذي عرض في تاريخها من وجود هذين الصنمين لا يُؤثر في عظمتهما وفي تعظيمهما. الكعبة نفسها كانت الأصنام حولها، وقد هدمنا الأصنام ونحن نطوف فكذلك الصفا والمروة، فهذه الآية تُشير إلى هذا الحرج {فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا}، وإلا فهما ركنان من أركان الحج والعمرة كما تعلمون.
إذًا أهم فائدة من فوائد هذه الآية العظيمة: أن السعي بين الصفا والمروة واجب ونُسك.
وطبعًا هذه فيها فائدة لابد أذكرها لكم وإن لم تكن من الأحكام المتعلقة كيف؟
وهي أن هذه الآية جاء بعدها آية عظيمة { إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ }[البقرة:159] هذه الآية تُشير إلى مسألة ذكرها الإمام الفراهي – رحمه الله – وأعجبتني وهي: أن الصفا والمروة هي علامة على إسماعيل بن إبراهيم الخليل، ولكن اليهود يُريدون أن يمحو هذا الشرف عن إسماعيل بن إبراهيم وينسبونه إلى إسحاق بن إبراهيم وهي قصة الذبح التي ذكرها الله في سورة الصافات، فالله ذكر لنا في سورة الصافات أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام قال لأحد أبنائه: { إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى }[الصافات:102]، ولم يُصرِّح لنا باسم هذا الابن هل هو إسماعيل أو إسحاق، فالجمهور من العلماء يقولون: أنه إسماعيل لأن إسماعيل هو الذي عاش في مكة، والصفا والمروة وبناء البيت وكل ما يتعلق به هذه قصة إسماعيل لم يُشارك فيها إسحاق، بل إن الله سبحانه وتعالى عندما صدق إبراهيم مع ربه وأراد أن يذبح ابنه إسماعيل وهو ابنه الوحيد قال الله سبحانه وتعالى : { قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ}[الصافات:105] ، { وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ }[الصافات:107]، وقال: { وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ }[الصافات:112] ، فبشارته بإسحاق مكافأة على نجاحه في الاختبار مع إسماعيل.
اليهود يقولون: لا، إسحاق، طيب ماذا تقولون في الصفا والمروة هذه؟ قالوا غيروها وبدلوها.
ولذلك هذه الآية – أيها الأخوة – أكثر آية تعرضت للتحريف عند اليهود، لأن ورد في كتاب التوراة قصة المروة كلمة المروة بالذات، جبل المروة، اذهبوا وانظروا كيف حرفوها في التوراة، مارية .. مراوة، سموها بأسماء كثيرة.
قال الفراهي: فناسب أن يأتي بعدها بآية النهي عن كتمان العلم فقال: { إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ }[البقرة:159] ، يُشير إلى اليهود الذين يُحاولون كتمان دلالة أن النبي صلى الله عليه وسلم إسماعيل وذريته الذين هم محمد عليه الصلاة والسلام هم أصحاب الشرف الذي ذكره الله في سورة الصافات.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم { إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ }[البقرة:173].
هذه الآية – أيها الأخوة – ابتدأت بصيغة الحصر { إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ} فقد يفهم الذي يقرأ هذه الآية أن المحرمات هي هذه المحصورة فقط، والصحيح : أن المحرمات أكثر من ذلك، فقد ورد في القرآن الكريم محرمات أخرى غير هذه التي ذكرها الله هنا، لكن كأن الله سبحانه وتعالى يقول: هذه من أعظم المحرمات، حتى كأنه لا يوجد محرمات إلا هذه المحرمات، فهذه فائدة الحصر في الآية، وليست دليلًا على أن المحرمات محصورة في هذه المذكورات في الآية.
فالله سبحانه وتعالى يقول: إنما حرم عليكم من الأطعمة الميتة ، والمقصود بها ما ماتت دون ذكاةٍ شرعية، يعني الآن الخروف يجوز أكله، لكن إذا مات حتف أنفه فإنه يحرُم. فقال: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ}، الميتة هي: ما ماتت حتف أنفها بغير ذكاةٍ شرعية.
وقد ذكر الله سبحانه وتعالى من أنواع الميتة في سورة المائدة ستأتي معكم.
وهذه فائدة أذكرها لهم على السريع في آيات الأحكام : أن آيات الأحكام أكثرها وردت في المدينة والقليل منها ورد في مكة المكرمة لأن المدينة لما انتقل النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة استقرت الدولة فشُرعت الأحكام: الصيام والحج والمعاملات، ولذلك سورة البقرة التي معنا اليوم مليئة بالأحكام لأنها نزلت في المدينة، ومثلها سورة المائدة مليئة بالأحكام ستأتي معكم.
وأيضًا من فوائد هذا: أن الآيات التي وردت في المدينة في الغالب تكون ناسخة لما نزل في مكة من الأحكام ، في بعض الأحكام مثل الخمر وما يتعلق بها.
قال: { وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ} المقصود بتحريم الدم هنا الدم، الدم نفسه لا يجوز شربه ولا يجوز أكله إذا تخثر ، واستثنى النبي صلى الله عليه وسلم من هذه الآية استثنى دمين وميتتين ، الله يقول: { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} وهذه لفظةٌ عامة الميتة ، الألف واللام تدل على الاستغراق، يعني كل ميتة فهي محرمة. النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أحلت لنا ميتتان ودمان»، فالميتة ما هي؟ قال: «السمك والجراد» فأنت الآن إذا وجدت سمكة مرمية على شاطئ البحر، فيجوز لك أن تأكلها، والجراد أيضًا يجوز أن تأكله وهو ميت لأنه أباحه النبي صلى الله عليه وسلم ، وقال: «وأُحل لنا دمان قال: الكبد والطحال»، لاحظوا هذه فائدة مهمة، ولو كان الوقت يسمح لفصلنا تفصيل دقيق فيها، كيف؟
استدلالات الأصوليين بالقواعد لها أدلتها، فمثلًا: الآن عندما يقول الله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} الأصوليون يقولون: أن الألف واللام للاستغراق ، فإذا دخلت الألف واللام على مفردة دل على أنها عامة، صحيح فعلًا بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم استثنى منها فقال: «أُحلت لنا ميتتان» فيُفهم من كلامه أن ما سوى هاتين الثنتين محرم بدلالة هذه الآية.
قال هنا: { وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ} لاحظوا هنا كيف خصّص لحم الخنزير، لحم الخنزير مُحرم – أيها الأخوة – والعلماء يقيسون على لحم الخنزير شحمه وما يتعلق به، ولا يجيزون الانتفاع من الخنزير بشيء، إلا بعضهم أجاز الانتفاع بشعره في الخرز إنك تخيط به شيء، يبدوا أن شعر الخنزير مُفيد فيما يتعلق بالخياطة أو كذا. وإلا الله سبحانه وتعالى خصّص اللحم هنا، ولذلك يسألون لماذا خصّ لحم الخنزير؟ والصحيح أنه خصصه لأنه الغالب الذي يأكله الناس.
{وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} محرم أيضًا، يعني الذي لم يذكر اسم الله عليه، يأتي أحدهم يذبح خروفا ويقول: باسم أبي ، وإلا باسم جدي ، وإلا باسم هُبل ولا باسم اللات والعزى؛ مُحرم لأنه ذُكر عليه غير اسم الله، ونهى الله سبحانه وتعالى قال: { وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ}، طيب.
ثم قال في آخر الآية -ولاحظوا هذا من يسر الشريعة العظيم ، وهي قاعدة استنبطها الفقهاء قالوا: <الضرورات تُبيح المحظورات>، فمع الاضطرار لا يُوجد محرم، يجوز أن تأكل من هذه الأشياء التي ذكرها الله في حال الاضطرار لكن بشرطين قال: { فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ} غير باغٍ يعني ظالم. يعني بعض الناس يقول: والله أنا مضطر وهو ليس كذلك، فأنت أعلم بنفسك أنت مضطر أو غير مضطر، والمضطر هو الذي أشرف على الهلاك، ليس واحد والله اشتهى أكلا ما فقال: ما فيه أكل، أجل يجوز لي أن آكل ميتة .. لا، وإنما المضطر هو الذي أشرف على الهلاك، فغير باغٍ المقصود بها يعني غير ظالمٍ لنفسه بأنه مضطر وهو ليس كذلك.
{وَلا عَادٍ}، المقصود متجاوز، فكونه مضطر لا يعني أن يأكل من هذه الميتة حتى يشبع .. لا، وإنما المقصود أن تأكل بقدر ما تدفع به الضرورة.
من أهم الأحكام التي نستنبطها: جواز أكل جميع حيوانات البحر حيها وميتها، وبعضهم استثنى منها ما كان مماثلًا للمحرمات من حيوانات البر، يعني خنزير البحر محرم لأنه محرم خنزير البر، وهذا أيضًا فيه نظر الحقيقة، لأنه الأصل كما قال الله سبحانه وتعالى : { أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ}[المائدة:96].
ومن فوائد هذه الآية: تحريم الدم وأكله إلا ما خالط اللحم كما ذكره الله سبحانه وتعالى {وَمَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ} ، وكذلك الكبد والطُحال مُجمع على جوازه لدلالة حديث النبي صلى الله عليه وسلم ، وأيضًا في حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي ذكرته لكم هذا دلالة على أن السنة النبوية تستقل بالتشريع، الله سبحانه وتعالى يُحرم أشياء، والنبي صلى الله عليه وسلم يُحرم أشياء مختلفة، كما حرم مثلًا كل ذي نابٍ من السباع، وكل ذي مخلبٍ من الطير فوق المحرمات التي ذكرها الله سبحانه وتعالى.
ومن فوائد الآية أيضًا: أن الخنزير مُحرم كله شحمه ولحمه -وكما قلت لكم- إلا الخرازة بشعره فبعض العلماء أجازها.
ومن فوائد هذه الآية وأحكامها: أن المضطر يأكل بقدر ما يسُدّ به رمقه لقوله تعالى: {وَلا عَادٍ}، يعني معتدٍ لحد الضرورة.
------------------------------------------------------------------------
جزى الله من قام بالتفريغ وقد نقلته (بتصرف يسير)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق