إن الحمدلله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه و سلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد ..
ليلة القدر هي أفضل ليلة في العام (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ) هذه الليلة المباركة هي المذكورة في سورة القدر وذلك قوله تعالى ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) فنوه الله تبارك وتعالى بهذه الليلة ونوه بالقرآن الذي نزّله فيها ، نوه بالقرآن بأن جاء الضمير في الآية إلى غير مذكور وإنما يُفهم من السياق ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ) فذلك لنباهته وشهرته فهو يتعين من غير تصريح.
(إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ) ثم إنه أضاف الإنزال إلى نفسه وذلك لاختصاصه به فهو كلامه سبحانه وتعالى .. وجعل هذا الإنزال في ليلة القدر وذلك أيضا شرف ثالث ومزية ..وهكذا هي الليلة المباركة، فهذا يرجع إلى القرآن ، وأما هذه الليلة فالدال على شرفها من هذه السورة ومن صدر سورة الدخان وغير ذلك كثير. فالله تبارك وتعالى ذكر أنه أنزل فيها القرآن (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) وفي الدخان (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ) فهي ليلة مباركة .. كثيرة البركات، فالبركة فيها مطلقة فتُحمل على أعم معانيها ولا يُخصّ ذلك بنوع دون نوع، فهي ليلة مباركة في لحظاتها وفيما يتنزّل فيها وفيما يجري فيها ، وفي ألطاف الله تبارك وتعالى التي تحتف بالعباد وما يحصل من تنزّل الملائكة ، وما يحصل من تعظيم الحسنات وتكثيرها، وما يحصل فيها من رحمات الله عز وجل ونفحاته وما يُعتقه من العباد من النار.
/ ( إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ) فهذه الليلة مباركة وهي ليلة القدر وهو مأخوذ من التقدير ، تقول : "قدَرَ الله الأمر فهو يقدُرُه قدرا" فالقدر ليلة التقدير .
وهذا التفسير الذي عامة أهل العلم وهو اختيار كبير المفسرين أبو جعفر ابن جرير وكثير من أهل العلم يفسره ويوضحه قوله تبارك وتعالى (فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ) فهذا معنى ليلة القدر ، يُفرق أي: يُفصل (كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ*أَمْرًا مِّنْ عِندِنَا ).
وبعض أهل العلم يقولون إن ليلة القدر سميت بذلك لأن لها منزلة وشرف فهي ليلة عظيمة ذات قدر ، ذات منزلة.
وهذا المعنى جمع معه بعض أهل العلم المعنى الأول، ممن قال به من المتأخرين الشيخ عبدالرحمن بن سعدي ، الشيخ بن عثيمين -رحم الله الجميع- قالوا لا منافاة ، فهي ليلة القدر التي يفصل فيها الله عز وجل ويقضي، ليلة الحُكم والفصل. وأيضا لها قدر ومنزلة.
فصارت بهذه المثابة وما يحصل فيها من الأجور والألطاف الربانية.
و بعض أهل العلم يقولون في تفسير ذلك غير ما ذكرنا.
/ ليلة القدر : بعضهم يقول ليلة القدر بمعنى الضيق من (قدر عليه رزقه) ضُيق عليه رزقه، يقولون يضيق الفضاء من الملائكة التي تنزل (تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ ) الروح جبريل عليه الصلاه والسلام ، تتنزل الملائكة حتى يضيق الفضاء من كثرتهم.
فبعض أهل العلم قال هذا. ولكنه بعيد ، والأقرب أن يُفسر ذلك بما قال الله عز وجل (فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ).
فالمقصود أن هذا يدل على شرفها أيضا.
ثم سُميت بها سورة من القرآن [سورة القدر] ، ثم إن الله تبارك وتعالى جاء بهذه الصيغة في الاستفهام الذي يدل على فضلها وعظم شأنها، قال لأشرف رسول عليه الصلاه والسلام ( وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ ) تقول لإنسان ليتشوف إلى أمر ويتبين منزلته ومرتبته وما أدراك ما كذا؟ ( وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ ) ثم بين هذا بقوله (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ ).
وهذه أيضا مما يدل على شرفها، أفضل ، فان (خير) هنا بمعنى أفعل التفضيل، فان خير و شر تأتي بهذه الصيغة مرادا بها التفضيل.
فهذه خير من ألف شهر ، يعني أفضل من ألف شهر، وتدرون كم يبلغ هذا؟!
الليالي في هذه الأيام منذ غروب الشمس إلى طلوع الفجر لا تبلغ عشر ساعات ، هي أقل من عشر ساعات، وليلة القدر -كغيرها- تبدأ من غروب الشمس ، و تبدأ فيها هذه الفضائل منذ غروب الشمس فتكون قد دخلت إلى طلوع الفجر الثاني فلو جبرنا الكسر -مع أن هذا مقام لا تُجبر فيه الكسور لأن اللحظات والثواني لها شأن- لكن لو جبرنا الكسر و قلنا أنها عشر ساعات فهذه ستون دقيقة ، فألف شهر تبلغ ثلاثا وثمانين سنة ، وقد تزيد على ذلك.
فتكون الساعة بثمان سنوات ، ونصف الساعة بأربع سنوات ، و ربع الساعة بسنتين، والخمس دقائق بثمانية أشهر ، والدقيقة الواحدة بألف ومئتين ساعة أي بخمسين يوما.
لو قيل للناس انصرفوا إلى أعمالكم في اليوم الفلاني والعمل الدقيقة بخمسين يوم ، والساعة بثمان سنوات -وعليكم الحساب- اشتغل ثمان ساعات ولك أن تزيد إلى عشر، أو اشتغل ساعة واحدة أو دقيقة.
هل تظنون أن أحدا يتباطأ في ذلك اليوم فلا يخرج إلى عمله؟؟
هل تظنون أن أحدا يمكن ان يقضي شيئا من الوقت في الحديث مع زيد وعمر، ويضيع وقته هنا وهناك؟؟
أبدا هذا لا يمكن. لكن ضعف اليقين هو الذي يقعدنا .
وأنا لا زلت أذكروا مرأى رأيته منذ كنت طالبا في الثانوية، كنا ندرس في نظام الساعات وكانت الأنشطة تُسجل مثل المواد ويعطى عليها في النهاية شهادات ، فكنت أدرس في مادة من النشاط يقال لها الآلة الكاتبة -تعليم الآلة الكاتبة- فلما جاء الاختبار في نهاية الفصل أعطانا الأستاذ قطعة ثم قال سأعُدّ إلى الثلاثة ثم يبدأ الجميع -فصل دراسي كل واحد أمامه آلة كاتبة ثم يُقيّم كل واحد بالمدة التي كتب فيها، النتيجة تكتب في شهادته أنه يستطيع أن يكتب في الدقيقة كذا. فلما بدا العدّ -وفي القاعة ما يقرب من 20 طالبا- رأيت أمرا هائلا ، كأن الناس قد فقدوا عقولهم ، لايلوون على شيء ، في غاية السرعة ، ولا أحد يكلم أحد. فوضعت الورقة وجلست انظر إليهم ، هالتي هذا المشهد !! كيف حرص هؤلاء الناس على هذا مع تضييع أمر الله عز وجل والتفريط فيه، مع أنهم لا يلامون بهذا هذا من حقهم، هو أمر طبيعي لكن لفت نظري إلى أمر آخر ، فنحن نتباطأ عن الصلاة ، نتباطأ عن مثل هذه الليلة -ليلة القدر- ولكن إذا جاء أمر دنيوي لا يترتب عليه حتى نجاح ، هذا الحرص والإقبال والسرعة!! هذا أمر عجيب !!
الإنسان يعتبر بكل ما يشاهده في الحياة وينتفع ويستفيد ويكون ذلك له عبرة في أمور الآخرة وليس المقصود انتقاد هولاء إطلاقا لأن فعلهم لا غبار عليه، لكن هذا يُذكّرنا بأمور أخرى.
فالمقصود أن الله بيّن شرف هذه السورة كما رأيتم (وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ ) أفضل من هذا العدد والحساب الذي حسبته لكم لأنها أفضل من ألف شهر، نحن حسبنا على ألف شهر فهي أفضل من ألف شهر (خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ ) .
/ ثم ذكر مزية أخرى لها (تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا) فـ (تنزّل) يدل على كثرة النزول، لم يقل تنزِل الملائكة قال (تَنَزَّلُ) فهو نزول بعد نزول، تنزل شيئا فشيئا كأنك تشاهده ، والروح هو جبريل ﷺ -على قول الجمهور من المفسرين- وذكره بعد ذكر الملائكة وهو واحد منهم تنويها به، ولأنه أعظم الملائكة فيكون من قبيل عطف الخاص على العام لشرفه والتنويه بذكره ، (تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ) جبريل عليه السلام ينزل في هذه الليلة يتنزلون بماذا؟
(بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ )
(مِنْ كُلِّ أَمْرٍ ) بعض أهل العلم يقول إن (من) هنا بمعنى الباء، فحروف الجر تتناوب "تتنزل بكل أمر أمرهم الله تبارك وتعالى به" وهذا يوضحه على كل حال قوله تبارك وتعالى في سورة الدخان (فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ* أَمْرًا مِّنْ عِندِنَا)
تنزّل هذه الملائكة من الله ، تنزل (مِنْ كُلِّ أَمْرٍ ) يعني كل أمر حكيم (أَمْرًا مِّنْ عِندِنَا) ، (تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ) حكم الله به ، من كل أمر أمرهم الله عز وجل به ، هذه أقوال متقاربة ترجع إلى شيء واحد .
/ ثم ذكر لها مزية أخرى : ( سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) هي سالمة من الآفات والشرور - كما قال كبير المفسرين - ابن جرير رحمه الله ، وقال به كثيرون من السلف فمن بعدهم (سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ).
وبعضهم يقول : إن المقصود بالسلام هنا : تسليم الملائكة على أهل الطاعة والعبادة وعُمّار المساجد ، تُسلّم عليهم إلى طلوع الفجر .
ولكن هذا وإن قال به بعض السلف إلى أن الأول أقرب : أنها سالمة من الآفات والشرور.
وقد يدخل فيه القول الآخر وهو قول من قال بأن المقصود : أنه يسلم الناس فيها من نزغات الشيطان وتزيينه وتسويله وإضلاله، يسلمون فيها من شر الشيطان. فهذا من جملة الشرور على كل حال.
(سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) وهذا يدل على أن نهايتها إلى طلوع الفجر خلافا لمن قال من السلف - كالشعبي- بأن يومها يستتبع ليلتها، أخذا من كون العرب تطلق الليلة وتريد اليوم معها. وهذا الإطلاق وإن كان صحيحا فإن القرينة أحيانا قد تأباه ، فهنا قال ( سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) فحدد هذا إلى طلوع الفجر.
هذه الليلة ذكر فيها الرسول مزية أخرى وهي (من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غُفر له ما تقدم من ذنبه) فيدخل في الإيمان أن الله شرّفها ، أن الله شرّع القيام فيها ، أن الله يضاعف الجزاء للعابدين ، كل ذلك داخل فيه.
(واحتسابا) يحتسب الأجر من الله ، فلا يكون متبرما ولا مستثقلا ، ولا يكون مرائيا له مقاصد فاسدة ، احتسابا : يحتسب ما عند الله من الثواب والأجر. فهنا (من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا) هذه مزية.
ولكن قوله تبارك وتعالى ( لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) المعنى فيه : أن العمل الصالح فيها أفضل من العمل في ألف شهر ، هذا الذي عليه الجمهور وهو اختيار ابن جرير وابن كثير والشيخ عبد الرحمن بن سعدي .. وآخرون. العمل الصالح وهو يشمل : الصلاة ، قراءة القرآن ، الذِكر بأنواعه ، الصدقة ، العمرة ، طواف التطوع، ( خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) ولكن الأفضل أن يشغل الإنسان هذه الليلة بالقيام ليُحصّل ما ذكره النبي ﷺ (من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه) ويستجمع معه قراءة القرآن والذِكر والدعاء فإن هذه الليلة حري أن يُستجاب الدعاء فيها والدليل على ذلك هو أن عائشة رضي الله عنها لما قالت للنبي ﷺ سألته ماذا تدعو إن هي رأت ليلة القدر أو عرفتها فأرشدها إلى أن تقول "اللهم إنك عفو تحب العفو فاعفو عني" فيُكثر الإنسان من هذا.
هذه الأمور الأربعة يمكن أن تجتمع في شيء واحد للعبد فيُحيي هذه الليلة بأن الإنسانيجعل قراءته وذكره ودعاءه في صلاة فيكون قد جمع ذلك في أفضل محل وهو الصلاة.
أكمِل ما سبق بنقاط أربع على سبيل الإيجاز :
الأولى: أن قوله تبارك وتعالى عن ليلة القدر (فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) فهذا الأمر الذي يُفرق فيها ماهو؟
هو الحُكم، فيُقدر الله عز وجل ما يكون في السنة من الآجال والأرزاق والأعمال ..وما إلى ذلك .. حتى أسماء الحجيج. وهذا الذي عليه عامة أهل العلم في تفسيرها ، وهو ظاهر الآية (فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) وبهذا نعلم أن التقدير إنما يكون في ليلة القدر ، لا كما يظنه بعض العامة أنه في ليلة النصف من شعبان، إنما دلّ القرآن على أن هذا التقدير يكون في هذه الليلة الشريفة المباركة (فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) ففيها تُقدّر الأرزاق في السنة والآجال وما إلى ذلك.
ولا يرِد على ذلك ما نعلمه من أن الله تبارك وتعالى قد قدّر مقادير الخلق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة ، إذ إن التقدير أنواع. فذاك تقدير أزلي كتب الله عزوجل في اللوح المحفوظ كل شيء ، كل ذلك في كتاب فهذا الذي لا يتغير ولا يتبدل ولا يُنسخ ، هذا ثابت يقع كما كُتب.
/ والنوع الثاني من التقدير : هو التقدير العُمري حينما يُبعث المَلك إلى الجنين وهو في بطن أمه إذا بلغ أربعة أشهر فيؤمر بأربع كلمات رزقه ، وأجله، وعمله، شقي أو سعيد. أربع كلمات وهو في بطن أمه وذلك يرجع الى ما كُتب في الكتاب الأول في اللوح المحفوظ. فهذا يقال له التقدير العمري ، عمر الإنسان المعين ، ومن ثم فإن الإنسان لا يقلق على الرزق ، لا يأخذ من الحرام ، لا يمكن لأحد من الناس أن يأخذ شيئا من رزقه أبدا ، وإنما يكون في غاية الطمأنينة والرضا.
(فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) على وفق الحكمة ، ما نُسي أحد ، ما ظُلم أحد ، فالإنسان ما يعلم أين الخير.
/ ثم النوع الثالث وهو : التقدير الحولي - في السنة- فهذا الذي يكون في ليلة القدر ، وهذا الذي قال الله فيه (فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ).
وهناك ما يكون في صحف الملائكة فهذا يحصل فيه التغيير ( يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ ۖ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ) الذي هو اللوح المحفوظ ، ذاك لا يتغير ، أما الذي في صُحف الملائكة فيحصل فيه المحو ، وهذا الذي جاءت به الأحاديث ( من سره أن يبسط له في رزقه ويُنسأ له في أثره فليصل رحمه ) أو الدعاء (لا يرد القضاء إلا الدعاء) فيكون هذا الإنسان في اللوح المحفوظ عمره سبعون سنة وفي صحف الملائكة عمره خمسون سنة فيكون الله عز وجل قد قدّر له أن يصِل رحمه فيُنسأ له في الأثر ، فيُغير الذي في صحف الملائكة فيكون يبلغ سبعين سنة (يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ ۖ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ) إذا (فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) في هذه الليلة وليس في ليلة النصف من شعبان.
أما أعمال العبد فلا تُطوى ، هذا تقدير في السنة لكن ليس معنى ذلك طي الأعمال ، لا في ليلة القدر ولا في غيرها ، ولذلك الرسائل التي تُنشر عادة في آخر العام الهجري : "طويت صحيفة عام مضى ، وفُتحت صحيفة عام جديد" هذا الكلام لا أساس له من الصحة ، ما تُطوى ، إنما تُطوى صحيفة الإنسان إذا انتهى العمر ووافى الأجل فهنا تُطوى صحيفته ، أما في مدة حياته فالصحيفة لا تطوى ، مفتوحة يُكتب فيها كل شيء (مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ). وتُرفع الأعمال إلى الله عزوجل في يوم الإثنين والخميس -كما نعلم- والملائكة يتعاقبون ، ملائكة الليل وملائكة النهار ويجتمعون في صلاتي الفجر والعصر ( كيف تركتم عبادي؟ أتيناهم وهم يصلون وتركناهم وهم يصلون) والذي لا يصلي كيف سيكون حاله. هذه الأولى.
/ الثانية : ذكرنا أن عملها (خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) يعني أن العمل الصالح فيها خير من العمل في ألف شهر ليس فيها ليلة قدر وإلا لو كان ألف شهر وفيها ليلة قدر هذا لا يمكن ، هي خير من الف شهر ليس فيها ليلة قدر - يعني في الألف شهر- وهذا صرّح به جمع من السلف فمن بعدهم كمجاهد وعمر بن قيس المُلائي ، قال به ابن جرير وكثيرون. فإذا العمل الصالح فيها بجميع أنواعه. ولذلك الأخوات اللاتي يسألن دائما ويتحسرن أنه جاءها العذر وهي تلتمس ليلة القدر ، فبعض الأخوات تبكي وتقول فاتني خير كثير لعل ذلك بسبب ذنوبي وجناياتي، يقال لها : ليس الأمر كذلك ، فالعمل لا يقتصر على الصلاة، هي مُنعت من الصلاة فقط ولكنها تقرأ القرآن ، تذكر الله عزوجل ، وتتصدق وتعمل جميع أنواع البر ، حتى الذين يصلّون ، نحن نقول جميع أنواع البِر خير من العمل في ألف شهر ، فاليوم يستطيع الإنسان أن يصلي ويعمل أنواعا من البر متنوعة كما قلت فيما يتعلق بالذكر وقراءة القرآن والصلاة أقول والصدقة ، يعني في السابق كان الإنسان يحتاج أن يقضي ليله ربما يطوف على الفقراء من أجل أن يعطي هذا ويعطي هذا ، فنقول الصلاة في ليلة القدر لها مزية ( من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غُفر له ما تقدم من ذنبه) إذا يستطيع الإنسان برسالة جوال أن يحوّل على الجمعيات المتنوعة ويتصدق ويُساهم في أوقاف ويُخرج الزكوات وهو جالس في المسجد ، فهذا سهل ميسور في مثل هذه الأوقات.
/ ثالثا: فيما يتعلق بسر إخفاء هذه الليلة ، ذكرت في السنة الماضية أن العلماء اختلفوا في تحديدها على أربعين قولا مع أن الشهر لا يتجاوز ثلاثين يوما. فالسِّر في إخفائها كما أُخفيت ساعة الجمعة هو - والله أعلم - من أجل أن يجتهد الناس في العمل والتماسها ، فلو أخبروا عن تلك الليلة لكان ذلك سببا لقعودهم عن غيرها ، ولذلك من الخطأ نشر الرسائل التي تقول بأنه رُؤي في الرؤئ أن ليلة القدر في الليلة الفلانية ، فهذا قد يثبط الناس عن الاجتهاد في غير تلك الليلة .
/ رابعا : مالمقصود بإنزال القرآن فيها؟
(إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) ، ( إنا أنزلناه في ليلة مباركة) ، (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) البقرة [١٨٥].
ليس بين هذه الآيات منافاة ، فليلة القدر في رمضان (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) البقرة [١٨٥]. وليلة القدر هي الليلة المباركة.
مالمقصود بالإنزال؟
أقوال أهل العلم في هذا معروفة وهي ثلاثة وهي :
الأول : قول ابن عباس فقد ثبت عنه بأسانيد صحيحة أن القرآن نزل جملة إلى السماء الدنيا في ليلة القدر ثم صار ينزل على النبي ﷺ نجوما. نزل إلى بيت العزة في السماء الدنيا ، وإنما يتلقاه جبريل من الله مباشرة وليس من بيت العزة. لكن الله عظّم كتابه فجعله في اللوح المحفوظ ، وجعله في (صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ * مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ * بِأَيْدِي سَفَرَةٍ* كِرَامٍ بَرَرَةٍ) وهم الملائكة الكرام السفراء بين الله ورسله عليهم الصلاة والسلام. وهو أيضا في بيت العزة ، فهذا كله يرجع إلى تعظيم القرآن. فهذا القول الذي عليه الجمهور وهو القول الراجح.
/ القول الثاني : أنه ابتدئ إنزاله على النبي ﷺ في ليلة القدر.
وهذا القول يمكن أن يُجمع بينه وبين القول الأول فيقال: إنه نزل جملة إلى بيت العزة في ليلة القدر - وهذا لا يُقال من جهة الرأي- يعني ابن عباس لا يقول هذا من جهة الاجتهاد ولا يمكن أن يكون هذا أُخذ من بني إسرائيل ، إذا يكون له حكم الرفع إلى النبي ﷺ ، ويكون أيضا -كما هو الواقع- أول ما نزل على النبي ﷺ كان في رمضان ، بداية نزول القرآن كانت في رمضان ، فيكون قد اجتمع فيه هذا وهذا ، نزل جملة في رمضان في ليلة القدر إلى السماء الدنيا ، وابتدئ إنزاله على النبي ﷺ في ليلة القدر.
/ أما القول الثالث فبعيد -وإن قال به بعض السلف- وهو : أن المقصود (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ) أنه ينزل ما سينزل على النبي ﷺ في السنة، المقدار الذي سينزل في السنة ينزل إلى السماء الدنيا ثم بعد ذلك ينزل نجوما على النبي ﷺ . هذا القول لا دليل عليه.
هذا الذي أردت أن أُنبّه عليه فيما يتصل بليلة القدر . فأسأل الله تبارك وتعالى أن يوفقنا لليلة القدر وقيامها وأن يتقبل منا ومنكم وأن يغفر لنا ولوالدينا ولإخواننا المسلمين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق