الخميس، 2 يوليو 2020

سبب نزول قوله تعالى (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَىٰ ) [المجادلة ٨] وفيمن نزلت

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَىٰ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ ۚ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا ۖ فَبِئْسَ الْمَصِيرُ) [المجادلة٨]

قال البغوي : "نزلت في اليهود والمنافقين وذلك أنهم كانوا يتناجون فيما بينهم دون المؤمنين"اهـ.

وقال ابن العربي : "لا خلاف بين النقلة أن المراد بها اليهود ، كانوا يأتون النبي صلى الله عليه وسلم فيقولون : السام عليك" اهـ

قال ابن عطية : "هذه الآية نزلت في قوم من اليهود نهاهم رسول الله ﷺ عن التناجي بحضرة المؤمنين وإظهار ما يستراب منه من ذلك فلم ينتهوا فنزلت هذه الآية"اهـ

وقال ابن كثير : "(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ) أي : كما يتناجى به الجهلة من كفرة أهل الكتاب ومن مالأهم على ضلالهم من المنافقين" اهـ.

وقال السعدي : "وهؤلاء المذكورون إما أناس من المنافقين يظهرون الإيمان، ويخاطبون الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا الخطاب الذي يوهمون أنهم أرادوا به خيرا وهم كذبة في ذلك. وإما أناس من أهل الكتاب، الذين إذا سلموا على النبي ﷺ قالوا: "السام عليك يا محمد" يعنون بذلك الموت"اهـ

وقال ابن عاشور : "وفي قوله ﴿نُهُوا عَنِ النَّجْوَىٰ ﴾ وقوله ﴿وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ﴾ دلالة على أنهم منافقون لا يهود لأن النبيء ﷺ ما كان ينهى اليهود عن أحوالهم. وهذا يرد قول من تأول الآية على اليهود وهو قول مجاهد، وقتادة، بل الحق ما في ابن عطية عن ابن عباس أنها نزلت في المنافقين"اهـ

والراجح - والله أعلم- ما ذهب إليه بعض المفسرين من أن الآيات نزلت في المنافقين وليست في اليهود.
قال ابن عطية: "وقال ابن عباس هذه الآية كلها في منافقين، ويشبه أن من المنافقين من تخلق في هذا كله بصفة اليهود"اهـ.
والحجة في هذا ما يلي:
1- أن آخر قبائل اليهود نقضا للعهد مع رسول الله ﷺ هم بنو قريظة بعد غزوة الأحزاب، وكان ذلك في سنة خمس من الهجرة.
وأن سورة المجادلة من أواخر القرآن نزولا حتى قال ابن عاشور: "وهی السورة المائة وثلاث في عداد نزول سور القرآن نزلت بعد سورة المنافقين وقبل سورة التحريم) اهـ. 
فإذا كان اليهود جميعا قد خلت المدينة منهم سنة خمس إما بالقتل أو الإجلاء، وكانت سورة المجادلة قد تأخر نزولها إلى هذا الحد، فكيف يكون الخطاب فيها موجها لليهود؟!

۲- أن سياق الآيات القرآنية يميل إلى المنافقين من وجهين:
الأول : ذكره ابن عاشور بقوله : "إن النبي ﷺ ما كان ينهى اليهود عن أحوالهم". وهذا حق فإن الله قال: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَىٰ) وهذا يعني أنه قد جرى نهي عن ذلك، واليهود كفار، والكفار لا يُخاطبون بفروع الشريعة، فكيف يتوجه لهم الأمر والنهي، والحال ما ذُكر؟.
الثاني: أن الله تعالى تحدث عن المنافقين بالأسلوب نفسه الذي تحدث به عن المتناجين فقال تعالى:(۞ أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِینَ تَوَلَّوۡا۟ قَوۡمًا غَضِبَ ٱللَّهُ عَلَیۡهِم مَّا هُم مِّنكُمۡ وَلَا مِنۡهُمۡ وَیَحۡلِفُونَ عَلَى ٱلۡكَذِبِ وَهُمۡ یَعۡلَمُونَ)[سورة المجادلة 14]
وهذه الآية كقوله تعالی: (إِنَّ ٱلۡمُنَـٰفِقِینَ یُخَـٰدِعُونَ ٱللَّهَ وَهُوَ خَـٰدِعُهُمۡ وَإِذَا قَامُوۤا۟ إِلَى ٱلصَّلَوٰةِ قَامُوا۟ كُسَالَىٰ یُرَاۤءُونَ ٱلنَّاسَ وَلَا یَذۡكُرُونَ ٱللَّهَ إِلَّا قَلِیلࣰا ۝ مُّذَبۡذَبِینَ بَیۡنَ ذَ ٰ⁠لِكَ لَاۤ إِلَىٰ هَـٰۤؤُلَاۤءِ وَلَاۤ إِلَىٰ هَـٰۤؤُلَاۤءِۚ وَمَن یُضۡلِلِ ٱللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُۥ سَبِیلࣰا)[سورة النساء 142 - 143]، وإذا كان أسلوب الحديث في الآيتين واحدا فلماذا تكون الأولى في اليهود والثانية في المنافقين؟

3- أن وصف المنافقين بذلك أقراب من وصف اليهود لأنهم يعرفون من أحوال المؤمنين مالا يعرفه اليهود ، ويشاهدون مالا يشاهدون وذلك بسبب القربى وإظهار الإيمان، وإذا كانوا كذلك فهم أقدر على المناجاة بالإثم والعدوان ومعصية الرسول وقد حكى الله عنهم في سورة عُنيت بفضحهم بأنهم يتناجون بالإثم والعدوان فقال سبحانه : (أَلَمۡ یَعۡلَمُوۤا۟ أَنَّ ٱللَّهَ یَعۡلَمُ سِرَّهُمۡ وَنَجۡوَىٰهُمۡ وَأَنَّ ٱللَّهَ عَلَّـٰمُ ٱلۡغُیُوبِ ۝ ٱلَّذِینَ یَلۡمِزُونَ ٱلۡمُطَّوِّعِینَ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ فِی ٱلصَّدَقَـٰتِ وَٱلَّذِینَ لَا یَجِدُونَ إِلَّا جُهۡدَهُمۡ فَیَسۡخَرُونَ مِنۡهُمۡ سَخِرَ ٱللَّهُ مِنۡهُمۡ وَلَهُمۡ عَذَابٌ أَلِیمٌ) [سورة التوبة 78 - 79] ومعلوم أن اللمز والسخرية بالمؤمنين من الإثم والعدوان ومعصية الرسول .. بينما لا أعرف بين دفتي المصحف آية تحدثت عن مناجاة اليهود في العصر النبوي.
والله أعلم
---------------------------------------------
المحرر في أسباب نزول القرآن / د.خالد المزيني

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق