الأربعاء، 4 سبتمبر 2013

صفة أرض المحشر

*لقد دلت السورة على أن هناك أرضاً أخرى يُحشر الخلائق عليها، وتلك الأرض هي أرض المحشر. قال تعالى: {وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا..} الآية.
 فالمراد بالأرض المذكورة في هذه الآية هي أرض المحشر فقد أخبر ـ تعالى ـ في هذه الآية الكريمة بأن أرض المحشر ستضيء بنوره ـ سبحانه ـ وهو نور غير نور الشمس والقمر، وهو نور حقيقي صفة لذاته المقدسة يليق بجلاله ـ تعالى ـ، ويمكن أن تشمل هذه الآية مع النور الحقيقي النور المعنوي وهو عدل ـ الرب سبحانه ـ الذي لا جور فيه ولا ظلم لأنه ـ تعالى ـ الحكم العدل.
 قال الإمام البغوي: {وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ} أضاءت {بِنُورِ رَبِّهَا} بنور خالقها، وذلك حين يتجلى ـ الرب ـ لفصل القضاء بين خلقه فما يتضادُّون في نوره، كما لا يتضادُّون في الشمس في اليوم الصحو. وقال الحسن والسدي: "بعدل ربها وأراد بالأرض عرصات القيامة" اهـ1.
وقال العلامة ابن جرير: {وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا} . يقول تعالى ذكره: فأضاءت الأرض بنور ربها يقال: أشرقت الشمس: إذا صفت وأضاءت. قال قتادة: فما يتضادُّون في نوره إلا كما يتضادُّون في الشمس في اليوم الصحو الذي لا دخن فيه. وقال السدي: {وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا} أضاءت أ. هـ2.
 وقال ابن كثير: {وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا} أي: "أضاءت يوم القيامة إذا تجلى ـ الحق جل وعلا ـ للخلائق لفصل القضاء" أ. هـ3.
وقال الشوكاني: {وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا}. الإشراق: الإضاءة، يقال أشرقت الشمس: إذا إضاءت وشرقت: إذا طلعت، ومعنى {بِنُورِ رَبِّهَا} بعدل ربها قاله الحسن وغيره. وقال الضحاك: بحكم ربها، والمعنى: أن الأرض أضاءت وأنارت بما أقامه الله من العدل بين أهلها، وما قضى به من الحق فيهم، فالعدل نور والظلم ظلمات.وقيل: "إن الله يخلق نوراً يوم القيامة يلبسه وجه الأرض فتشرق به غير نور الشمس، والقمر، ولا مانع من الحمل على المعنى الحقيقي، فإن الله ـ سبحانه ـ هو نور السموات والأرض" أ. هـ4.
وحمله على الحقيقة هو الصواب لأن النور صفة كمال وضده نقص ولقد وصف الله ـ تعالى ـ نفسه بصفة النور حيث قال جل ثناؤه: {اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} الآية. فلا ينكر صفة النور التي اتصف الله بها ـ إلا من أشرب قلبه بمرض التعطيل أعاذنا الله منه. قال العلامة ابن القيم: عند قوله ـ تعالى ـ: {وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا} "فأخبر أن الأرض يوم القيامة تشرق بنوره وهو نوره الذي هو نوره فإنه ـ سبحانه ـ يأتي لفصل القضاء بين عباده وينصب كرسيه بالأرض فإذا جاء الله ـ تعالى ـ أشرقت الأرض وحق لها أن تشرق بنوره وعند المعطلة لا يأتي ولا يجيء ولا له نور تشرق به الأرض" أ. هـ5.

صفة هذه الأرض:
 لقد بين النبي صلى الله عليه وسلم صفة أرض المحشر التي يقف عليها الخلائق للحساب وللجزاء العادل وكيف هي: فقد جاء عن سهل بن سعد رضي الله ـ تعالى ـ عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء كقرصة النقي" قال سهل ـ أو غيره ـ ليس فيها معلم لأحد6.
 فمن هذه الصفات الواردة في هذا الحديث يتبين أن تلك الأرض التي يقف عليها العباد يوم القيامة بين يدي ربّهم ـ تبارك وتعالى ـ هي أرض مغايرة لأرض الدنيا، وليس بينهما أي تشابه فأرض الموقف لها صفات أخرى، وأرض الدنيا لها صفات أخرى، وأن أرض الدنيا التي يعرفها الخلق ستنتهي وتضمحل وتحل محلها أرض أخرى هي أكبر منها وأطهر. وقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث "عفراء" للعلماء في هذه الكلمة عدة تفاسير نقلها عنهم الحافظ ابن حجر رحمه الله ـ تعالى ـ فقال:
 "قال الخطابي: العفر بياض ليس بالناصع". وقال عياض: "العفر بياض يضرب إلى حمرة قليلاً ومنه سمي عفر الأرض وهو وجهها". وقال ابن فارس: معنى عفراء: خالصة البياض. وقال الداودي: شديدة البياض. قال ابن حجر: "كذا قال والأول هو المعتمد"أ. هـ7.
فالحافظ رحمه الله رجّح من هذه الأقوال قول الخطابي وهو أن معنى كلمة "عفراء" هو البياض غير الناصع .
 ومعنى قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث: "كقرصة النقي" بفتح النون وكسر القاف أي: الدقيق النقي من الغش والنخالة قاله الخطابي.
ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: "ليس فيها معلم لأحد، أو علم كما في رواية مسلم هما بمعنى واحد". قال الخطابي: يريد أنها مستوية والمَعلَم ـ بفتح الميم واللام ـ بينهما مهملة ساكنة: هو الشيء الذي يستدل به على الطريق. وقال عياض: المراد أنها ليس فيها علامة سكن ولا بناء ولا أثر ولا شيء من العلامات التي يهتدى بها في الطرقات كالجبل والصخرة البارزة. قال الحافظ: "وفيه تعريض بأرض الدنيا وأنها ذهبت وانقطعت العلاقة منها". وقال الداودي: "المراد أنه لا يحوز أحد منها شيئاً إلا ما أدرك منها".
وقال ابن أبي جمرة: "وفيه دليل على عظيم القدرة، والإعلام بجزئيات يوم القيامة ليكون السامع على بصيرة فيخلص نفسه من ذلك الهول لأن في معرفة جزئيات الشيء قبل وقوعه رياضة النفس وحملها على ما فيه خلاصها بخلاف مجيء الأمر بغتة، وفيه إشارة إلى أن أرض الموقف أكبر من هذه الأرض الموجودة جداً، والحكمة في الصفة المذكورة أن ذلك اليوم يوم عدل وظهور حق فاقتضت الحكمة أن يكون المحل الذي يقع فيه ذلك طاهراً عن عمل المعصية والظلم، وليكون تجليه ـ سبحانه ـ على عباده المؤمنين على أرض تليق بعظمته ولأن الحكم فيه إنما يكون لله ـ وحده ـ فناسب أن يكون المحل خالصاً له وحده" أ. هـ8.
وقال عليه الصلاة والسلام: "يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد فيسمعهم الداعي وينفذهم البصر"9. "ومعناه يبلغ أولهم وآخرهم لاستواء الأرض فلا يكون فيها ما يستتر به أحد من الرائي"10.
والذي يريده عليه الصلاة والسلام أرضاً مستوية لا جبل فيها ولا أكمة ولا ربوة ولا وهدة أرض بيضاء نقية لم يسفك عليها دم ولا عمل عليها خطيئة ولا ارتكب فيها محرم"11.

 بيان خلاف العلماء في أرض المحشر:
إن تبديل هذه الأرض بأرض أخرى جديدة مما وقع الخلاف فيه بين السلف قال الحافظ ابن حجر: "وقد وقع للسلف في ذلك خلاف في المراد بقوله ـ تعالى ـ {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ ... } الآية12."هل معنى تبديلها تغيير ذاتها وصفاتها، أو تغيير صفاتها فقط" أ. هـ13
 فقد بين الحافظ: بقوله هذا أن للعلماء في ذلك قولين:
 القول الأول: أن التبديل يكون في ذاتها وصفاتها.
 القول الثاني: أن التغيير إنما يحصل في صفاتها فقط.
 ثم أخذ رحمه الله ـ تعالى ـ في ذكر أدلة الفريقين، فمما ذكره من أدلة الفريق الأول ما يأتي:
 1 ـ حديث سعد المتقدم في بيان صفة أرض المحشر.
2 ـ ما أخرجه عبد الرزاق وعبد بن حميد والطبري في تفاسيرهم والبيهقي في الشعب من طريق عمرو بن ميمون عن عبد الله بن مسعود في قوله ـ تعالى ـ {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ ... } الآية قال: تبد الأرض أرضاً كأنها فضة لم يسفك فيها دم حرام ولم يعمل عليها خطيئة. ورجاله رجال الصحيح وهو موقوف، وأخرجه البيهقي من وجه آخر مرفوعاً وقال: الموقوف أصح، وأخرجه الطبري والحاكم من طريق عاصم عن زر بن حبيش عن ابن مسعود بلفظ "أرض بيضاء كأنها سبيكة فضة" ورجاله موثقون أيضاً. ولأحمد من حديث أبي أيوب "أرض كالفضة البيضاء فأين الخلق يومئذ؟ قال: هم أضياف الله لن يعجزهم ما لديه". وللطبري من طريق سنان بن سعد عن أنس مرفوعاً "يبدلها الله بأرض من فضة لم يعمل عليها الخطايا" وعن علي موقوفاً نحوه من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد: "أرض كأنها فضة والسموات كذلك" وعن علي: "السموات من ذهب". وعن عبد من طريق الحكم بن أبان عن عكرمة قال: "بلغنا أن هذه الأرض يعني أرض الدنيا وإلى جنبها أخرى يحشر الناس منها إليها". وفي حديث الصور الطويل "تبدل الأرض غير الأرض والسموات فيبسطها ويسطحها ويمدها مد الأديم العكاظي لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً، ثم يزجر الله الخلق زجرة واحدة فإذا هم في الأرض المبدلة في مثل مواضعهم من الأولى ما كان في بطنها كان في بطنها وما كان في ظهرها كان عليها".قال الحافظ: "وهذا يؤخذ منه أن ذلك يقع عقب نفخة الصعق بعد الحشر الأول ويؤيده قوله ـ تعالى ـ {وَإِذَا الأَرْضُ مُدَّتْ * وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ} 14".
وبعد أن فرغ الحافظ من نقله حجج القول الأول وهو قول من قال: "بأن التغيير يحصل في ذات أرض الدنيا وصفاتها" شرع في ذكر أدلة الفريق الثاني القائل بأن التغيير يحصل في صفات الأرض وليس في ذاتها فقال:
 "وأما من ذهب إلى أن التغيير إنما يقع في صفات الأرض دون ذاتها فمستنده ما أخرجه الحاكم عن عبد الله بن عمرو قال: "إذا كان يوم القيامة مدت الأرض مد الأديم وحشر الخلائق". ومن حديث جابر رفعه: "تمد الأرض مد الأديم ثم لا يكون لابن آدم منها إلا موضع قدميه" ورجاله ثقات. إلا أنه اختلف على الزهري في صحابيه. ووقع في تفسير الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس في قوله ـ تعالى ـ {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ} 15 قال: "يزاد فيها وينقص منها ويذهب آكامها وجبالها وأوديتها وشجرها وتمد مد الأديم .
------------------------------
1- تفسير البغوي على حاشية الخازن 6/71.
2- جامع البيان 24/32.
3- تفسير القرآن العظيم 6/111.
4- فتح القدير 4/476، وانظر الجامع لأحكام القرآن 15/282.
5- مختصر الصواعق المرسلة 2/193.
6- صحيح البخاري مع الفتح 11/372، صحيح مسلم بشرح النووي 17/134.
7- الفتح 11/375.
8- الفتح 11/375.
9- رواه البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. انظر الفتح 8/395.
10- الفتح 8/396.
11- انظر شرح الطحاوية ص252، وانظر تكملة شرح الصدور ص18 "مخطوط".
12- سورة إبراهيم آية: 48.
13- فتح الباري 11/375.
14- سورة الانشقاق آية: 3 ـ 4.
15- سورة إبراهيم آية: 48.
* [مباحث العقيدة في سورة الزمر]

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق