الأحد، 20 نوفمبر 2016

تفسير سورة هود من (٤١- ٦٠) / الأترجة

د. ناصر بن محمد الماجد


 قال الله عز وجل : { وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا ۚ إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ } 
يقول عز وجل : { وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا } وأصل الركوب - فعل الركوب - أن يُعَدَى بحرف "على" يعني يقال : ركب على الدابة، ركب على الخيل أو ركب على الجمل، يعدى بحرف "على" وهنا عدى بحرف الـ "في" وذلك لمعنى مناسب لأن السفينة يُركب فيها وليس عليها.
 ثم قال عز وجل : { بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا } يعني اركبوا فيها على اسم الله يعني على بركة اسم الله عز وجل سائلين الله عز وجل أن يبارك لكم وأن يحفظكم ونحو ذلك.

 و { بِسْمِ اللَّهِ } يعني ببركة من الله في حال جريانها فيحفظها الله عز وجل من أن تميد أو تضطرب بسبب الموج.
 { وَمُرْسَاهَا } يعني وقت رسوها بحيث ترسوا رسواً لا ضرر فيه على من هو فيها ولا تتأثر به بسبب تلك الأمواج.
 { إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ } { لَغَفُورٌ } لمن تاب من عباده { رَحِيمٌ } بهم بحيث يقبل توبتهم ولا يعاجلهم بالعقوبة . 
/ ثم جاءت الآيات بعد ذلك تصف هذه السفينة وهي تجري في تلك الأمواج العظيمة العارمة قال الله عز وجل : { وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ } يعني الموج في ارتفاعه وعظمته مثل الجبال الشامخات وهذه صورة عظيمة جداً لا يكاد المرء يتخيلها، لو لم نرى من الحوادث التي وقعت أخيراً في بعض البلدان وارتفاع الموج هذه الارتفاعات العظيمة التي لا يتصورها الإنسان لما كنا نستطيع تصور ما تشير إليه هذه الآية الكريمة، هذه السفينة الصغيرة تجري بهم في أمواج متلاطمة عظيمةٍ عاليةٍ علو الجبال الشاهقات وسبحان من أجراها فلا تغرق وسبحان من حفظها فلا تلطمها تلك الأمواج فتغرقها وتُغرق من فيها ، وتلك عناية الله عز وجل التي تحفظ أولياءه وعباده. في ذلك الحال العظيمة تصف أو تشير الآيات الكريمة إلى حادث وقع مع نوح عليه السلام ومع ابنه وهو والله حادث عظيم حقيق بالمؤمن أن يتأمله وأن ينظر فيه يقول عز وجل : { وَنَادَىٰ نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ } المعزِل مكان العزلة والانفراد، والعُزلة هنا ورد عن المفسرين في بيانها خلاف أو أكثر من معنى :
/ منهم من قال أن العزلة هنا عزلة معنوية شعورية بمعنى أنه كان في معزلٍ من الكفر وعدم الإيمان فكفره وعدم إيمانه عزله عن والده وعن أبيه وعن المؤمنين.
 / ومنهم من قال أن العزلة هنا عزلة حسية يعني في مكان يعزله عن والده أو عن أبيه أو عن السفينة.
 { وَنَادَىٰ نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ } لأنه من لم يركب تلك السفينة فهو مع الكافرين بمعنى أنه لم يبقَ على وجه الأرض أحد مؤمن إلا وركب هذه السفينة.
وانظروا إلى هذا الجواب الذي أجاب الابن أباه به { قَالَ سَآوِي إِلَىٰ جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ} وهذا هو ظن الإنسان الضعيف الذي لا يتصور حجم الأمر الذي هو مُقدم عليه والذي سيقع عليه فيتصور أن هذا أمطار كالعادة وأن هذا سيل كما أعتاد الناس أن تأتيهم السيول فيلجأوا إلى الجبال ويعتصمون بها ولكن الحال ليست كذلك ولذلك قال له نوح : { لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ } لا الجبال الشاهقات ولا المباني العاليات ستعصم من أمر الله، من قضائه الذي قضى أن يغرق كل كافر (إلا من رحم) يعني رحمه الله فلطف به، ورحمته الله عز وجل حقّت على المؤمنين دون عداهم من الكافرين.
 ثم ينتهي هذا الحوار الذي دار بين نوح وابنه ولذلك قال عز وجل : { وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ } لما بدأت المياه تفور من تحت الأرض وتنزل من السماء وبدأت الأمواج تضطرب تحركت السفينة فحال بينهما موج ، موج حال بينهما إما أبعد السفينة عنه أو أبعده هو عن السفينة وهذا هو الأقرب، { وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ } فالذي يظهر أن الموج جاء إليه هو فأغرقه، حتى انظروا سرعة الأمر هو يظن هو قال : { سَآوِي إِلَىٰ جَبَلٍ } يعني الآن سأذهب إلى جبل يعصمني من الماء، فظن أن هناك مهلة من الوقت حتى يستطيع أن يصعد الجبل ولكن قدر الله عز وجل وأمره عاجلَه قبل ذلك فجاءه الموج ولم يُتم كلامه { فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ }.
/  ثم قال عز وجل : { وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ ۖ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } هذه الآية وقف عندها كثير من المفسرين وقوفاً طويلاً في تأمل بلاغتها حتى إن جار الله الزمخشري صاحب الكشاف يعني أطال الكلام فيها وفي إظهار معاني البيان والبديع والبلاغة في هذه الآية، وجاء بعده السكّاكّي صاحب مفاتيح العلوم وتكلم عن هذه الآية كلاماً طويلاً لإظهار ما فيها من البلاغة وحسن البيان والبديع مما يضيق معه الوقت أن نشير إليه، لكن فيها تقابل الألفاظ الأرض والسماء .. ابلعي ماءك .. وغيض الماء .. استوت على الجودي، كلها ألفاظ في غاية من الروعة والجمال في التعبير. 
/ قوله عز وجل : { ابْلَعِي مَاءَك ِ} أصل البلع إدخال الطعام في الجوف دون مضغ وهذا إشارة إلى سرعة جفاف الأرض فالجفاف ليس طبيعاً معتاداً، تجلس المياه يوم أو يومين أو ثلاث أو أكثر ، كلا بل مع هذه المياه العظيمة الكثيرة مع هذا قيل لها مباشرة {يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ } فتنزل المياه مباشرة { وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي } يعني كفي عن نزول المطر، وهذه أوامر إلهية لا تصدر الا من الملك عز وجل الذي بيده الأمر الذي يقول للشيء كن فيكون. { وَغِيضَ الْمَاءُ } غيضان الشيء نقصانه، بمجرد أن أتاه الأمر الإلهي أن الأرض تبلع الماء والسماء تُقلع نقص الماء { وَغِيضَ الْمَاءُ } يعني نقص الماء ورجع إلى ما كان عليه قبل نزول هذا الطوفان. والتعبير { وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ } هذه صيغة مجهول يعني لم يقل قال يا أرض ابلعي ماءك بل قال { وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ } التعبير بصيغة المجهول فيه نكتة بلاغية وهي التعظيم من شأن هذا القائل وهو الله عز وجل، فمرة ما تصرح بقائل هذا القول لتعظيم شأن ذلك القائل، وكذا في هذه الآية الكريمة.
 { وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ } الجودي: أشهر ما قيل فيه أنه جبل، اسم جبل يقع في شمال العراق - في بلاد الأكراد - وهو جبل يعرفونه الآن يسمى الجودي فَرَسَت عليه السفينة وهذا أفضل ما يكون عليه الرسو بحيث إنها ما تضطرب وإنما يحفظها الجبل وتتكئ عليه ولذلك قال عز وجل : { وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ } يعني الجودي حفظها حتى كانت مستوية لا تضطرب ولا تميل.
 { وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِين } يعني هلاكاً وعذاباً وسُحقاً للقوم الظالمين.
 وربنا عز وجل هنا ما حدد نوع الظلم للظالمين أنفسهم أو للظالمين لنبيهم أو لأي شيء وقع ظلمهم وهذه قاعدة عامة تستفيدونها في القرآن الكريم وهي حذف متعلق الآية، كثير من الآيات في القرآن الكريم يُحذف مُتعلقها فيقال مثلاً : { قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ }، { قليلا ما تعقلون } {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ } {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} (بل أكثرهم لا يسمعون) ونحو ذلك فيُحذف لا يعقلون ماذا ، لا يسمعون ماذا ، لا يتذكرون ماذا ، لا يُذكر وهذا فيه فائدة بلاغية حذف المتعلق يجعل دلالة الآية أوسع فتذهب النفس في تقدير ذلك المحذوف كل مذهب وتتسع دلالة الآية وكذا في هذه الآية قال : { بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } الظالمين لمن ؟ وبأي شيٱ وقع ظلمهم ؟ لم يذكر حتى تتسع دلالة الآية فتشمل كل ما يصح أن يدخل ضمن ظلمهم واعتداءهم { وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ }.
 والآيات الكريمة الحقيقة فيها إشارة إلى مبلغ الحنو والرحمة من نوح عليه السلام فمع هو أنه نبي وهي بطبعه النبوة تقتضي الرحمة إلا أنه أيضاً مع ذلك أب مشفق على ولده ناصحٌ له ولكن مع ذلك ما نفع هذا النُصح وهذه الشفقة ، نوح عليه السلام حتى ولده ما استطاع أن يفعل له شيء لأن الأمر بيد الله عز وجل هو الهادي لمن يشاء وهو المُضل لمن يشاء ولذلك على المرء أن يُعلِّق رجاءه بالله عز وجل أن يهدي ذريته وأن يصلحهم ونحو ذلك مع بذل الأسباب المأذون بها.
 والحقيقة أيضاً أن الآية تدل على أن الجهل بعواقب الأمور وعدم تقديرها حق قدرها يجعل المرء يسيء التصرف، ولذلك ابن نوح ما قدر الأمر حقيقة قدره فأساء التقدير ولمّا أساء التقدير أساء التصرف { قَالَ سَآوِي إِلَىٰ جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ } فهو لم يقدر هذا الطوفان الذي سيأتي فظن أنه بجبل سيعصمه منه وهذا الإهلاك الذي أهلكه الله عز وجل لهذه الأمم دلالة عظيمة على قدرة الله عز وجل وأن الأمر أمره إذا شاء شيئاً وأراده جرى، فأمَرَ السماء أن تمطر والأرض أن تُفجِّر مافيها من ماء فما كان منهم إلا أن أغرقهم بتلك الأمواج العظيمة.
/ ثم قال الله عز وجل بعد ذلك : { وَنَادَىٰ نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ }
نوح عليه السلام لا زالت الأبوة والحنو والأمل يرجو أن ابنه لم يغرق يرجو ذلك مع أنه رأى الموج أمام عينه يأخذه لكن هكذا الأبوة الحانية رجا أن الابن لم يغرق ورجا وعد الله عز وجل بنجاة أهله لأن الله وعده أن ينجيه وأهله والمؤمنين، ولكن مع هذا كله انظروا للأدب مع الله عز وجل هو لم يُصرِّح بطلبه هل صرح قال ربي نجِ ابني ؟ أو احفظ ابني ؟ أبداً.. وإنما تعرّض لمقام الرحمة الإلهية فعرّض في طلبه ولم يُصرِّح، وهذا دأب الأنبياء في أدبهم مع الله عز وجل، وانظروا مثلاً أيوب ماذا يقول، قال : { أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ } ما قال اكشف الضر أو ارفع الضر عني وإنما عرّض بالدعاء، وكذلك نوح عليه السلام قال : { رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ } ففوض الأمر إليه وعرِّض بالدعاء، بالسؤال ولم يُصرِّح ،وهذا من كمال الأدب مع الله عز وجل قال الله عندئذ له : { قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ } يعني ليس من أهلك المؤمنين، وهذا يُبين عن حقيقة العلاقة في هذا الدين أنه قائم على مبدأ الولاء والبراء المؤمنون إخوة بعضهم وإن كان بينهم مسافات ما بين المشرق والمغرب، وإن أختلفت أجناسهم وألوانهم وبلدانهم فيجمعهم أخوة الإيمان، والكافر عدو للمؤمن حتى ولو كان أخاه ابن أمه وأبيه، ولذلك قال الله عز وجل :{ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِك إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِح } بمعنى أنه عمِل عملاً غير صالح { إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِح } وفي قراءة أخرى عن قراءة متواترة {إِنَّهُ عَمِلَ غَيْرُ صَالِح } يعني أنه عمل عملاً غير صالح والقراءتان بمعنى واحد. 
 ثم قال عز وجل : { فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۖ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ } فنهاه الله عز وجل أن يسأله ماليس له به علم وعندئذ تبرأ نوح عليه السلام من حوله وطوله فقال : { قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ ۖ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ } تبرأ ولجأ إلى الله وفوض الأمر إليه لأن الله عز وجل هو العالِم بحقائق الأمور المُطلع عليها.
/ ثم قال عز وجل : { قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَىٰ أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ ۚ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ }
بعد أن أهلك الله من أهلك من قوم نوح ونجى الله نبيه والمؤمنين أمره بأن يهبط بالأرض بسلام يعني اهبط مصحوباً بالسلام متلبساً بالسلام لا تخاف لا يصيبك الوجل { بِسَلَامٍ مِنَّا } ومصدر هذا السلام هو الله عز وجل { وَبَرَكَاتٍ } تحِل { عَلَيْكَ وَعَلَىٰ أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ } وهذه "من" التبعيضية يعني من بعض الأمم التي معك وأمم لن تؤمن لذلك قال : { سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ } هذه الآية حقيقة تحدد مبدأ مهم في الإسلام وهو مبدأ الولاء والبراء أن البراء للمؤمنين وأن ما بينهم وبين ما لم يكن على الإيمان فإنه ليس بيننا وبينه ولاء حتى ولو كان أقرب الناس ولذلك قال عز وجل : { لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ } حتى لو كانوا أقرب الناس فإنهم لا يُوادّونهم ولا يوالونهم.
 نلحظ أيضاً في الآية الكريمة مبدأ التسليم لله عز وجل من نوح عليه السلام لم يجادل ولم يحاج وإنما قال :{ قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٍ } وهذا كمال الانقياد لله والتسليم له وتفويض الأمر له حتى في أعظم الأمور في نجاة ابنه من هذا العذاب الذي نزل على قوم نوح.
/ قال الله عز وجل مُعقباً هذه القصة وانظروا الربط بما تكلمنا عنه في أول هذه المجالس من أن السورة فيها معنى تسلية النبي صلى الله عليه وسلم وبيان حال الأمم الماضية قال : { تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ ۖ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَٰذَا ۖ فَاصْبِرْ ۖ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ } بعد أن ذكر هذه القصة بهذا التفصيل وهذا التوضيح، من أين للنبي عليه الصلاة والسلام أن يعرف ذلك وهو أصلاً نشأ وهو أمي لا يقرأ ولا يكتب ونشأ في بيئة أمية لا تقرأ ولا تكتب ويقُصّ قصة نوح في غاية الوضوح وتفاصيل دقيقة عما جرى لنوح، إذاً لابد أن هذا من اللطيف الخبير ولذلك قال : { مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ } حتى قومك لا يعلمونها من قبل هذا فاصبر على أي شيء ؟ على ما أمرتك به واصبر على تكذيبهم.
 { إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ } العاقبة : نهاية الأمر ومنتهاه، وعاقبة الأمر ومنتهاه هو نصر الله عز وجل لأوليائه، وهذا يجب على المؤمنين أن يكونوا على ثقة منه أن العاقبة للمتقين وأن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده.
/ ثم قال الله عز وجل بعد ذلك ذكر قصة أخرى من قصص الأمم التي كذبت رسلها فقال عز وجل : 
{ وَإِلَىٰ عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا ۚ قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ ۖ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ }
 قال الله عز وجل أول ما ذكر هذه القصة قال : { وَإِلَىٰ عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا } فذكر أخوَّته لهم وهي أخوّة النسب يعني أنه أخوهم من قبيلتهم .. من ديارهم ليس أجنبي عنهم وهذا ملحظ مهم في شأن الأنبياء إن الله عز وجل لم يرسل للأمم نبياً من قوم آخرين لا يعرفونه ولم يظهر فيهم، لا يعرفون أخلاقه وعاداته وما كان عليه، بل يبعث فيهم الرسول منهم يعرفون أخلاقه وسيرته بحيث ما يعرفونه من سابق سيرته يحملهم على تصديقه ولذلك قال الله عز وجل : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُم } ولذلك قال : { أَخَاهُمْ هُودًا } وفي الآية الأخرى : { أَخَاهُمْ صَالِحًا } { أَخَاهُمْ شُعَيْبًا} فينُص على هذا الأمر يعني أنهم يعرفونه وليس رجلاً أجنبي عنهم {قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ } هذا هو الأصل في دعوة الأنبياء، أول ما يدعوا الأنبياء إلى الله عز وجل هو الدعوة إلى توحيده لأن هذا هو المقصد، ولأجل ذلك خلق الله الجنة والنار، ولأجل ذلك أرسل الرسل وأنزل الكتب، وقام سوق الجنة والنار من أجل التوحيد.
 { اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ ۖ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ } الإفتراء - كما تقدمنا - معناه أشد الكذب يعني إن أنتم إلا مفترون بشرككم وعبادتكم لغير الله تعالى.
/ ثم قال لهم : {يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا ۖ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ } وهنا أيضاً يؤكد ما أكده نوح قضية أنه ليس لديه مصلحة في الدعوة إلى الله ولا في تحذيرهم وإنذارهم بل إنما جاء ليبلغ رسالات الله { يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا } يعني أي أجر { إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي ۚ أَفَلَا تَعْقِلُون } نعم { إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي ۚ أَفَلَا تَعْقِلُون } فعلاً هذا مفترض أن يقود الإنسان للعقل لو كان العقل يعلم أن هذا الرجل كان مرضي السيرة لم يتهموه في عقله ولا في سلوكه ولا في أعماله يقوم يبلغهم وينذرهم وليس له مقصد، هذا يحمل العاقل على أن يقبل كلامه ولذلك ناسب أن تُختَم الآية بقوله : { أَفَلَا تَعْقِلُون }.
/ ثم قال تعالى مستكملاً كلام هود : { وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَىٰ قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ } أمرهم بأي شيء ؟ أولاً بالاستغفار، والاستغفار طلب المغفرة، ثم أمرهم بالتوبة، وقد تقدم معنا أن هذين اللفظين إذا قُرنا فإن كل منهما يُحمل على معنى خاص، فيُحمل الاستغفار على طلب المغفرة من الشرك والإقلاع عنه والإقلاع عن المعاصي، ويحمل التوبة إلى معنى الرجوع لأن أصل تاب الشيء يعني رجع فيكون معنى الرجوع إلى الله عز وجل بالتوحيد وعمل الصالحات. وقدم الاستغفار لأنه من باب التخلية قبل التحلية.
{ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ } ما ثمرة هذا الاستغفار والتوبة والرجوع إلى الله عز وجل ؟ 
تأملوا ماذا يقول الله عز وجل { يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَىٰ قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ } إن الإيمان بالله عز وجل وترك الشرك والحذر منه له أعظم الأثر في حصول الخير والخصب وإنبات الأرض ولذلك قال :{ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا } المدرار الغزير، والمقصود بالسماء هنا السحاب، يعني يُرسل السحاب بمطر غزير مدرار { وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَىٰ قُوَّتِكُم } فذكر من أول آثار الإيمان بالله وطاعته نزول الغيث وهذا معنى صحيح ورَدَ عن أكثر من نبي مثل قوله عز وجل : { فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا } ولهذا جاء عن عمر رضي الله عنه أن الناس لما خرجوا يستسقون خرج يستسقي بهم فصلى بهم ولم يزد على الاستغفار لم يزد إلا أن قال استغفر الله، حتى عجب الناس من ذلك قالوا : يا أمير المؤمنين ما رأيناك استسقيت 
- لأن الاستسقاء طلب السُقيا - قالوا : ما رأيناك استسقيت ؟ قال "والله لقد طلبت المطر بمجاديح السماء" المجاديح هي البروج التي يُظَن معها نزول المطر يعني استسقيتكم بأعظم سبب للسقيا ثم قرأ - استدلالاً على قوله وهذا من فقه عمر رضي الله عنه - ثم قرأ
 { فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا } وقرأ أيضا هذه الآية { وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَىٰ قُوَّتِكُم } وهذا أيضاً من آثار الإيمان بالله عز وجل.
/ ثم بعد ذلك نستمع إلى موقف قومه بعد أن سمعوا دعوة هود عليه السلام ماذا قالوا ؟ يقول الله عز وجل : { قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ * إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ ۗ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِهِ ۖ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ } بعد هذا الكلام وهذه الدعوة الواضحة البينة المخلصة ماذا قالوا ؟ 
{ قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ } ما جئتنا بحجة واضحة على ما تدّعيه { وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا } يعني تاركي عبادة آلهتنا {عَنْ قَوْلِكَ} يعني بسبب قولك بمجرد قولك لن نتركها { وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ } ،{ إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ } الاعتراء: اعتراء الشيء يعني إذا نزل به وأصابه تقول: اعتراه هذا الشيء يعني نزل به وأصابه والمقصود يعني أصابتك آلهتنا بسوء، بسبب ماذا ؟ بسبب أنك دعوت إلى ترك عبادتها. قالوا لعل الذي بك هذا جنون أو شيء أصابتك به آلهتنا.
 وأمام هذا الرد الذي يخلو من المنطق والعقل قال لهم نبي الله : { قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ } يعني أُشِهده على ما سأقول { وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيء} أتبرأ مما تعبدون من دونه، من كل آلهتكم التي تعبدون من دون الله { فَكِيدُونِي } الكيد: تدبير الضر بخفية، أن يقول اجتهدوا في تدبير مضرتي والكيد بي { ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ } بدون أي تأخير. فتحداهم يقول لا تدعوا أي طريقة ولا أي وسيلة لإيقاع الضر أو الكيد إلا وافعلوها بي فإني لا ألتفت لكم ولا أهتم بكيدكم، لمَ ؟ { إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ } رجل واحد فرد يقف يتحدى قومه كلهم القوم الذي وصفهم الله عز وجل بالقوة والبطش والشدة حتى قالوا : { مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً } يعني ظنوا أن لا أحد أشد منهم قوة ورجل واحد، فرد فيهم يقوم ويتحداهم هذا التحدي الصريح القوي { فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ *إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ۚ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا } الناصية هي مقدمة الرأس، ومعنى أنه آخذ بناصيته أي أنه متحكم فيها عز وجل يُصرِّفها كيف يشاء.
{ إِنَّ رَبِّي عَلَىٰ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } يعني بعد أن قال : إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا } يعني متصرف فيها فلا يقع شيء فيها الا بأمره وسلطانه قال ليبين كمال علم الله وعدله قال :{ إِنَّ رَبِّي عَلَىٰ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } يعني إن ربي على أمر من العدل في قضائه وحكمه وشرعه المستقيم لا عوج فيه فأمر الله فقضاءه وقدره وحكمه مستقيم لا عوج فيه { إِنَّ رَبِّي عَلَىٰ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ }.
/ ثم قال عز وجل : { فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ } { تَوَلَّوْا } تحتمل أن تكون فعلاً مضارعاً حُذفت التاء ويكون الأصل فإن تتولوا، ويُحتمل أيضاً أن يكون فعلاً ماضياً { فَإِنْ تَوَلَّوْا } يعني إن وقع منهم التولي ويكون ذلك بقصد أخذ العبرة وإن كان الأول أولى إن تتولوا { فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ } وهذا هو المناسب للسياق وإن كان هذا المعنى والمعنى الثاني كله مروي عن المفسرين.
 { فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ ۚ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا ۚ إِنَّ رَبِّي عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ } فإن توليتم ولم تقبلوا ما أمرتكم به وما دعوتكم إليه فقد أبلغتكم ما أُرسلت به ، الإبلاغ إيصال الشيء، يعني فقد وصلت إليكم الرسالة البشارة والنذارة التامة لا نقص فيها، بلغتكم وعندئذ تقف مهمتي أما الهداية والتوفيق والرشاد فهي من الله عز وجل. 
{ فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ ۚ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُم } وهذا فيه تهديد ووعيد مبَطّن لهم بأنهم إن بقوا على كفرهم وإعراضهم وصدهم فإن الله عز وجل سيُعاقبهم فيزيلهم من هذا الكون ويأتي بآخرين ولذلك قال : { وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُم } وأصل الاستخلاف أن يأتي الخليفة الذي يأتي بعد السابق اللاحق يأتي بعد السابق، وهذا دلالة على أن الله عز وجل لا يضره إيمان المؤمن ولا كفر الكافر إذا كفر يُذهِب بهم ويأتي بآخرين، وفعلاً هذا الذي حصل فإن الله أذهبهم وأتى بآخرين مكانهم { وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا ۚ إِنَّ رَبِّي عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ } و { حَفِيظٌ } هذه صيغة مبالغة يعني إن ربي حفيظ لكل شيء وحفيظ على كل شيء، حفيظ لكل شيء وهو حفيظ على كل شيء، وهو أيضاً في قوله : { إِنَّ رَبِّي عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظ ٌ} إشارة إلى أن الله عز وجل سيحفظه منهم ومن كيدهم وما يعتزمون القيام به وعمله.
/ ثم قال الله عز وجل بعد ذلك : { وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ }
بعد أن بيَّن لهم الحق وأوضح لهم المحجة وبعد أن كذبوا وأعرضوا واستكبروا هنا انتهى الأمر فحلّت سنة الله عز وجل مع المكذبين وكما وقع لقوم نوح بعد أن كذبوا أن الله أهلكهم وعاقبهم كذلك ها هو الأمر هاهي السنة الإلهية تتجدد أيضاً مع قوم عاد فيقول عز وجل : { وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ } وتأملوا الآن لما يأتي الأمر سيقع شيئين إذا أتى أمر الله - يعني أمره بالإهلاك - سيقع أمرين الأول : إهلاك المكذبين ، والثاني : نجاة المؤمنين ، ونلحظ أن الله عز وجل قدم ذكر نجاة هود ومن معه قبل الكلام عن إهلاكهم لأن هذا هو الأهم، نجاة المؤمنين من أولياء الله عز وجل هو المهم ولذلك قدّم ذكره على ذكر هلاك المكذبين فقال : { وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا } يعني ما قضينا به من إهلاكهم وعذابهم { نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَه}.
وانظروا التعبير بقوله : { مَعَهُ } يعني أن المؤمنين نجوا لأنهم مع هود عليه السلام وهذا فضل صُحبة الصالحين وأولياء الله عز وجل أن فيها النجاة في الدنيا والآخرة ، { بِرَحْمَةٍ مِنَّا } الباء سببية يعني بسبب رحمة من الله، وسبحان الله رُبِطت النجاة برحمة الله ليس لأنه نبي أو لأنهم مؤمنين فالعمل وحدة ليس سبباً للنجاة لا في الدنيا ولا في الآخرة ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال للصحابة إعلان عام : ( لا يدخل الجنة أحد بعمله ) يعني مهما تعمل لن يكون سبب تستحق به دخول الجنة فاستغرب الصحابة قالوا : (ولا أنت يارسول الله ؟ - يعني حتى أنت مع كمالك وعظم عملك الصالح - قال : ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته ) ولذلك حتى نجاة المؤمنين هي برحمة الله عز وجل وفضله.
{ وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ } انظر التأكيد الإلهي جاء مرتين قال : { نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَه } ثم قال : { وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ } فهو إنجاء بعد إنجاء إشارة إلى عِظَم العذاب الذي حلّ بهم، قوله : { وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ } فهو إنجاء بعد إنجاء ونجاة بعد نجاة. 
ثم قال : { وَتِلْكَ عَادٌ ۖ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ } تلك الإشارة للبعيد، إشارة لأولئك القوم إشارة للبعيد، وهي إشارة إلى معهود في الذهن لأن من قرأ هذه الآيات واستمع لها ستكون عاد في ذهنة ولذلك يقول المفسرون : إن "تلك" هذه إشارة إلى معهود في الذهن.
 { وَتِلْكَ عَادٌ ۖ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ } الجحد : الإنكار الشديد ، شدة الإنكار يسمى ذلك جحداً { جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ } كفروا بآيات الله وجحدوها وعصوا رسله ولم يسمعوا لهم ولم يمتثلوا لأمرهم.
 وتأملوا هنا أنهم قال الله عز وجل : { وَعَصَوْا رُسُلَهُ } مع أن الذي أُرسِل إليهم واحد وهذا فيه دلالة على أن التكذيب ببعض الرسل تكذيب بهم جميعاً لأنهم كلهم من مشكاة واحدة، فمن كذّب بموسى كذّب بمحمد عليه الصلاة والسلام ولذلك من ديننا الإيمان بكل الأنبياء.
 ثم قال : { وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ } قوله عز وجل : { وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ } هذا وصف لحال المكذبين، يعني المكذب لرسل الله عز وجل المكذب لأنبيائه هذا وصف لا ينفك عنه أنه جبار وأنه عنيد مُصرٌ على طغيانه وظلمه.
/  ثم قال : { وَأُتْبِعُوا فِي هَٰذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ } بعد أن أهلكم الله أتبعهم باللعنة وهذه اللعنة تتبعها لعنة أيضاً في الآخرة، إذاً أهلكهم ثم أتبعهم لعنة في الدنيا ثم أتبعهم لعنة ثالثة في الآخرة. { وَأُتْبِعُوا فِي هَٰذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ } على تقدير محذوف ويوم القيامة لعنة أيضاً.
 { أَلَا } هذه أداة تنبيه تنبه السامع { أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ ۗ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ } وهم بهذا مستحقون للإبعاد بسبب كفرهم بالله عز وجل، كفرهم لربهم.
 وتأملوا هنا قال : { كَفَرُوا رَبَّهُمْ } والرب هو المربي لعباده بالنعم فكفروا من ؟ الذي أنعم عليهم وهذا غاية في الجحود أن يكفر الإنسان من أنعم عليه ولذلك علّق بهذا الوصف وصف الربوبية { إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ ۗ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ } بهذا تنتهي قصة عاد مع نبيهم وما فعل الله بهم وبها نختم هذا المجلس وهذا والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق