الأحد، 15 مايو 2016

التعليق على تفسير ابن سِعدي الآيات (١٢-١٤) من سورة الملك

 د. عبد الرحمن بن صالح المحمود


 بسم الله الرحمن الرحيم
 الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ..
نكمل الحديث والتعليق على تفسير ابن سعدي رحمه الله تعالى ...
تفضل يا شيخ :
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ..
اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللحاضرين ، قال الشيخ ابن سعدي -رحمه الله تعالى- في قول الله تعالى {فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لأصْحَابِ السَّعِيرِ} قال تعالى عن هؤلاء الداخلين للنار المعترفين بظلمهم وعنادهم {فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لأصْحَابِ السَّعِيرِ} أي: بُعدًا لهم وخسارة وشقاء. فما أشقاهم وأرداهم حيث فاتهم ثواب الله وكانوا مُلازمين للسعير التي تستعر في أبدانهم وتطلع على أفئدتهم!
/ {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} لما ذكر حالة الأشقياء الفجار، ذكر وصف الأبرار السعداء فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ} أي: في جميع أحوالهم أي حتى في الحالة التي لا يطّلِع عليهم فيها إلا الله، فلا يَقدِمون على معاصيه، ولا يقصرون فيما أمر به {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ} لذنوبهم، وإذا غفر الله ذنوبهم ووقاهم شرها ووقاهم عذاب الجحيم ولهم أجر كبير وهو ما أعده الله لهم في الجنة من النعيم المُقيم، والمُلك الكبير، واللذات المتواصلات والقصور والمنازل العاليات، والحور الحسان، والخدم والولدان. وأعظم من ذلك وأكبر رضا الرحمن، الذي يُحِله الله على ساكني الجنان.."
تعليق الشيخ:
بعد أن جاء سياق هذه الآيات في بيان حال الضالين المنحرفين -والعياذ بالله- المستكبرين على رسل الله عليهم الصلاة والسلام أخبر الله عزوجل أن هؤلاء سُحقاً لهم وبُعداً لأنهم أصحاب السعير، وانظر إلى التعبير القرآني { أَصْحَابُ } كلمة أصحاب هنا تدل على الصحبة والملازمة وعلى نوع من العلاقة { أَصْحَابُ الْجَنَّةِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } { أَصْحَابُ الْجَنَّة }
ما دلائل هذه الصحبة ياعبدالله ؟
ما معالم هذه الصحبة ؟
{ أَصْحَابُ الْجَنَّة } لها معالم فمن كان من أصحاب الجنة ففيه دلائل تدل على هذه الصحبة وعلى رأسها يعبد الله .. يوحِّد الله .. يحب الطرائق إلى الجنة .. يسعى في كل وسيلة تُوصله إلى الجنة ، إذاً يُحبها ويحب أهلها ويسير على طريقتهم ويفرح بكل طريق وكل عمل وكل أمرٍ يُوصل إلى الجنة إذاً هذا صاحب يقابله - والعياذ بالله - { أَصْحَابِ السَّعِيرِ } ما هذه الصحبة وما نوعها؟
 اختاروا أن يكونوا ممن لا يفكر إلا - والعياذ بالله - بكل طريق يصُده عن الله ويؤدي به إلى عذابه - والعياذ بالله - .
 ما الدلائل على صحبة أهل السعير ؟
هناك عدة دلائل : أنه لا يخاف من السعير ولا يخاف من الله عز وجل الذي خلق الجنة والنار وجعلهما جزاءه لعباده يوم القيامة ، ثم بعد ذلك لا يخاف من الطُرق المُوصلة إلى السعير بل يستهين بها بل أحياناً - والعياذ بالله - يحبها وهذا - والعياذ بالله - نوع من الصحبة خطير أن يكون ممن يُحب طرائق السعير، ولك أن تُفتش في أحوال الناس وانظر إلى انقسامهم هذه الأقسام الثلاثة :
< من يحب الجنة وأصحاب الجنة ، ومن يحب السعير وأصحاب السعير ، ومن هو بين ذلك>
 لكن هناك فئة لا تحب إلا أصحاب السعير، يكرهون الدين ، يكرهون الإيمان، يكرهون الصلاة ، يكرهون الاستقامة ، يكرهون القرآن ، يكرهون أحكام الله ، يكرهون حدود الله ، يستهزؤن بدين الله ، هؤلاء هم أصحاب السعير، ومن هنا جاءت الآية التي تلي تلك الآية { إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ } بعد أن أعطانا صفة أصحاب السعير الذين تتغيظ جهنم عليهم قبل أن يدخلوا فيها فكيف بها إذا دخلوا فيها وقُذفوا فيها - والعياذ بالله - يقابلهم الطرف الآخر ماهي صفتهم ؟ 
جاء في هذه الآية آية واحدة تختصر لك القضية كلها للفرق بين أصحاب الجنة وأصحاب السعير <يخشون ربهم بالغيب> ، لأن الذي يخشى ربه بالغيب يخشى ربه في العلانية ، مقياس خشية الله في الغيب ولهذا جاء في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في صفة السبعة الذين يظلهم الله تحت ظله يوم لا ظل إلا ظله معاني مدللة عليها في قضية الغيب ( رجل دعته امراة ذات منصبٍ وجمال فقال إني أخاف الله ) ليس هو وهي، وهي التي دعته إذاً مسألة الخوف من الحظر أو الغير ممنوعة لأنها هي التي دعته ، لأنه أحياناً - والعياذ بالله -الرجل يصبح  مقبل على امرأة لا تريده فيخاف الفضيحة ، فإذا كانت هي التي دعته إذاً الفضيحة ليست موجودة إنما استحضاره ومراقبته لله عز وجل هي التي تجعله يقول : ( إني اخاف الله ) لأنه ما فيه مشكلة فضيحة عند الناس في مثل هذه الصورة لكن أنا أخاف الله .
 والثاني مما دلالة على الإيمان بالغيب وهذا الحديث أورده ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسير هذه الاية ( ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه ) لأنه يخاف الله ، لأنه لا يرجو إلا الله ، لا يريد أن يُقال أنه تصدّق أو فعل أو أي شي من هذا ، يريد وجه الله عز وجل، إذا هذا يراقب الله بصدقته لا يريد قول الخلق ولا شُكر الخلق ولا غيره وإنما يعلم أن الله علاّم الغيوب فيراقبه فإذا تصدق بصدقة لم يعلم بها أحد فعلاّم الغيوب يعلمها ولهذا قال الله عز وجل في كتابه العزيز { إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ } لأنه احياناً إظهار الصدقة فيه خير وفيه سُنة للناس مثل إظهار صلاة الجماعة، مثل إظهار صلاة التراويح مثل إظهار الجهاد هذه كلها أمام الناس ولا تُخفى بل السنة إظهارها ، لا يأتي قائل يقول أنا أجاهد لوحدي لا يعلم بي أحد ، ما يمكن هذا ، ولا أصلي الجماعة لوحدي لايعلم بي أحد ، ما يمكن ، فهو يُظهرها لكن الآية ماذا قالت ؟ { وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ } فذَكَر الناحيتين لكن فضّل الثانية.
 وذكر في السبعة ( رجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه ) ليس عنده أحد ، لا رياء ولا سمعة وإنما ذكر الله خالياً ففاضت عيناه.
 فقول الله تعالى { إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْب } هذا مَعلَم من معالم الإيمان فيجب استحضاره في حياتنا كلها ، استحضاره عند الطاعة فنخلص فيها لله ، واستحضاره عند مداخل الشيطان فنقطع دابر هذه المداخل ويقول العبد في قلبه وفي نفسه بل وبلسانه : "إني أخاف الله" يخشى الله عز وجل ومن هنا جاءت هذه العقوبة وأعني بها العاقبة العظيمة والجزاء العظيم من الله عز وجل{ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِير }مغفرة للذنوب لأن من أعظم ما يُمحّص الذنوب خشية الله عز وجل بالغيب دليل قوة الإيمان دليل صحة الإيمان ويقينه وإخلاصه ومعلوم أن الإخلاص إخلاص الإيمان .. إخلاص التوحيد .. إخلاص المعرفة لله أعظم ما يمحو الذنوب، ولهذا الإنسان الذي يموت مُحققاً التوحيد تُمحى عنه ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر شرطه أن يكون محققا للتوحيد كما في حديث صاحب البطاقة محقق للتوحيد والسجلات بطاقة فيها لا إله إلا الله تثقُل وترجِح وتُرَجِّح الميزان وتطيش السجلات فينجو ، هذه الكلمة لها معاني داخلية.
{ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ } والله عز وجل إذا وصف الأجر للعبد بأنه كبير فهذا ليس وعداً من بشر لا من ملِك ولا من رئيس ولا من غني ولا من غيره ، إذا وعد وقال : أعطيك أجراً كبيراً تلهفت النفوس إليه ، الذي يقول هذا ويعِد هذا الله رب العالمين مالك المُلك فهذه هي المقارنة الحقيقة بين أصحاب السعير وأصحاب الجنة . نعم يا شيخ ..

" {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}
هذا إخبار من الله بسعة علمه وشمول لطفه فقال: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ} أي: كلها سواء لديه لا يخفى عليه منها خافية، فـ {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} أي: بما فيها من النيات والإرادات، فكيف بالأقوال والأفعال، التي تُسمع وتُرى؟! ثم قال -مستدلا بدليل عقلي على علمه-: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} فمن خلق الخلق وأتقنه وأحسنه، كيف لا يعلمه؟! {وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} الذي لطُف علمه وخبره، حتى أدرك السرائر والضمائر، والخبايا والخفايا والغيوب ، وهو الذي {يعلم السر وأخفى} [ص: ٨٧٧] .
ومن معاني اللطيف: الذي يلطف بعبده ووليه، فيسوق إليه البر والإحسان من حيث لا يشعر، ويعصمه من الشر من حيث لا يحتسب، ويرقيه إلى أعلى المراتب بأسباب لا تكون من العبد على بال حتى إنه يُذيقه المكاره ليوصِله بها إلى المحاب الجليلة، والمطالب النبيلة".
تعليق الشيخ:
هاتان الآيتان الأولى منهما آية مُجلجلة عظيمة خطاب لجميع الناس المؤمن والكافر والمنافق والظالم وغير الظالم وغيره { وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ ۖ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ } { وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ ۖ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } فيستوي عندها الإسرار والإعلان لماذا ؟ قال : لأنه عليمٌ بما هو دون ذلك وهو ما تخفيه الصدور وتستكنه القلوب والنفوس ولا يعلم به أحد الله يعلمه ولا يخفى عليه منه خافيه. ثم علّل ذلك بقوله : { أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ } وهذا استفهام تقريري بلى وقوله : { أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ }تحتمل معنيين :
أحدهما: الخالق لابد أن يكون خلق بعلمٍ يعني { أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ } من يكن الخالق أي ألا يعلم الخالق من خلق فيكون معناه أن الله عزوجل خلق الخلق بعلمه فدل على أنه خالق وخلقه يدل على قيام صفة العِلم به هذا المعنى الاول .
 المعنى الثاني : { مَنْ } بمنزلة المفعول أي ألا يعلم الله خلقه وهذا معنى صحيح أي أن الله يعلم مخلوقاته لأنه هو الذي خلقها ، والأول أرجح وهو الذي يدل عليه سياق الآية ولهذا التلازم بين العِلم والخلق دليل على علم الله خلقُه لما خلق الخلق وأحكم صُنعهم دل على إتصافه بصفة العلم ، والمعنى الثاني : لازمٌ له وهو معنى صحيح.
 {وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} وتأملوا المعنيين الذي ذكرهما ابن سعدي في تفسير اللطيف:
 أحدهما: اللطيف الذي لا تخفى عليه خافيه ،  لطُف فعلمه يصل إلى كل شي خافياً .. معلناً ، في برٍ .. في بحرٍ، في شرقٍ .. في غربٍ، في سرٍ .. في علانية ، لطُف حتى وصل علِمه وإحاطته وقدرته بكل شي .
 والمعنى الثاني : نحن في أمّس الحاجة إليه وهو أنه يلطُف بعباده ، يلطف بعباده فتأتيهم المحنة والكربة فيلطف بهم ويخففها عنهم ويزيلها عنهم ، وكم من إنسان ظن أن الأمور مغلقة وإذا بالفتح والتيسير يأتي من ربه سبحانه وتعالى ، يسهّل الأمور ويزيّنها وكم لله  عز وجل في عباده في ذلك من اللّطف الخفيّ .
 قوله : { وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ ۖ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ }
فيه الدِلالة التي نختم بها هذا الدرس وهي دِلالة مهمة جداً يجب أن يَعِيها جميع الناس وهي : لا يمكن لإنسان أن يعمل معصية أو يتآمر على دين الله أو يجلس إلى قومٍ يكيدوا فيه للإسلام لا يجوز لمثل هذا ولا أمثاله أن يخطر بباله أنه يفعل ذلك كما يشاءون وكما يريد فليعلم أن الله عز وجل عليمٌ بذلك ، كم من قومٍ جلسوا يسرون ويتآمرون ويخططون ، فهل هذا خافٍ على رب العالمين ، يا أيها القوم مؤآمرات شرقية وغربية ، مؤآمرات من أهل النفاق والعلمانية والملاحدة والزنادقة على هذا الدين فهل يخفى على رب العالمين ، لابد أن نؤمن وأن نوقن بأن الله لا يخفى عليه شيءٌ من هذا وأنه سبحانه وتعالى يعاقبهم بما يريد ويشاء من العقاب فلا يمكن أن يُفلت أحد مهما كانت القُوى . اللهم ارزقنا مراقبتك وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه اجمعين .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق