الاثنين، 16 مايو 2016

التعليق على تفسير ابن سعدي الآيات (١٥-١٨) من سورة الملك

 د عبد الرحمن بن صالح المحمود


 بسم الله الرحمن الرحيم
 الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله .. تفضل يا شيخ
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ..
قال الله تعالى {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ ذَلُولا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ}
قال الإمام ابن سعدي -رحمه الله تعالى- " أي: هو الذي سخّر لكم الأرض وذللها لتدركوا منها كل ما تعلقت به حاجتكم من غرس وبناء وحرث، وطُرق يتوصل بها إلى الأقطار النائية والبلدان الشاسعة.
 {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا} أي: لطلب الرزق والمكاسب.
{وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} أي: بعد أن تنتقلوا من هذه الدار التي جعلها الله امتحانًا وبُلغة يُتبلّغ بها إلى الدار الآخرة، تُبعثون بعد موتكم وتُحشرون إلى الله ليجازيكم بأعمالكم الحسنة والسيئة.
 {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأرْضَ}هذا تهديد ووعيد لمن استمر في طغيانه وتعديه وعصيانه المُوجب للنكال وحلول العقوبة، فقال الله: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} وهو الله تعالى، العالي على خلقه {أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ} بكم وتضطرب، حتى تهلِكوا وتتلفوا .
{أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا } أي: عذابًا من السماء يحصِبكم وينتقم الله منكم .
{فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ} أي: كيف يأتيكم ما أنذرتكم به الرسل والكتب، فلا تحسبوا أن أمنكم من الله أن يعاقبكم بعقاب من الأرض ومن السماء ينفعكم، فستجدون عاقبة أمركم، سواء طال عليكم الأمد أو قصُر، فإن من قبلكم كذبوا كما كذبتم فأهلكهم الله تعالى، فانظروا كيف إنكار الله عليهم عاجلهم بالعقوبة الدنيوية قبل عقوبة الآخرة، فاحذروا أن يصيبكم ما أصابهم."
تعليق الشيخ :
 هذه الآيات في هذه السورة العظيمة فيها إشارة إلى عدة أمور:
 الأمر الأول : مِنّة الله عز وجل على العباد، والخطاب لجميع أهل الأرض وكان خطابا للمشركين لكن أيضاً هو خطاب للناس جميعاً يقول الله عز وجل فيها : { هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ ۖ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ } { ذَلُولًا } مذللة وهذا التذليل لهذه الأرض قيل: يكون بالجبال، وفعلاً الله ثبت هذه الأرض بالجبال مع أنها تسبح ومكورة فثبتها سبحانه وتعالى بالجبال، ثم هي أيضاً مذللة حتى يستطيع البشر أن ينتشروا ويعيشوا ولهذا قال بعد ذلك : { فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا } ماهي مناكب الأرض ؟
- قيل { مَنَاكِبِهَا } طرقاتها ، والأرض فيها طرقات والناس يسلكونها ويمشون فيها
- وقيل { مَنَاكِبِهَا } جوانبها عن يمين وشمال مثلما للإنسان منكبان منكب عن يمينه ومنكب عن شماله ، يعني { مَنَاكِبِهَا } يعني جوانبها من يمين وشمال والناس يعيشون على هذه الأرض المُذللة من جميع الجهات.
- وهناك قول ثالث بأن المقصود بالمناكب هي الجبال كأنه قال الأرض مذللة وإن استطعتم فامشوا في المناكب التي هي الجبال ، وفعلاً لو فتشت في الناس لوجدت أنهم لا يقتصرون في السير على السهول والعيش فيها إنما أيضاً يركبون الجبال.
 وتسمية المناكب بالجبال جاءت فيها حكاية لابن عباس رضي الله عنهما كانت له جارية - وابن عباس مفسِّر للقرآن ويعجبه تفسير القرآن - كان عنده جارية فقال لها : إن عرفتي ما معنى{ مَنَاكِبِهَا } فأنت حرة الجارية، ماشاء الله ذكية ويبدوا قارئة للتفسير فقالت : { مَنَاكِبِهَا } جبالها فأعتقها لأنه تم ما شرط وأتت بالجواب الصحيح فأعتقها فلما أعتقها أراد أن يتزوجها لأنه في الشريعة الإسلامية يجوز للإنسان إذا عنده أمة أن يعتقها ويتزوجها ويجعل عتقلها صدقة وهذا وقع كثيراً ويقع فيجعل الصداق ماهو ؟ العتق ، فتكون بدل أن تكون أمة مملوكة لا تصبح زوجة لها حقوق مثل ما للزوجات من حقوق ، والشريعة الإسلامية - كما هو معلوم - داعية بكل الوسائل والسبل إلى تحرير الأرقاء، فأراد ابن عباس لما عتقت أن يتزوجها لكن المسألة واضحة وإلا فيها إشكال ؟ فيها إشكال لأنه عُتقت قبل ، فأنت أعتقتها بشرط وهو معرفتها معنى قوله تعالى : { مَنَاكِبِهَا } فمن ثم لما استشار بعض أصحابه قال : ما رأيكم ؟ هل لي أن أتزوجها ؟ قال : لا ( دع ما يريبك إلى مالا يريبك ) يعني هي فيها شُبهة أنه أعتقها بسبب هذه المسألة وهذا الجواب لكن ليس له الحق التام كما لو كان قبل ذلك في أن يجعل عتقها صدقة وعلى هذا فيكون ابن عباس بالنسبة لها خاطب من الخطاب لها مهر مثل غيرها إما أن تقبل أو ترفض.
 فقوله تعالى : { فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا } يعني وهادها شمالاً وجنوباً وجبالها ، والإنسان صعد الجبال بل وسكن في الجبال فهذا كله من تيسير الله من الذي يسر هذه الأرض ؟ هو الله عز وجل ولهذا قال تعالى :{ وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ } ولاحظوا الإشارة { مِنْ رِزْقِهِ } يعني الرزق الذي خلق الأرض وجعل في هذه الأرض أقواتها فيا أيها القوم .. يا أيها الناس الذين تعيشون على هذه الأرض هل لكم وسيلة للرزق غير ما في هذه الأرض ؟ هل يمكن أن تطلبوا رزق من المريخ وإلا من الشمس وإلا من القمر والا من كواكب أخرى وتستغنوا عن هذه الأرض ؟ الأرض هي التي قدّر الله فيها أرزاقها ، إذاً الرزق من الله وما أنت يا أيها الإنسان إلا ساعٍ المطر ينزل والماء موجود فتحرث وتزرع وتبني وتأكل من رزق ربك ثم في النهاية وإليه النشور ، بقاؤك على هذه الأرض وأكلك من هذا الرزق وسيرك في مناكبها .. إلخ محدود ، لابد من يوم تموت فيه وهذا الموت هو نهاية المطاف ولا بد بعد ذلك من النشور ، أنظر كيف تختصر هذه الآية الواحدة رحلة الإنسان على هذه الأرض مِنّة من الله سبحانه وتعالى ، فعلى العباد أن يعرفوا قدر هذا وأن لا يشركوا بالله ولهذا كان هذا خطاباً للمشركين .
 وبعد أن بين الله عز وجل هذه المنة جاء التهديد { أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ * أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ۖ فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ * وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ }
وقوله تعالى : { أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ } هذا فيه دلالة على علو الله عز وجل كما ذكر أهل السنة والجماعة ، { فِي السَّمَاءِ } أي في العُلو أو بمعنى على أي على السماء والله فوق السماوات ولهذا يحذر كل الحذر من تفاسير المعتزلة والأشعرية التي أولت ، الإمام القرطبي - رحمه الله تعالى على جلالة ثِقله في تفسيره - في هذا الآية أصرّ وشرح وأطال تأويلاً لهذه الآية يريد أن لا يثبت أن الله في العلو ، يعني في السماء سلطانه وقدرته ، المقصود الملائكة ، والمقصود من على السماء خلق إلخ وصار يؤول رحمه الله تعالى فمن يقرأ في كتب التفسير فعليه أن يحذر في هذه المسائل لأن عقيدة أهل السنة أو الجماعة في مثل هذه الآية وأشباهها دالة على إثبات علو الله عز وجل كما يليق بجلال وجهه ، الله الذي في السماء على العرش استوى هو مالك المُلك وهذا هو التهديد { أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُور } وتضطرب بكم وأنتم تشاهدون أمثلة لذلك من الزلازل ونحوها لولم يثبت الله الأرض بالجبال هل يستطيع العباد أن يستقروا عليها ؟ كلا ، إذاً هذا إستفهام وإنكار { أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُور } حالة ثانية بدون خسف وبدون موران الأرض {أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ۖ فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ}
والحاصب هو: الحجارة وهذه الحجارة لها حالات:
 إما أن تكون الحجارة من السماء من عند الله عز وجل كما جرى لقوم لوط وأمثالهم من الأمم الذين كذبوا وكفروا فأرسل الله عليهم حجارة من السماء.
 أو يكون الحاصب وهو الحجارة التي تأتي بها الريح ، لأن الريح أحياناً تحمل معها الحجارة ، أو التي تكون مع السحاب .
هذه كلها مِما ذكرها المفسرون أي يُرسل عليكم حاصباً فستعلمون كيف نذير كيف كان عاقبة النذارة لمن كذب.
 ثم أخبر الله عز وجل أن هذه سنته ، كذّب الذين من قبلهم فكيف كان عاقبة إنكارهم وتكذيبهم !! إقرؤا قصص الأولين لقد أنزل الله عليهم وفيهم رجزه وعذابه فاعتبروا يا قوم. هذا خطاب للمشركين الذين كانت تتنزل عليهم مثل هذه السورة وهي فيها الدلالة على هذه المسألة العظيمة.
 أيها الأخوة في الله : هذه الآيات الثلاث التهديد فيها قائم وباقي ، نعم نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم وخُوطب بها المشركون لكن أمر الله عز وجل وسنته وحكمه وقوّته وقدرته وعقابه وعذابه باقٍ ، فمن أراد النجاة فليعتبر وليتعظ وليتفكر في نعمة الله على البشرية في هذه الأرض ، يا قوم في مشرق ومغرب من الذي سهّل لكم هذه الأرض وتأكلون منها ؟ من هو ؟ هل هناك دولة؟ هل هناك أمة ؟ هل هناك حضارة قديمة صنعت الأرض ؟ حضارة فرعونية وإلا آشورية وإلا بابلية ؟ هل في حضارات هي التي صنعت لنا الأرض ؟ كلا والله هذه الآيات تعلّمنا وتعلّم البشرية أن الذي خلقها ... ذلّلها الله عز وجل فكيف يُعبد غيره ؟! كيف يُشكر غيره ؟ كيف لا يطاع ؟ كيف لا يُتبع ما جاءت به رسله ؟!
 اللهم ارزقنا اليقين واجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا ونور صدورنا وصلى الله وسلم على نبينا ومحمد وعلى آله وصحبه وسلم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق