الأربعاء، 8 مايو 2024

ما الراجح في المراد بالقروء في قول الله تعالى: {والمطلقات يتربصن بأنفسهنّ ثلاثة قروء}؟

س: ما الراجح في المراد بالقروء في قول الله تعالى: {والمطلقات يتربصن بأنفسهنّ ثلاثة قروء}

الجواب: 

القرء في اللغة ما يأتي على وقت معتاد، يقال: أقرأت الرياحُ إذا هبّت لوقتها المعتاد الذي تُتحرَّى فيه، ومنه قول الشاعر:

شنئتِ العقرَ عقرَ بني شليلٍ ... إذا هبّت لقارئها الرياحُ

فهي رياح يتحرّون هبوبها كلّ سنة في وقت معتاد فينحرون ويُطعمون.

والحيض والطهر كلاهما قرء لمجيء كلّ واحد منهما لوقته المعتاد.

وقد اختلف الفقهاء والمفسرون في المراد بالقروء في هذه الآية على قولين:

القول الأول: القروء الحِيَض، والمطلّق أحقّ بردّ مطلَّقته ما لم تتطهّر من الحيضة الثالثة، وهذا قول عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعليّ بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، وأبيّ بن كعب، وأبي موسى الأشعري، ورواية عن ابن عمر، وحكاه مكحول عن معاذ وأبي الدرداء، وحكاه عمرو بن دينار عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.

وقال به من التابعين: الأسود بن يزيد، ومجاهد، وعكرمة، والضحاك، وقتادة، والسدي، والربيع بن أنس البكري. وهو مذهب أبي حنيفة، وسفيان الثوري، والأوزاعي، وإسحاق بن راهويه، وأحمد.


والقول الثاني: القروء الأطهار، فإذا دخلت المطلّقة في الحيضة الثالثة لم يملك مطلّقها أن يرجعها، وهذا قول عائشة، وزيد بن ثابت، ورواية عن ابن عمر.

وقال به من التابعين: سعيد بن المسيب، والقاسم بن محمد، وسالم بن عبد الله ، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وأبان بن عثمان، وسليمان بن يسار، وابن شهاب. وهو مذهب مالك بن أنس، والشافعي.

وعن الإمام أحمد رواية بأن القرء هو الطهر، لكن لا تنقضي عدّتها إلا بالاغتسال من الحيضة الثالثة.

وإذ تقرر أنّ القرء يطلق على الحيض وعلى الطهر إطلاقاً صحيحاً؛ فلا ينبغي سلوك مسلك الترجيح بينهما من جهة الدلالة اللغوية؛ لأنه ما من فريق يحتجّ بحجج لغوية إلا احتجّ عليه الآخر بمثلها.

والذي يزول به الإشكال معرفة حال نزول هذه الآية؛ فإنّها نزلت في حال لم يكن فيه للطلاق عِدّة ولا عَدد، فكان من شاء أن يطلّق طلّق بلا عدد، وراجع متى شاء بلا عِدّة.

- قال إسماعيل بن عياش الحمصي: حدثني عمرو بن مهاجر، عن أبيه، عن أسماء بنت يزيد بن السكن الأنصارية رضي الله عنه (أنها طُلّقت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ‌ولم ‌يكن ‌للمطلّقة ‌عدّة؛ فأنزل الله عز وجل حين طُلّقَت أسماء بالعدة للطلاق، فكانت أوَّل من أنزلت فيها العدة للمطلقات). رواه أبو داوود، وابن أبي حاتم، والبيهقي.

- وقال علي بن حسين بن واقد، عن أبيه، عن يزيد النحوي، عن عكرمة، عن ابن عباس: {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ‌ثلاثة ‌قروء ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن} الآية، وذلك أنَّ الرجل كان إذا طلق امرأته فهو أحق برجعتها وإن طلقها ثلاثاً؛ فنسخ ذلك، وقال: {الطلاق مرتان}). رواه أبو داوود.

- وقال يزيد بن زريع: حدثنا سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، قال: «كان أهل الجاهلية يطلّق أحدهم امرأته ثم يراجعها لا حدَّ في ذلك، هي امرأته ما راجعها في عدّتها، فجعل الله حدَّ ذلك يصير إلى ثلاثة قروء، وجعل حدّ الطلاق ثلاث تطليقات». رواه ابن جرير.

- وقال عبد الأعلى بن عبد الأعلى السامي: حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة، قال: (كان أهلُ الجاهليّة كان الرّجل يطلّق الثّلاث والعشر وأكثر من ذلك، ثمّ يراجع ما كانت في العدّة، فجعل اللّه حدّ الطّلاق ثلاث تطليقاتٍ).

قلت: قوله: (ما كانت في العدّة) تقدّم في حديث أسماء بنت يزيد أنّه لم يكن قبل نزول هذه الآية عدّة على المرأة.

- قال الشافعي رحمه الله: سمعت من أرضى من أهل العلم يقول: (إنَّ أول ما أنزل اللَّه عزَّ وجلَّ من العِدَد {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ}).

ولما نزلت هذه الآية لم يكن مع نزولها تحريم لطلاق الحائضِ، ولا اشتراط أن يكون طلاق غير الحامل ومَن لا تحيض في طهر لم يجامعها فيه زوجها، فكانت دلالة هذه الآية ظاهرة في أنّ من طلّق امرأته وهي طاهرٌ فعدّتها ثلاث حِيَض، ومن طلّقها وهي حائضٌ فعدّتها ثلاثة أطهار.

ثمّ نزل بعد ذلك تشريع بقية أحكام الطلاق؛ ونزلت سورة الطلاق وفيها قول الله تعالى: {يا أيها النبي إذا طلّقتم النساء فطلّقوهنّ لعدّتهنّ وأحصوا العدّة} ، وكانت هذه الآية مجملة خفيت بعض أحكامها على بعض الصحابة رضي الله عنها، ولذلك وقع من بعضهم طلاق للحائض بعد نزول هذه الآية استصحاباً منهم لما كان عليه الحال قبل نزولها؛ كما فعل ابن عمر، ولو كان هذا التشريع ظاهراً مستفيضاً لم يخف على مثل ابن عمر، فلما أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يراجع امرأته التي طلقها وهي حائض وأن يدعها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء طلقها وإن شاء أمسكها وبيّن له أنّ ذلك هو المقصود بقول الله تعالى: {لعدّتهنّ} عُلم أنّ هذا البيان للمجمل قدر زائد على الدلالة اللغوية للفظ الآية، وأنه من خصائص البيان النبوي.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق