الخميس، 3 مارس 2016

تفسير سورة مريم من آية (١- ٢١) د. محمد بن عبد العزيز الخضيري/ الأترجة

د. محمد بن عبد العزيز الخضيري


 المجلس الأول :
 (كهيعص ﴿١﴾ ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا ﴿٢﴾ إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا ﴿٣﴾ قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا ﴿٤﴾ وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا ﴿٥﴾ يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آَلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا ﴿٦﴾)
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد..
 فحياكم الله جميعاً في هذا الفصل، الفصل الثالث من هذه الدورة المباركة دورة الأترجة المُقامة لتفسير القرآن كله كاملاً من أوله إلى آخره في هذا الجامع الطيب جامع شيخ الإسلام الإمام محمد بن عبدالوهاب بحي الخليج في بُريدة. وفي هذا اليوم نقف مع سورة مريم في أربع مجالس بإذن الله .

 وهذه السورة العظيمة سورة مكية بإجماع المفسرين، وهذه السورة تضمنت الرحمة بعباد الله من جميع جوانبها، فهي سورة الرحمة ولذلك اختير لها اسم امرأة صالحة تجسيداً لهذه الرحمة، فالرحمة إذا ذُكرت في الدنيا تذكّر الناس المرأة لأن الله سبحانه وتعالى قد طبعها على الرحمة فقيل سورة مريم.
وإذا تأملنا الرحمة في هذه السورة نجدها قد جاءت بصور متعددة -كما سنبين إن شاء الله- في مواضع ذكر الرحمة في هذه السورة.
انظر في أولها كيف يقول (ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا) ويقول في يحيى (يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآَتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا ﴿١٢﴾ وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا ﴿١٣﴾) حناناً أي: رحمة وتحنناً (وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ) هذا عنوان من عناوين الرحمة العظيمة في الإسلام.
/ ثم انظر إلى ذكر إلى اسم الرحمن (قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا) فقد تكرر في هذه السورة في مواطن متعددة تصل أربعة عشر أو ستة عشر مرة.
/ يقول الله في افتتاحية هذه السورة (كهيعص) هذه من الحروف المقطعة وهي الحروف التي افتُتحت بها تسعة وعشرون سورة من سور القرآن والحروف المقطعة أو حروف التهجي - كما يقول بعض العلماء - اختُلِف في تأويلها اختلافاً كثيراً :
فمنهم من قال: الله أعلم بمراده منها
ومنهم من قال: إن لها معاني وإن هذه الحروف رموز لكلمات فـ "ألف" بمعنى الله، و"اللام" بمعنى اللطيف، و"الراء" بمعنى الرحيم ونحو ذلك مما اجتهدوا فيه وعلى هذا جماعة من السلف,
وأصدق الأقوال في تأويلها أن هذه الحروف المقطعة إنما جيء بها في أوائل هذه السور من أجل أن يبين أن القرآن مُؤلف من هذه الحروف وأن الله عز وجل تحداكم بأن تأتوا بمثل هذا القرآن الذي جُمِع من هذه الحروف التي تتكلمون بها فالحروف الموجودة ليس حروفاً غريبة عليكم ولا بعيدة منكم بل هي من كلامهم ولذلك قال العلماء قلّما تأتي هذه الحروف إلا ويأتي بعدها ذكر القرآن
 (ألم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ) 
(ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ)
(ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ)
(يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ )
(طه (1) مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى )
وإذا لم يُذكر القرآن في أولها ذُكر في آخرها كما في بعض سور القرآن مثل سورة الروم والعنكبوت، وقال بعضهم سورة مريم أيضاً (كهيعص ﴿١﴾ ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا ﴿٢﴾) منهم من قال لم يُذكر القرآن نقول إنه ذُكر في آخرها (إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا ﴿٩٦﴾ فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ) أي القرآن (بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا ﴿٩٧﴾ وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا ﴿٩٨﴾) فإذا لم يُذكر في أولها ذُكِر في آخرها، وهكذا جاء في سورة الروم والعنكبوت وغيرها من السور التي لم يُصَرَّح فيها بذكر القرآن. ولكن سورة مريم قد ذُكر القرآن أيضاً في أولها فإن قوله (ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا) أي هذا الذي نتلوه عليك يا محمد هو ذكر رحمة ربك عبده زكريا، هذا المُنزَل عليك هو ذكر رحمة الله لعبد من عباده وهو زكريا.
/  قال الله في بداية هذه السورة (ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا) تأملوا معي في سورة الكهف ذكرت ثلاث عجائب:
 الأولى قصة أصحاب الكهف كيف أن هؤلاء القوم ناموا ثلاثمائة وتسع سنين من غير أن يستيقظوا ومن غير أن يموتوا ومن غير أن يأكلوا ومن غير أن يشربوا وهذه من أعاجيب تدبير الله وتقديره .
والثانية ما وقع في قصة الخضر مع موسى عليهما الصلاة والسلام من الآيات العجيبة حيث كان الخضر يطّلع على شيء من الغيب بأمر الله عز وجل  فيفعل بناء على ذلك الغيب لا بناء على الظاهر.
والقصة الثالثة قصة ذي القرنين الملك الطوّاف في الأرض المُصلح فيها.
هذه القصص العجيبة ناسب أن يأتي بعدها في سورة مريم مثلها فجاءت قصة زكريا وقصة مريم وهما قصتان عجيبتان عظيمتان غريبتان دالتان على قدرة الله .
 فأما زكريا فقد كان في قصته من العجب أنه بلغ مئة وعشرين عاما عاماً وبلغت امرأته ثمانية وتسعين عاماً ورزقهم الله الولد بعد ذلك كله، وهذا من أعاجيب تدبير الله وتقديره فإن العادة جارية أن الشيخ الكبير الهرِم لا ينشط لمجامعة النساء ولا يكون من مثله الولد، وإذا كان هذا غريباً في حق الرجل فهو في حق المرأة أغرب وأغرب وأغرب لأن المرأة لا تكاد تجاوز الخمسين حتى ينقطع منها الولد وقلّ من النساء من تتجاوز الخامسة والخمسين أو تبلغ الستين ثم تلد. أما امرأة زكريا فقد كانت امرأة عاقراً لا تلِد وليست في حال يلد مثلها بلغت الثامنة والتسعين من عمرها ولذلك استغرب زكريا كيف سيكون مني الولد وقد بلغت من الكِبر عتيا (وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا) ما يكون هذا! لكنه بأمر الله يكون، فكان ذلك بأمر الله عز وجل وبرحمته لعبده.
 تأملوا الرحمة هنا في هذه السورة إنما هي لعباد الله، فالله عز وجل يقول سأذكر لكم في هذه السورة رحماتي لعبادي الذين يعبدونني حقاً وبدأ بقصة زكريا وجعلها مُقدمة لقصة مريم كما كانت مُقدمة لقصة مريم في سورة آل عمران وفي سورة الأنبياء لأنها تُدخلك إلى عالم العجائب التي لا يمكن أن تقع إلا بأمر الله وبقدرته.
 ففي قصة زكريا وقع الحمل والولادة من زوجين لكن قد بلغا السن الذي لا يُولد لمثلهما في العادة وإلا هناك زوجان.
/ ثم انتقلت إلى قصة مريم حيث لا زوج، امرأة بلا زوج تحمل وتلِد! فصارت هذه القصة في سورة آل عمران وسورة مريم وكذلك في سورة الأنبياء مُقدمة لقصة مريم لأنها بالفعل تُدخلك إليها ممهدة لها لقبول ما هو أعظم من قصة زكريا.
/ قال الله (ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا) أي هذا ذكر رحمة ربك بعبده زكريا
 / (إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاء خَفِيًّا) أي اذكر إذ نادى زكريا ربه نداء خفيا أي دعاه، وتأملوا كيف أنه قال (ربه) لأنه دعا الله باسم الرب الذي يُربي ويُنعم ويرحم ويتفضل.
 (نِدَاء خَفِيًّا) ينادي والنداء فيه شيء من التضرع والتذلل، قال العلماء أنه قال: يا رب.. يا رب.. يا رب فقيل له: لبيك.. لبيك..لبيك. (نِدَاء خَفِيًّا) لأن الأنبياء أعرفُ الناس بالله عز وجل  ولذلك ما ينادون الله عز وجل  إلا نداء خفياً لأنهم يعلمون أن الله يسمع السرّ والنجوى وأنه يحبّ النداء الخفي (ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) [الأعراف:٥٥] وبهذا نعرف نكارة أولئك الذين إذا دعوا ربهم صرخوا بأعلى أصواتهم. لما سمع النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه يصوّتون ويرفعون أصواتهم بالذكر قال اربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصماً ولا غائباً إنما تدعون سميعاً قريباً هو أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته.
/ قال الله (قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي) انظروا إلى طريقة الدعاء يشرح فيها الضعف ويشرح فيها حال العبد المحتاج إلى الرعاية والكرم والرحمة (إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي) ضغُف، (وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا) أي قد بلغت من الكبر عتياً، (وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا) سبحان الله! هذا من فِطنة زكريا أنه يذكر بين يدي الله أن الله يستجيب له، ما يقول لربه أنا ما سبق أجبتني إلى دعاء أو أنا مسكين، لا، يقول أنا عبد ضعيف وكلما رفعت كفي إليك أجبتني، دائماً أنت قريب مني. فأنت عندما تأتي للملك وتقول تعودنا منك العطاء ونحن لا نُحرم من خيرك دائماً يعتادنا خيرك مرة بعد أخرى أنت تهيّجه على العطاء، لكن إذا قلت ولا مرة شفنا منك خير أنت تهيجه على الغضب (وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا) .
 (وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي) خفت أقربائي، لماذا خاف؟ خاف منهم أن لا يقوموا برعاية النبوة والقيام بالدين فهو خشي على الدين، (وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي) أن لا يقوموا بالدين فيرعوه حق الرعاية ويقوموا به في الناس حق القيام.
/ (وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا) أي لا تلد (فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا) ارزقني ولداً يلي الأمر من بعدي (يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ) يرثني ليس في المال لأن الأنبياء لا يُورِثون، ما تركوا من شيء فهو صدقة. إذا يرثني في ماذا؟ في النبوة والعلم وحمل الرسالة.
(يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ) ولما قال من آل يعقوب عرفنا أن الوراثة هنا ليست وراثة مال وبهذا نعرف خطأ من قال من المفسرين أنه خشي على المال الذي عنده أن يذهب إلى أوليائه وأقربائه فيختلفون عليه أو يضيعونه، نقول كلا، الأنبياء لا يبالون بمثل هذا ولا يأبهون للدنيا وليس للدنيا عندهم قدر إنما أراد الله بالوراثة هنا وراثة النبوة والعلم والقيام بأمر الدين وسيأتي ما يؤكد هذا لأن الله قال (يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ) هذه هي الوراثة (وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12) وَحَنَانًا مِّن لَّدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا (13))...الخ الآيات
 قال (وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا) اجعله مرضياً عندك ترضى عنه فإذا رضيت عنه أعطيته الهبات السنية والأُعطيات الجليلة العظيمة التي هي أعطيات الآخرة وهذا ما حصل، وقال في سورة آل عمران ( رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً ) وهذا ما ينبغي أن يسأله العبد ربه هب لي من لدنك ذرية طيبة ما تقول والله يارب ارزقني أولاداً -مثلا- حسنيّ الخَلْق وإلا ذوي أموال وإلا ذوي ذكاء واسع أو غيرها، لا.. تسأل الله أن يُطيّب لك الذرية فيكونوا صالحين مُصلحين هادين مهتدين. قال (يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا).
 الآن انتهى من الدعاء جاءت البشرى (يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيًّا) نبشّرك قال العلماء: فيه استحباب التبشير بما يسرُّ المؤمن من ولد أو ذهاب عِلّة أو زوال نِقمة أو تجدد نعمة وهذا ما سار عليه أبو بكر الصديق فكان من أكثر الناس حباً لتبشير للصحابة بما يسوقه الله لهم من الخير على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم . وفي قصة كعب بن مالك تنافس الصحابة في حمل البُشرى بتوبة الله عليه وعلى صاحبيه فقام رجل على جبل فصوّت، وسعى رجل بفرس كلٌ منهما يريد أن يسبق بالبشرى إلى كعب بن مالك.
(إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ) أي ذكر وليس أنثى (اسْمُهُ يَحْيَى) قيل: إن الله تولّى تسميته بنفسه وسمّاه يحيى لأن الله يُحيي به الدين ويُحيي به النبوة والعلم ولأنه يحيا حقيقة الحياة وليس يحيا كحياة النبات أو الحيوان.
 قال (لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيًّا) إما أن تكون لم نجعل له من قبل من يتسمى باسمه فكان أول من تسمى بيحيى هو يحيى بن زكريا، هذا قول.
 والقول الثاني - وعليه كثير من المفسرين - لم نجعل له من قبل سمياً أي شبيهاً ونظيراً ومما يؤكد هذا ما جاء في السورة نفسها (وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا ﴿٦٤﴾ رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ ۚ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) أي شبيهاً ونظيراً؟ كلا. قال (لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيًّا)
/ (قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا) سبحان الله! أنت يا زكريا تسأل الله ثم تستغرب!! لكن هذا من طبيعة البشر أنه في جميع ما يتصوره ويتخيله لا يدري كيف تكون إجابة الدعوة، (أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ) كيف سيكون لي غلام؟ أنت سألت الغلام قبل قليل، كيف سيكون لي غلام وأنا كما تعلم حالي كانت امرأتي عاقر وقد بلغت من الكِبر عتيا، أنا لا يُولد لمثلي لأني لا أقوى على مُجامعة النساء وامرأتي لم تلد في عمرها كله وقد بلغت المائة أو قاربتها فكيف سيكون لي غلام؟! يسأل بعدما دعا لأنه واثق من إجابة الله عز وجل وواثق من أن الله قادر على كل شيء لكنه يبقى بشراً يستغرب كيف ستكون إجابة الدعاء. / (قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا) أي بلغت سناً قد يبس فيه جسمي ولصق جلدي على عظمي، يقال عتا يعتو أي يبس ومثله عسا يعسو يقال شيخ عاسٍ أي قد يبس وذهبت منه القوة.
/ (قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ) مثل هذا قاله الله عز وجل وإذا قال الله شيئاً فإنه لا بد أن يكون. (هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ) هذا الأمر هيّن عليّ فأي شيء تستغربه أنت يا زكريا (وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا) يعني إن كنت مستغرباً حقاً فليكن استغرابك في الشيء الذي هو أشد غرابة وهو خلق الإنسان من العدم وليس أن يُخلق إنسان من زوجين لا يُولد لمثلهما في العادة، ذاك أشد في الاستغراب.
 (وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا) قوله (وَلَمْ تَكُ) يعني (لم تكن) فالنون إنما حُذفت تخفيفاً وهي تُحذف في صيغة المضارع (وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا) (وَلَمْ تَكُ شَيْئًا) في صيغة المضارع إذا جاء قبله جزم.
/ قال الله عز وجل (قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّي آيَةً) زكريا يسأل ربه عز وجل من استعجاله في طلب أو معرفة تلبية واستجابة دعائه فيسأل الله آية (قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّي آيَةً) أعطني آية أعرف بها أن امرأتي قد حملت.
 (قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا) الآية يا زكريا أن الله يحبس لسانك عن الكلام فلا تستطيع أن تتكلم ثلاث ليال وأنت سوّي صحيح من غير عِلة يعني من غير -مثلاً- أن ينقص لسانك أو تصاب بورم في فمك تريد أن تتكلم فلا تستطيع أن تتكلم. وفي آل عمران (قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزًا (41)).
 قال ( ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا) قال العلماء: ثلاث ليال وأنت سويّ صحيح من غير علة، وقال بعضهم: ثلاث ليال سوياً أي ثلاث ليال متتابعات ولا مانع من حمل الآية على المعنيين.
قال (فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ) أي من المسجد والمسجد يسمى محراباً. (فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ) أي اشار إليهم لأنه لا يستطيع أن يتكلم على غير عادته كان يأمرهم بالصلاة ويأمرهم بذكر الله عز وجل، قال (فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا) أي صلّوا واذكروا الله في أول النهار وفي آخره. (فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ) أي أعلمهم بالإشارة ولم يُعلِمهم باللسان على غير عادته وهنا عرف زكريا أن امرأته قد حملت بيحيى الذي سمّاه الله عز وجل يحيى. قال (أَن سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا)
في سورة آل عمران قال الله عز وجل (قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء (38) فَنَادَتْهُ الْمَلآئِكَةُ (39)) "الفاء" تدل على الترتيب والتعقيب (فَنَادَتْهُ الْمَلآئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَـى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ (39) قَالَ رَبِّ أَنَّىَ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاء (40)بيده الأمر كله (كَذَلِكَ اللّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاء) .
(قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّيَ آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزًا وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ)
قال العلماء: جمع بين الذِكر والتسبيح (وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيرًا) فكان إذا أراد أن يتكلم بكلام الناس لم يستطع وإذا أراد الذِّكر ذكر الله عز وجل كأنه لم يُحبس لسانه، قالوا فلو أُعفي أحد من الذِّكر في حال لأُعفي زكريا عليه الصلاة والسلام وهذا يدلنا على تأكد الذِّكر وعِظم منزلته وجلالة قدرِه عند الله فلو كان أحد معذوراً في ترك الذِّكر لعُذر زكريا في ترك الذكر عندما حبس الله لسانه.
 (وَاذْكُر رَّبَّكَ ) وما قال اذكره فقط قال ( كَثِيرًا) أي اذكره دائماً وأبداً. قال العلماء: لا يكون الإنسان ذاكراً لله كثيراً حتى يذكر الله قائماً وقاعداً وعلى حنب. قال الإمام الشوكاني : "من أتى بالأذكار المُوظفة في اليوم والليلة وعند النوم وفي أدبار الصلوات فهو من الذاكرين الله كثيراً" فنسأل الله أن يجعلنا منهم (فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا).
 / ثم قال الله (يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) هذه وصية الله ليحيى عليه الصلاة والسلام، (خُذِ الْكِتَابَ) أي التوراة لأن زكريا ويحيى من أنبياء بني اسرائيل، خذه بقوة وليس المقصود أن تمسكه بكلتا يديك وإنما المقصود خذه بقوة يعني خذه بجد وقوة وعزم وحزم لا مُتساهلاً ولا مُتكاسلاً ولا مُتثاقلاً بل تأخذه بقوة كما قال الله عز وجل (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً) [ البقرة:208] يعني ادخلوا في الدين كله لا تأخذوا من الدين شيئاً وتتركوا أشياء تؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض، لا.. ما هذا حال المؤمن، حال المؤمن (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا) [الأحزاب:36] حال المؤمن كما قال الله عز وجل مع كتاب الله (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ ﴿١﴾ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا ﴿٢﴾ نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا ﴿٣﴾ أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآَنَ تَرْتِيلًا ﴿٤﴾ إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا ﴿٥﴾) ثقيل مُحتاج إلى أن يُحمَل بجد وعزم وأن لا يُتهاون في شيء منه وألا يقول أحدنا هذا من قشور الدين وليس من متين الدين ولا من لُبه! نبيك يأمرك .. ربك يأمرك وتقول هذه قشور؟! هل هذا يليق؟! الله بعظمته وجلاله ينزل في هذه الشعيرة من شعائر الله آية تتلى فتقول هذه قشور وهذه ترهات أو هذه أمور بسيطة! لا.. كل الدين ثقيل وعظيم ومتين ويجب علينا أن نأخذه بقوة وألا نتهاون فيه وكونك تُخطئ فتترك شيئاً من أمر الله أو تُذنب أو تعصي لا يعني أبداً أن تستهين به أو تُقلل من شأنه أو ترى أنه ليس بشيء، الآن بعض الناس تقول: الآن لماذا الناس يسارعون للصف الأول؟ أو لماذا تأتي الناس لهذا لمسجد -مثلا- وتُصلي على الجنائز أو تتبع الجنائز؟ هذه مضيعة وقت! لو اشتغلنا في نهضة الأمة وعمران البلاد هذا خير، سبحان الله!! النبي صلى الله عليه وسلم يحثنا على مثل هذا ويأمرنا به ويُذكِّرنا ويُحرِّصنا ويُرغِبنا وأنت تقول هذا الكلام؟! أيما أعظم حرصاً على الأمة ونهضتها؟ أنت أو الرسول صلى الله عليه وسلم؟! كيف يليق بنا أن نتقدم بين يدي الله ورسوله فنقول هذا الكلام؟!
 (يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ) أي الحكمة (صَبِيًّا) أي في حال الصبا قالوا كان صغيراً لم يبلُغ وكان قد حفظ التوراة وكان يُعلّمها ويُفتي بها .
(وَحَنَانًا مِّن لَّدُنَّا) أي رحمة ورقة وهذا يدل على أن الرحمة إذا قذفها الله في قلب عبد فهي من نعمه العظيمة على ذلك العبد، هذا الدين مبني على الرحمة. في سورة الفاتحة ذكرت الرحمة أربع مرات (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴿١﴾ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴿٢﴾ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴿٣﴾) أربع مرات، لماذا تُكرر الرحمة في أعظم سورة من القرآن أربع مرات؟ لعظمتها في الاسلام وأن مبنى هذا الدين على الرحمة وأن هذا القرآن ما أنزل إلا رحمة وأن هذا النبي ما بُعث إلا رحمة (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) [الأنبياء:107] هذا الصيام الذي صُمناه في شدة الحرّ رحمة، وهذا الحجّ الذي نذهب إلى مكان نؤديه فيه ونسافر ويصيبنا شيء من المشقة من أجل الوصول إليه والقيام به رحمة، لكنها قد تخفى، تخفى عليّ وعليك وعلى كل عبد ضعيف وعلى من لم يتلمس هذه الرحمة ولم يفكر في مُجمل الحياة الدنيا والآخرة فهو ينظر للأمور بمقياس اليوم والليلة أو بالمقياس المادي القريب وهذا خطأ.
/ قال الله (وَحَنَانًا مِّن لَّدُنَّا) يعني وآتيناه حناناً من لدنا، (وَزَكَاةً) أي وطهارة، طهارة نفس وصدق قلب فليس في قلبه غِل ولا حقد ولا كِبر ولا حسد، (وَكَانَ تَقِيًّا) أي يتقي الله عز وجل في أمره كله، وهذه وصية الله للأولين والآخرين قال (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللّهَ ) [النساء:131].
(وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ) بعدما ذكر حق الله ذكر انتقل إلى أعظم الناس حقاً على الإنسان وهما الوالدان قال (وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ)
(وَلَمْ يَكُن جَبَّارًا عَصِيًّا) لم يكن شقياً في أخلاقه، جباراً في أخلاقه صاحب عنف وغلظة وفظاظة (وَلَمْ يَكُن جَبَّارًا عَصِيًّا) لا لربه ولا لوالديه وهذه حقيقة البِر أن لا يكون الإنسان جباراً وأن لا يكون عصياً. قال العلماء: من كان جباراً عصيا لم يُرزق البِر لم يكن من البررة بوالديه.
قال الله عز وجل (وَسَلَامٌ عَلَيْهِ) أي سلامة من الله عز وجل أنزلها عليه في أحوال الثلاثة وهي أعظم الأحوال وأشقّها على كل إنسان (يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا) هذه أشد الأحوال التي يمر بها كل واحد منا: يوم يولد ويوم يموت ويوم يبعث حياً. ولذلك لما عوّذت امرأة عمران ابنتها وهي مريم وقاها الله عز وجل  (وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) وقى الله مريم نخسة الشيطان عند الولادة ووقى ذريتها - وليس لها من الذرية إلا عيسى - نخسة الشيطان عند الولادة، ما من مولود يولد إلا يصيح وهذه الصيحة من نخسة إبليس إلا ما كان من مريم وابنها فإن الله وقاهما ذلك ولذلك قال في حق عيسى (وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا ) وهنا قال في حق يحيى (وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا).
/ قال الله عز وجل (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ) بعدما ذكر قصة زكريا ذكر قصة مريم فترقى من الأدنى إلى الأعلى ولذلك في سورة آل عمران قال (قَالَ كَذَلِكَ اللّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاء) ثم لما جاء إلى قصة مريم قال (قَالَ كَذَلِكِ اللّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاء) لماذا هنا يفعل وهنا يخلق؟ 
لأن الخلق يكون في الشيء الذي لا وجود له والفعل يكون في الشيء الموجود ولكن يحتاج إلى إعادة تأهيل ولذلك قال (يفعل) في قصة زكريا وقال (يخلق) في قصة مريم.
 قال (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ) اذكر يا محمد لهؤلاء الذين يسمعون منك من مؤمنين وكفار ما هي أخبار رحمتنا لمريم كيف رحمناها وراعيناها وآويناها لماذا؟ لأنها قد تفرغت لعبادة ربها (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا) (انتبذت) يعني ألقت بنفسها أو انطرحت وذهبت إلى مكان بعيد وهو شرقي بيت المقدس، لأي شيء ذهبت؟ قالوا لتختلي بربها وتبتعد عن الناس طلباً للخلوة ومن عادة الصالحين أنهم يخلون بأنفسهم، هذه الخلوة تؤثر على قلوبهم. وتعرفون نبينا محمد صلى الله عليه وسلم كان يذهب إلى غار حراء قبل البعثة يتحنث فيه الأيام ذوات العدد ويأخذ معه من الزاد ما يكفيه لثلاثة أو أربعة أو خمسة أيام فإذا انتهى زاده رجع إلى خديجة فتزود لمثلها ثم عاد، لماذا يجلس في هذا المكان الساكن المظلم الهادئ الذي لا أنيس فيه ولا جليس؟ لكي يتخلى من الدنيا ومن أهلها ويتصل بالله وهذه هي حكمة الاعتكاف.
قال ( انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا) أي انفردت منهم وذهبت عنهم (فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَابًا) قيل استترت حتى لا يراها أحد فتنشغل به ولا ينشغِل بها.
(فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا) أي جبريل عليه الصلاة والسلام وهذا هو الصحيح من أقوال المفسرين أن الروح في أغلب ورودها في القرآن المراد به جبريل عليه الصلاة والسلام.
 قال (فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا) وهذا يدل على أن جبريل من الملائكة الذين لهم صورة غير الصورة البشرية لذلك كان إذا أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم  كان يأتي على صورة بشر، من الصور التي يأتي بها أن ياتي على صورة بشر وكان يتمثل بصورة دِحية بن خليفة الكلبي وهو من الصحابة الأجلاء ذوي الوسامة والقسامة في وجوههم رضي الله عنه وأرضاه. (فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا) أي صحيحاً معتدل الخِلقة.
(قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَن مِنكَ) ما قالت أعوذ بالله لماذا؟ لأن هذه السورة سورة الرحمة وابراهيم قال لأبيه (يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَن) لماذا ما قال عذاب من الجبار المُنتقم؟ يُذكِّر بالرحمة (يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَن فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا).
(قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا) إن كنت تتقي الله فأنا أعوذ بالرحمن منك أن تقربني وكأنها تستجير وتستغيث برحمة الله  لا يصيبها سوء ولا بأس من هذا. أنت يا مريم خائفة من ماذا؟ هذا رجل، لماذا تخافين من الرجال؟ لا.. المرأة العفيفة الطاهرة ما ترى الرجال ولا يرونها ولا تقربهم ولا يقربونها إلا إذا كانوا من محارمها أو كان الرجل زوجاً لها أما ما سوى ذلك فبينها وبينهم حجاب ولذلك استغربت، إن كنت تقياً فلا يحل لك ولا يجوز وأعوذ بالله الذي يرحمني من أن تقربني أو تدخل علي أو تختلي بي أو تهتك الحجاب الذي وضعته بيني وبين الناس. هذه صفة المرأة الصالحة ولذلك المرأة الصالحة دائماً تقرّ في بيتها لا تجعل عباءة على جسمها، لا.. لا.. تجعل جدار على جسمها، الأصل المرأة تجعل الستر الذي بينها وبين الرجال جدار ليس عباءة لكن متى العباءة؟ إذا ما استطاعت تشيل الجدار تشيل العباءة. قال الله عز وجل  (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى) [الأحزاب:33] لكن قد تحتاجون لأن تخرجوا لقضاء حوائجكم وزيارة أقاربكم في هذه الحالة نُخفف عليكم فالبسي شيئاً مثل الجدار ما معنى مثل الجدار؟ يعني يسترك كستر الجدار لك بحيث ما يبين مقدمتها من مؤخرتها ولا شيء من تفاصيل جسمها وتقاسيم أعضائها بل تكون كأنها كُومة ستراً لها، هذه المرأة الصالحة وربنا عز وجل  يذكر لنا هذا في هذه القصة العظيمة، والنصارى يتمدحون بأن مريم كانت محجبة وكانت مستترة وكانت عفيفة لكنهم يأبون أن يُطبقوا ذلك في واقع حياتهم لأنهم لا يقدرون على كبح جماح شهواتهم ثم هم يحسدوننا على ما نحن فيه فيريدون أن ننساق وراء هذه الدعوات، يغارون منا ومن نسائنا يتمنون -والله- أن يكون لهم مثل الطُهر والعفاف الذي عند المسلمين ولذلك يسعون بكل ما أوتوا من قوة ليسنون اللوائح التي تُخرج هذه المرأة المسلمة من حشمتها وعفتها لتكون كلأ مباحاً لكل من يريد أن يعبث بها وأن يرمي بها قاذوراته وأن تكون بالوعة للخبيثين وللقذرين ولا يكون لها حُرمة وذلك في فترة شبابها فإذا بلغت الأربعين تأفف منها كل أحد وما أرادها أحد، لا تصبح سكرتيرة ولا أحد يطلبها للعمل وتُفصل من العمل لأنها انتهت الزهرة قُطفت أيام الشباب ولم يعد لها قيمة وتبقى المسكينة التي كانت تقول أطالب بحقوقي، أين حقوق المرأة المظلومة المهضومة؟ الآن هذه هي الحقوق تمشي في الشارع وحدها لا معها زوج ولا صديق ولا حبيب ولا قريب ولا تستطيع أيضاً أن تكشف عن زينتها لأن خلاص بلغت سِنا لا أحد يرغب في رؤية لا شعرها ولا جلدها، أرأيتم ..هذا ما يريدونه.
أما عندنا فهي مصونة..مستورة في الصِغر وفي الكِبر، مرحومة ومحترمة في الصِغر وفي الكِبر، انظر إلى نساء المسلمين العجائز ملكات في البيوت، تجد الرجال الأشداء من أبنائهن  وزراء وملوك يجلسون عند رجليها ويسألونها الرضا ويطلبون الحنان والرحمة منها. اللهم لك الحمد على هذه النعمة.
/  قال الله عز وجل (قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ) اطمئني أنا ما جئت إلا بأوامر ربانية ، رسالة من الله عز وجل.
طيب لماذا أتيت؟ (لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا) أهب لك غلاما يكون في غاية الزكاء والطهارة، في غاية النقاء والتقوى (لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا) وفي قراءة (ليهب لك) أي الله عز وجل غلاماً زكياً.
(قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ) كيف يكون لي غلام؟! (وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا) ما جاءني بشر فمسّني مثل الزوج ولست ببغي قد بذلت نفسها - والعياذ بالله - لتكون فاجرة عاهرة يركبها كل أحد فأنا لست بذات زوج ولست بغياً فمن أين يأتي الولد؟! لأن الولد لا يأتي إلا من هذين الطريقين: إما طريق العفاف وهو النكاح، وإما طريق السفاح وهو الزنا نسأل الله العافية والسلامة. من أين يأتي الولد!!
 (قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ) هذا شيء ميسور على الله إنما أمره أن يقول للشيء كن فيكون.
(وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ) أي ولنجعل هذا الذي سيحدث لك آية للعالمين، أن يُخلق إنسان من أم بلا أب بنفخة من الرب يُلقيها الله عز وجل على جبريل فيُلقيها في جيب دِرعها أي في شقّ الثوب يلقيها فتدخل تلك النفخة من فرجها قال الله عز وجل (وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا) [التحريم:١٢] عملية اللقاح التي حصلت امرأة مهيأة للولد أصلاً جاءتها هذه النفخة الربانية ودخلت إلى موضع الولد فتم اللقاح. وانظروا هذه الصورة العجيبة صورة في غاية الطُهر والنقاء وفي غاية الجمال ما فيها ما يذكره بعض النصارى والعياذ بالله! شيء لا يمكن أن يتصوره إنسان ولذلك هم لا يقولون نحن لا نستطيع أن نتحدث به ولا نستطيع أن نحكيه لأبنائنا. قال أحد علماء المسلمين: قابلت قِسيساً قلت له سأذكر لك كيف حكى القرآن لنا حمل مريم بعيسى وأريد منك أن تتحدث لي كيف حملت مريم بعيسى، قال: فذكرت له ما ذُكر في القرآن، قال: فأطرق ثم قال: أما أنا فلا استطيع أن أتحدث بالذي نقرأه في كتبنا، هذا الذي تقوله خير من الذي نقوله. لأن هذه هي الحقيقة وهذا هو الحق وهذا كلام الله عز وجل.
قال (وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا) لاحظوا (رحمة) عيسى ما جاء ليكون عذابا ولا شقاء على العالمين ولا أيضاً قصته لتكون عذاباً وشقاء على العالمين وإنما رحمة من الله عز وجل . (وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا) لا خيار لك يا مريم فيه ولا خيار لي فيه أيضاً. بهذا نكون انتهينا من المجلس الأول من هذه المجالس نسأل الله أن يتقبل منا ومنكم وصلى الله وسلم على نبينا محمد. 
----------------------------
/ مصدر التفريغ ملتقى أهل التفسير (بتصرف يسير)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق