الأحد، 27 مارس 2016

الحلقــ التاسعة والعشرون ـــة / ::كل له قانتون ::


الحمد لله على فضله والصلاة والسلام على أشرف خلقه وخير رسله  وبعد ..
عنوان هذا اللقاء { كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ } وهو ليس من طرائق المضاف والمضاف إليه لكنه غير بعيد عنها هذا مندرج في المبتدأ والخبر لكنه غير بعيد عن المباني التي نقصدها والمعاني التي نشرُف بالحديث عنها وكلٌ من كلام الله .
/ قال ربنا عز وجل في سورة الروم : 
{ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ۚ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ * وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ }
والحديث هنا أصلاً عن القنوت لكن نقدم الآية الأولى نفصّل فيها شيئاً يسيراً ثم نعود لقضية القنوت .
قال ربنا : { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ } السماء والأرض من أعظم خلق الله، قال ربنا : { لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ } وهذا مر معنا كثيراً ولا يحتاج إلى كبير وكثير فهم لكن نريد أن نأتي لآية عطفاً على هذه الآية الله يقول : { إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا ۚ وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ ۚ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا }
{ وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا } يعني ما مسكهما { أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ } الآن لابد أن تفقه ما المراد من الآية.
 لو قدرنا - في غير القرآن - أن هذه الآية المراد منها والمقصود بيان عظمة الله وكمال قدرته .. بيان ماذا ؟ عظمة الله وكمال قدرته نقول : لو قدّرنا فربنا يقول : { إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا ۚ وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ } لو قدّرنا إن المراد بيان عظمة الله ماذا سيكون التذييل وخاتمة الآية ؟ يُفترض - في غير القرآن - يكون { إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ } { إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ } { إن ربك فعال لما يريد } لكن هذا ما أتى هنا ؟ ماذا قال الله ؟ { إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا } فلما يقول الله : { إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا } إذاً لا بد الآية تتحدث عن ذنوب تُغفر ومعاصي عظُم حلم الله تعالى عليها .. ظاهر واضح الآن ؟ وأنت إذا قرأت الآية لا تجد ذكراً للذنوب ولا للمعاصي إذا لابد من فهم للآية.
 فهم الآية على الصحيح معناها أنه الشيء الذي يجعل الأرض والسماوات تزول هي الذنوب، هي ماذا ؟ الذنوب ولهذا قال الله في خاتمة الآية : { إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا } وكلما عظُمت الجريرة وكبُر الذنب كان ذلك له أثر على السموات والأرض لولا مغفرة الله وحلمُه والقرآن يُصدِّق بعضه بعضاً، ربنا عز وجل يقول في سورة مريم : { وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَٰنُ وَلَدًا } وهذا من أعظم الفرى وأجل الكفر { وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَٰنُ وَلَدًا } ماذا قال ربنا ؟ { لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَٰنِ وَلَدًا * وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَٰنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا } إذا جمعت آية مريم هذه مع قول الله : { إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا } عرفت أن المراد أن السماوات والأرض يُمسكها رب العزة ويمنعها أن تزول لكن لو قُدر أن هناك شيء له أثر على السماوات والأرض لكانت ذنوب ومعاصي بني آدم لكن تلك الذنوب ليست بأوسع ولا أعظم من رحمة الله قال ربنا : { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ } والشقي من يسمع هذه ولا يتوب إلى ربه، من يسمع هذه ولا يتوب إلى ربه والدين يسر والإسلام وسط والله يقول : { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ } والإنسان إذا أخذ دينه بيسر مشى فيه فإن شدد على نفسه شُدد عليه .
نعود للآيات { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ۚ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ } أي تخرجون من الأرض { وَلَهُ} لام مُلك {مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ } أي خاضعون { قَانِتُونَ } يعني خاضعون لكن قنت في اللغة: تأتي على معانٍ عدة سنقف هنا عند معنيين : الخشوع والدعاء في الوتر.
 القلوب إذا طهُرت وصفت سهل أن يؤثر فيها أي شيء ليس سهلاً يعني ينكسها والعياذ بالله لا ، أقصد أن القلب إذا صفى وكمُل طهره لم يعد يقبل أن ينغصه شيء، فأنت إذا أتيت إلى جدار داكن لو وضعت فيه أي شيء كثير من العلل ما تظهر لأن الجدار داكن لكن لو أتيت بجدار زجاجي صافي فأدنى شيء يظهر فيه واضح ؟ من أكملُ بني آدم طُهر قلب ؟ النبي صلى الله عليه وسلم لا أحد أكبر منه ، يوجد صحابي اسمه أبو جهم أهدى للنبي صلى الله عليه وسلم خميصة - الخميصة كساء- لكن فيه علمان -علمان يعني زينتان - فيه ماذا ؟ زينتان مُوشّح .. مُزين .. مُزخرف شي من هذا - لكن ليس بتلك السعة لكن أنا أُقرب المعنى لا أقصد التحديد - المهم أنه ليس من غير علم، هذا هدية من أبي جهم للنبي صلى الله عليه وسلم إكرام أبي جهم ماذا يحصل ؟ يلبسها النبي صلى الله عليه وسلم فلما لبسها وأراد أن يصلي نظر للزينة التي فيها يظهر أن العلمين في اليد أو ما أشبه ذلك فلما فرغ من صلاته نزعها وقال : ردُوها على أبي جهم وليبعث لي بجانيته - بجانيته كساء ليس عليه زينة - غليظ ليس عليه زينة.
 الآن هذا مُهديها للنبي صلى الله عليه وسلم لكن تطييباً لخاطره أراد أن يُبين له أنني ما رددتها عليك إستخفافاً بك ولا نقص فيك لكن أنا نبي الأمة ولا شيء أملكه أعظم من ديني وخشوعي في صلاتي فلا يُعقل أن أُضيّع صلاتي من أجل أن تقول قِبل النبي هديتي لكن قال عليه الصلاة والسلام : ( وليبعث لي ) وبعث له بالكساء الغليظ غير المُهدى أصلاً حتى يشعره بتطييب خاطره وجاء في الروايات ( فإنها ألهتني عن صلاتي ) في بعض الروايات ( كادت أن تلهيني عن صلاتي ) ربما أحدنا - وأنا أولكم - لو لبِس مثل هذا لا تؤثر في خشوعه بمعنى هو أصلاً مُقصِّر من غير أن يراها .. واضح ؟ نحن أصلاً مقصرون من غير أن نلتفت إلى هذا ، هذا أعظم لكن كمال طهرة وصفاء قلبه صلى الله عليه وسلم.
/ شيء آخر - ولا تغضبوا مني - مما ابتُلي به الناس الآن شاشات الجوالات يضعون عليها صوراً لمن يحبون أنا لا أتكلم عن حلال ولا عن حرام لكن أقول حسنٌ أن لا تفعل ولا تجعل شيئاً تتعلق به مرئً ولا مسمعاً حتى لا يعرف قلبك أحداً إلا الله، أجِلّ من تحب بطرائق أخرى، أنصرهم .. أدعوا لهم .. استغفر لهم .. اعتمر عنهم - إن كانوا أمواتاً - حجّ .. تصدق، بأي طريقة أخرى لكن لا تُعوِّد نفسك يتعلق بشيء تعظيماً وإجلالاً ومحبة غير الله .أصلاً بوضوح والله لا أحد يستحق هذا إلا الله .
فردَّ النبي صلى الله عليه وسلم الخميصة إلى أبي جهم وأكمل بعد ذلك صلواته صلوات الله وسلامه عليه هذا الجزء الأول من اللقاء في قضية القنوت وقلت أن الثاني سنتكلم فيه عن القنوت الذي هو في الوتر.
 الوتر تُختم به صلاة الليل وقد جاء في الحديث الصحيح : أن النبي صلى الله عليه وسلم علّم سِبطه المبارك الحسن بن علي رضي الله تعالى عنه وأرضاه علّمه ماذا يقول في دعاء القنوت وكان الحسن يومئذ صبياً - إذ أن الحسن لما قُبض رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يتجاوز ثمان أو تسع سنوات على الأكثر - فعلّمه أن يقول : 
( اللهم اهدنا فيمن هديت وعافنا في من عافيت وتولنا فيمن توليت وأصرف عنا شر ما قضيت فإنك تقضي ولا يُقضى عليك إنه لا يعز من عاديت ولا يذل من واليت )
تلاحظ أنها كلمات معدودة يسيرة، هذا القنوت يُقال في الدعاء واختلف العلماء نقلاً عن الصحابة متى يكون القنوت أي متى يدعو الإنسان قبل الركوع أو بعده ؟ المحفوظ عن أنس رضي الله عنه وأرضاه أن القنوت إذا كان لحاجة يكون بعد الركوع وإذا كان لغير حاجة يكون قبل الركوع . الآن قنوت الوتر لحاجة أو لغير حاجة ؟ لغير حاجة فيكون قبل الركوع لكن نُقِل عن غير أنس رضي الله تعالى عنه وأرضاه أنه يكون بعد الركوع.
 على هذا في المسألة نقل عن الصحابة - وكفى بهديهم هديا رضوان الله عليهم - فمن قنت قبل الركوع أو قنت بعد الركوع لا يُنكَر عليه لثبوت الأمرين عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم .. واضح ؟ هذا الأول .
 الأمر الثاني : الدعاء في الركوع الأصل عدم الإطالة وعفى الله وغفر لكثير من أئمتنا في زماننا هذا الإطالة في دعاء القنوت غير مشروعة البتة .. هذا واحد.
 الأمر الثاني : نص العلماء على أن الأصل في الدعاء التضرع لا التغني ، التغني ليس المقصود الغناء حاشَ للأئمة أن يكون غناء لكن المقصود لا يُقال دعاء الوتر على هيئة ألحان لا يقال على هيئة ألحان وإنما الدعاء يدعو الإنسان دعاء مُتضرعا وبعض أئمتنا - وفقنا الله وإياهم لكل خير وهم على الرأس والعين إلا أنه من باب تبيين الحق للناس - يقرؤن الدعاء كما يقرؤون القرآن حتى في الحركات والإدغام والإظهار، قراءة القرآن شيء والدعاء شيء آخر، هذا الدعاء مفرداته ليست قرآن لا يُطبق عليها أحكام التجويد ثم تُقرأ بنفس الطريقة التي يُقرأ بها القرآن ثم لا حاجة للإطالة . ثم إذا كنا ندعو في رمضان كله - والأفضل أن لا يُفعل - لكن لو فرضنا أنه دعى في رمضان كله وقد بيّت أصلاً أن يدعو في رمضان كله فبالإمكان أن يُفرّق دعاءه، مثلاً إذا دعى لولي الأمر - وهذا من أعظم حقوقه - دعى اليوم لولي الأمر غداً لولي الأمر بعد غد يدعو للوالدين بعد غد يدعو مثلا للأحداث الموجودة -مثلاً- أن يرفع الله الضر عن المسلمين، في يوم يدعو لمن ابتُلي بالدين، بعد غد ..هكذا ، لكن هو في كل ليلة يريد أن يجمعها جميعاً فيطول هذا على الناس كثيراً ويشُق عليهم ويُصبح بالنسبة لهم عادة أكثر منه عبادة، وهذا الكل يشعر به وقلّما أحد يُبيّنه للناس لا نقول يُنكره، هؤلاء أئمتنا وسادتنا وخيارنا لا يُتَهمون في دينهم لكن المسألة مسألة بيان حق للناس والدعاء من أعظم العبادات وأجلها بل قال عليه الصلاة والسلام : ( الدعاء هو العبادة ) فلا ينبغي أن نخرج به عن مساره الحقّ خاصة في القُنوت، والنبي صلى الله عليه وسلم لما علّم الحسن - سبطه - جعلها كلمات يسيرات .
 رفعُ اليدين ثبت عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه أنه كان يرفع يديه في دعاء القنوت، بعض الأئمة كالإمام مالك رحمه الله في المشهور من أقوله من مذهبه أنه لا يرى دعاء القنوت، وفي بعض أقواله أنه يراه في النصف الثاني من رمضان ، لكن نقول : يصح في كل وقت يصح في رمضان يصح في غيره فعله أئمة أخيار لا مجال لمنعه لكن يكون بقصد حتى يُرغّب للناس الدين بل هذا هو الحق ليس يُرغّب يعني يُغيّر في الدين ليُرغّب الناس، مُحال، لكن المُفترض أن الناس يفقهوا دينهم ويُنقل لهم بكل يسر والله عز وجل قال في الصلاة وهي الصلاة : { قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَٰنَ ۖ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ ۚ وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَٰلِكَ سَبِيلًا } فكيف بالدعاء الذي هو تبع في الصلاة وليس أصلاً هذا القنوت بمعنى الدعاء.
 يبقى الإنسان في بيته في غير رمضان عندما يصلي أحدنا في بيته يقنُت لأن هذا ثابت، النبي صلى الله عليه وسلم علّمه الحسن لكن ليس هناك دليل على أنه يقنت في كل وتر بمعنى بعض الليالي تدعو وبعض الليالي لا تدعُ في قنوتك لكن تدعو أين ؟ في سجودك لا تدعُ في قنوتك لكن ادعُ في سجودك، كلنا فقراء إلى الله تدعو في السجود لكن لا يلزم أن كل وتر تُوتره أن ترفع يديك فيه .
/ بقيت قضية مسح الوجه باليدين بعد الفراغ من الدعاء الأحاديث الواردة في الباب لا تقوم بها حُجّة يعني من الصعب القول بها ومع ذلك يعني لا يُعنّف على من فعلها لكن أحب إليّ ألا يفعل العبد ذلك كما قلت لا نعلم دليلاً تنهض به الحجة وتقوم في أن يمسح الإنسان وجهه بعد الدعاء وإن كنت لا أستطيع أن أُثرِّب كثيراً على من يفعله والمراد الإقبال بالقلوب على الله الكبير المتعال .
هذا ما تيسر إيراده وتهيأ إعداده وأعان الله على قوله وصلى الله على محمد والحمد لله رب العالمين .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق