السبت، 2 يناير 2016

الحلقــ الثانية والعشرون ـــة/ بعنوان ::فضل الله ::


وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له خالق الكون بما فيه وجامع الناس ليوم لا ريب فيه وأشهد أن سيدنا محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفي أثره وأتبع هديه بإحسان إلى يوم الدين . أما بعد ..
درسنا في هذا اللقاء المبارك عنوانه فضل الله وفضل مضاف ولفظ الجلالة مضاف إليه، إذاً هذا في نسقنا على شروطنا التي أشترطناها في أول اللقاء . الحديث عن هذا متشعب لكننا نحاول ما أمكن أن نُجمله .
شرع لنا ربنا جل وعلا أن نتحرى فضله، شرع لنا ربنا أن نتحرى فضله فرسولنا صلى الله عليه وسلم يقول : ( إذا سمعتم صوت الديَكة فاسألوا الله من فضله فإنها رأت مَلَكاً )
فلما كان هذا موطن نزول مَلَك والملائكة غالباً لا يقتربون إلا من موطن خير ومظنة فلاح شرع لنا صلى الله عليه وسلم أن ندعوا ثم علّمنا بمَ ندعوا نسأل الله من فضله ، علّمنا رسولنا صلى الله عليه وسلم أنه لا يستغني عن فضل الله أحد فإن الله ذكر لنا في القرآن نبأ نبيِّه وعبده أيوب وبيّن لنا عظيم صبره وورد في الخبر الصحيح عن نبينا عليه السلام أن أيوب لما عافاه الله وشافاه وقام و رُدَّ له أهله بعث الله إليه رِجل جراد من ذهب رِجل جراد مثل ما نقول -سرب طير- يعني سرب من الجراد من ذهب فجعل وهو نبي الله يحثو في ثوبه يعني يجمع الجراد في ثوبه هذا وهو الذي صبر ثمانية عشر عاماً فقال له ربه -وهو أعلم - : ( يا أيوب ألم أكن قد أغنيتك عما ترى ؟ قال : بلى ولكن لا غنى لي عن فضلك يا رب ) فالمؤمن يبقى في كل أحواله مُتعرضاً لفضل الله . ينبغي أن تعلم أن أعظم الفضل العلم بالله قال عز وجل عن نبيين كريمين قال : { وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا ۖ وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَىٰ كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ } فذكر الله أنه آتاهما علماً وذكر أنهما عليهما السلام جعلا ذلك فضلاً من الله تبارك وتعالى ورحمة، وربنا يقول كما في سورة يونس : { قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَٰلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ } وأعظم الفضل كثير لكن من أعظمه: أن يُوَفق الإنسان لعبادة حتى يُتِمها كأن يُوفق المؤمن لصيام شهر رمضان وقيامه تماماً فهذا من أعظم الفضل الذي يمُنّ به الله على عباده رزقني الله وإياكم هذا الفضل العظيم.
 كذلك ينبغي أن تنظر وتقرأ.. تتأمل فيمن سلف، فيمن منَّ الله عليهم بالفضل حتى حتى يُورِثك ذلك سؤال لله أن يؤتيك كما أتاه لأن الإنسان إذا رأي فضل الله ونِعَمَه على غيره سينقلب إلى أحد رجلين : إما رجل -والعياذ بالله- غلب عليه الدغل والحسد والجهل بالله فيحسدوا أولائك الذين مَنّ الله عليهم بفضله، وإما أن يجعل من ذلك عِبرة وآية ويعلم أن الذي تفضّل عليهم حي لا يموت فيسأل الله جل وعلا من فضله ولو تأملنا بعضا مِمن تفضّل الله عليهم:
/ الصديق أبو بكر -رضي الله تعالى عنه وأرضاه- أسلم أبواه وأبناؤه وبناته وزوجته ولم يؤتِ الله أحدا من الكبار المهاجرين الأولين هذه المنقبة إلا لِمن ؟ إلا لأبي بكر أسلم أبواه -أبوه وأمه- وزوجه وأبناؤه وبناته جميعاً دخلوا في الإسلام وهذه لم تؤتَ لكبار الأخيار مثل عمر وعثمان وعلي رضوان الله تعالى عليهم أجمعين فهؤلاء على عُلو كعبهم وجليل فضلهم لم يُعطَوا مثل هذا الفضل، وأبو قحافة والد أبو بكر من من بني تيم ولم يكن بنو تيم -قرشيون- لكنهم لم يكونوا في السؤدد مثل بني هاشم وبني مخزوم الذي منهم أبو جهل ولا بني أمية الذي منهم أبو سفيان ومع ذلك أورثه الله عز وجل الخلافة وأبوه -أبو قحافة- كان حياً يوم مات رسول الله صلى الله عليه وسلم فارتجت مكة وهو يومئذ كبير طاعن في السن كان أبو بكر يومها عمره واحد وستون فكيف بعمر أبيه، فلما علم الناس يبكون وهو كفيف قال ما أصاب الناس ؟ قالوا : مات نبي الله مات محمد صلى الله عليه وسلم ، قال من ولِي الناس بعده ؟ الآن أين أبو بكر ؟ في المدينة وأبوه أين ؟ في مكة -لا هجرة بعد الفتح- قالوا : ابنك فتعجب لأنه مازال في ثقافته على نسق السابقين أن العرب مُحال تُولِّي أحد من بني تيم، نسي لكِبر سنه ليس له سابقة عظيمة أن هذا الأمر كله جعله الله برحمته وفضله وإحسانه لابنه لصبره وجلَده وأول من أسلم، قالوا: تولّى الناس ابنك قال : ورضيت العرب ؟ لم يكن يصدق أن العرب قبِلت أن أبا بكر إمام وخليفة مع أن الناس جميعاً سلّموه لكن كما قلت المنطلق الثقافي يختلف من شخص إلى آخر والمقصود فضل الله عز وجل على هذا الصدِّيق المبارك رضوان الله تعالى عليه .
/ مر معنا عفراء التي ذكرناها في بعض الدروس وأن سبعة من أبنائها شهدوا بدراً، هذا ليس بالأمر الهين، هذا فضل من الله عز وجل واسع وغيرهم كثير.
 تأتي للعلم يجعل الله جل وعلا بعض الناس إماماً في الدين يتبعه الخلق صغاراً وكباراً وهذا من فضل الله تبارك وتعالى عليه إذا رزقه الله جل وعلا الإخلاص وقد عرفت الأمة أئمة كبار عبر التاريخ كله رغم أنهم في أول حياتهم عانوا ما عانوا لكن بعد ذلك بوأهم الله جل وعلا أعلى المنازل:
/ مالِك -رحمه الله- ألَّف الموطأ جمع أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في البلدة المباركة في المدينة ولا يوجد بين أيدينا كتاب اليوم غير القرآن أسبق من كتاب مالِك يقرأه الناس، فأقدم كتاب طُبِع ونُشِر يقرأه الناس اليوم موطأ مالِك ولا أعلم حتى ساعتي هذه أن كتاباً مطبوعاً يقرأه الناس كان قبل موطأ مالِك -رحمه الله- وهذا فضل واسع .
/ الإمام البخاري -رحمه الله- هل يُعقل الآن أن أحداً يطلب علماً أو يرقى منبراً أو يتصدر لخطبة جُمعة لم يقرأ صحيح البخاري ولا يستشهد به ؟ مُحال ، لا يمكن أن يُوصف به أنه طالب علم ولا يمكن أم يُوصف بأن قوله قول دين وهذا الرجل أخرجه الله من بخارى وجعله من صغره يتعلّق بالعلم وهذا فضل الله جل وعلا عليه ولم يكن الناس قبله يعرفوا أن يجمعوا حديثا صحيحا، فقط كانوا يخلطون حتى جاء هو -رحمه الله- فاشترط أن يكون ما يجمعه من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم متصل السند إليه صلوات الله وسلامه عليه صحيحاً ووضع شروطاً وألتزم بها ثم أخذ يكتبه ثم أتى المدينة فأتى في الروضة النبوية فإذا كانت الليلة المُقمرة أوغيرها أتى بمصباح وأخذ يكتب الحديث في روضة النبي صلى الله عليه وسلم غير بعيد عن قبره حتى جمع للناس هذا الكتاب -رحمه الله تعالى رحمة واسعة- ثم انظر فضل الله جل وعلا عليه هو اليوم في قبره والناس ما زالوا إلى الآن يرقبون هذا الفضل ويتحدثون عنه وكلما ذكر أحد حديثا صحيحا قال رواه البخاري فإذا قال رواه البخاري اطمأن السامعون وعلِموا أن أي جهد عظيم بذله هذا الإمام في جمع الكلم الطيب الصحيح عن رسولنا صلى الله عليه وسلم، هذا إذا علِمته وأنت طالب علِم علمت أن الذي أفاء عليه حي لا يموت.
/ كذلك يوجد من أهل الإسلام من منّ الله عليهم بالثراء منّ الله عليهم بالمال وآتاهم جل وعلا من فضله وحقٌ عليهم أن يُعينوا الناس، يعينوا الفقراء، يعينوا المساكين، يعينوا ذوي القربات، يعينوا ذوي الحاجات من مال الله الذي -جل وعلا- آتاهم لأن هذا من دلائل شُكر النعمة { قَالَ هَٰذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ ۖ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ } ولقد كان أهل الإسلام من قبل وفي مقدمتهم عثمان -رضي الله تعالى عنه وأرضاه- وقد رُوي عن النبي عليه الصلاة والسلام أن عثمان لما جهّز جيش العسرة ثم أتى بدنانير يثقل حملُها ووضعها في حِجر رسول الله عليه الصلاة والسلام ورد أن النبي أخذ يقلِّبها ويقول : (ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم) لأن الإنفاق في سبيل الله ليس بالأمر الهين والأمة المسلمة في حاجة مُلِحة لأن يأتي أثراياؤها..أغنياؤها ينفقوا في سبيل الله ولكن تأتي على الناس دمعة أساً ممن يرزقهم الله عز وجل مال ثم ينفقونه على الضد ويجعلونه فيما حرم الله وينفقون عليها دون أن يرقبوا البيوت المسلمة أن لا تُغرَّب، والبيوت المطمئنة أن لا تنتشر فيها الفواحش، والشباب المحرومين أن لا يُعانوا على معصية الله فلما يأتي أحد -عياذ بالله- يأتي بمال آتاه الله عز وجل إياه ولو شاء الله سلبه لَفَعل ومع ذلك يُنفقه في مثل هذه الطرائق وتلكُم المسالك هذا -والعياذ بالله- يبوء صاحبه بإثم عظيم و وزر كبير لكن الله عز وجل يقبل توبة التائبين ومن رجع إلى الله جل وعلا آواه ربه، والمقصود: أن يستصحب كل أحد فضل الله عز وجل عليه لكن إيّاك أن يقتصر فهمك على أن فضل الله مُقتصر على المال أو مُقتصر على العلم فتقول أنا لست ذا مال فأُنفق، ولست ذا علم فأُعلِّم، يرزُقك الله عز وجل العافية فحق على العافية التي هي من أعظم فضل الله عليك أن تجعلها في طاعة ربك، وأن تُري الله عز وجل منك في ليلك ونهارك إقبالك على طاعته ومسابقتك إلى عبادته، أن تحفظ لسانك إلا عن ذكره تبارك اسمه وجل ثناؤه، وأن تحفظ عينك عما حرم، وأن تحفظ أذنك عما نهاك عنه، والله يقول : { وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۚ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا } فهذا فضل من الله واسع.
/ فضل من الله تبارك وتعالى مافيه البلاد من أمن وإجتماع كلمة ووحدة صف ولا يجوز لأحد كائن من كان تحت أي شعار يرفعه أن يُفرِّق جمعها أو يُشتت شملها أو أن يدعوها لأن تحترب أو أن يدعوها لأن تفترق بعد أن جمعها الله، بل المسلم يكون شفيقاً رحيماً بالمؤمنين يحب أن تجتمع كلمتهم، أن تتوحد صفوفهم، أن يتعايشوا فيما بينهم، أن لا يؤذي بعضهم بعضاً، ولا يرفع أحدهم السيف على أخيه .
 تعلَم فضل الله عز وجل أنه جعلك في ديارك مطمئن ولم يجعلك في حاجة إلى المال تنتقل في البلدان والأسفار فتبحث عن لقمة عيش لأبنائك فتنظر إلى إخوانك المُقيمين المسلمين الذين يعيشون بين أظهرنا دفعهم طلب الرزق -وحُق لهم أن يأتوا إلى بلادك- فيطلبوا الرزق من طرائقه وحِلِّه فتنظر إليهم نظرة رحمة وتعاملهم بإنصاف وتتقي الله جل وعلا فيهم وتعلم أن الله قادر على أن يجعلك تغترب كما يغتربون وخاصّة أولائك الضعفاء من النساء اللواتي يعملن في البيوت يتقي الله المؤمن فيهم ويخافه، وإذا جاءت أيام أفراح كليالي العيدين وأمثالهما كما يُفرح زوجته وبناته وأبناءه يُفرحهم، يخشى الله عز وجل فيهم وليس المؤمن العاقل الحصيف من يفرح لوحه وذي عينين ينظر إليه، الربيع ابن خُثيم -رضي الله تعالى عنه وأرضاه- قُدِّم له طعام فدخل عليه رجل فآتاه إياه فقال له أبناؤه : يا أبتاه إن السائل معتوه لا يأتي ما أكل ، قال : إن لم يكن لا يدري فإن الله يدري . وقيل أنه ذات مرة كان يأكل فإذا بكلب مُقعَى خارج السور ينظر إليه فحمل شيئاً من الطعام -مما تأكله الكلاب عادة- وأعطاه إياه فلما سُئل قال : إني لأستحي من الله أن آكل وذو عينين ينظر إليّ.  فكيف بإخواننا المؤمنين المُصلين الذين يُصلُّون معنا ويغدون معنا ويروحون معنا لهم حق عظيم والغربة قاصرة والعرب تقول :
 الفتاة همّ ولو كانت مريم ** والدَّين همّ ولو كان درهم
والغُربة غمّ ولو كانت ميل ** والسؤال ذُل ولو أين السبيل
 فالمقصود أن الغربة لها على عواتق أصحابها شأن عظيم فيُعانوا لا لأجل شيء فيهم لكنهم لأنهم مؤمنون نرقُب رب العزة والجلال فيهم فنخفف عنهم الكُربات رجاء أن يخفف الله تبارك وتعالى عنا .
من فضل الله جل وعلا عليك إن متعك الله تبارك وتعالى بوالديك أحياء أن تبرهما وتتقي الله فيهما وتخفض لهما جناح الذل وتُحسن لهما فيما بقي لهما من العمر حتى يُحسن لك أبناؤك وقبل ذلك تُحقق وصية الله جل وعلا فيهم { وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ } هذا كله من فضل الله الذي يجب أن يراقبه العبد ويعرفه ويتقي الله تبارك اسمه فيه.
 والإنسان إذا جاء يتضجع إلى فراشه وهو في عافية في بدنه وأمن في وطنه يحمد الله جل وعلا على هذه النعمة فإذا ذكر الدعاء الذي شرعه النبي صلى الله عليه وسلم لأمته قبل النوم قال وهو مطمئن مُرتاح البال يستصحب فضل الله عليه : ( اللهم لك أسلمت وبك آمنت وعليك توكلت وإليه لجأت رغبة ورهبة إليك لا ملجأ ولا منجأ منك إلا إليك آمنت بكتابك الذي أنزلت ونبيك الذي أرسلت) يقول عليه الصلاة والسلام لمن علمها إياه ولأصحابة وليكن آخر كلامك ) أي آخر دعائك فيختم كلِمه بهذا الدعاء النبوي والذكر المحمدي الذي علّمه النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه .
 والمراد أيها المباركون يستصحب كل فرد منا فضل الله تبارك وتعالى عليه ومهما بلغ حاله، كل من تبصر في نفسه شاء أم أبى سيجد فضلاً عظيماً من الله عليه لكن إن أراد الله أن يرحمك أراك فضله عليك لتشكره، وإن لم يرد الله أن يرحم أحداً خذله فأعمى بصيرته عن فضله عليه فلم يعد شاكراً له.
 نعوذ بالله من الخذلان والحرمان ونسأله فضله العظيم وأجره الكريم إن ربي لسميع الدعاء وصلى الله على محمد وآله والحمد لله رب العالمين .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق