الثلاثاء، 26 يناير 2016

الحلقــ الخامسة والعشرون ـــة/ ::هذان خصمان :: ٢


انتهينا في الدرس الماضي إلى ماذكرناه من خبر ما كان من مُبارزة عبيده وحمزة وعلي لخصومهم من قريش شيبة وعتبة والوليد بن عتبة وانتهينا إلى أن علي رضي الله تعالى عنه وأرضاه قال : "إن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا احجم الناس واحتدم البأس قدَّم أهله" وزاد علي رضي الله تعالى عنه أن قال : "فقُتِل عبيدة يوم بدر وحمزة يوم أحد وجعفر يوم مؤته".

فهؤلاء كلهم من بني هاشم وبني عبد مناف ومن هذا يُفهَم أن الإنسان إذا قال قولا ثم أتبع قوله بالعمل تبِعه الناس وأما إذا قال قولا ورفع راية ونادى مُنادياً ثم لم يتبِع قوله بالعمل يصبح الناس معذورين إن لم يقبلوا منه قوله ، ولهذا قال علي رضي الله تعالى عنه وأرضاه : "إن النبي كان إذا أحتدم البأس واحجم الناس قدّم أهله" . قلنا أن هؤلاء الثلاثة رضي الله تعالى عليهم بارزوا خصومهم من قريش.
 يقول إبن القيم رحمه الله تعالى رحمة واسعة - الإمام المعروف - يقول "انظر إلى أسمائهم وأحوالهم" يقصد القرشيين يقول : "إن الوليد أول الضعف والشيبة منتهى الضعف وعُتبة من العِتاب والله يقول : { اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً } قال : "فأنظر إلى أحوالهم الثلاثة الوليد أول الضعف وشيبة منتهى الضعف وعُتبة عتب فلحِقهم عتب وضعف وسوء حال" ربط مابين أسمائهم وأحوالهم. ماذا قال ابن القيم رحمه الله في الزاد هذه فائدة لكنها ليست مقصوده عندي لا أراها بالأهمية في عَرضي الذي أريد أن أصل إليه شيء آخر.
 قلنا قبل أن يخرج علي وحمزة وعبيده رضوان الله عليهم من خرج؟ مُعاذ ومُعوّذ وعبدالله بن رواحة، انتهينا إلى أن عبدالله أبن رواحة لا علاقة له بمعاذ أو معوذ لانهما أخوان يقال لهما مُعاذ ومُعوذ ابنا عفراء فهمنا أن اسم أمهما عفراء معنى كلمة عفراء : الأرض البيضاء التي لم توطأ وكذلك الليلة الثالثة عشر من كل شهر قمري تسمى عفراء، هذه المرأه لا أعلم امرأة أشرف منها عطاءً بعد أمهات المؤمنين رضوان الله تعالى عليهن أجمعين بلا استثناء وبنات رسول الله صلى الله عليه وسلم، تزوجت رجلا اسمه الحارث أنجبت منه عوف ومُعاذ ومُعوّذ، مات عنها تزوجت رجلا اسمه الليث - تقريبا هكذا اسمه - فأنجبت منه أربعه خالد وعامر وإياس وعاقل هؤلاء كم أربعة وأنجبت من الحارث كم ثلاثة، مجموعهم سبعة جميعهم شهدوا بدرا، لا يمكن يُتصور هذا عقلا لكن الجميع السبعة إخوة لأم بالنسبة بعضهم لبعض جميعا شهدوا بدرا رضوان الله تعالى عليهم وأرضاهم بالله مع اجلالنا لنساء المسلمين عبر الدهر كله والحمدلله مازالت بيوت المسلمين عامرة بالأمهات الطاهرات الشريفات العفيفات زادهن الله من فضله لكن أي شرف من امرأة تبيت في مرقدها وسبعة من أبنائها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بدر هذا حظ عظيم ما يؤتاه كل أحد ولا يكتبه الله عزوجل لكل أحد لكن كما قال ربنا في كتابه : { ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ } هؤلاء السبعة رضوان الله عليهم جميعا شهدوا مع النبي صلى الله عليهم وسلم بدراً.
 يقابلها في الشرف امرأة أخرى لكن هذه في شرف الأصهار يعني امرأه يكون منها بنات فيتزوجون رجال أو أشراف معروفين فتكون هذه المرأة أطيب أصهارا هذه أسمها هند بنت عوف تزوجت رجلين، رجل ثم مات عنها ثم تزوجت رجل آخر، ثم أنجبت من اﻷول والثاني بنات. نأخذ سيرة هؤلاء البنات أين ذهبوا :
- بنت أسمها ميمونة بنت الحارث هذه  تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم
- وبنت أخرى يُقال لها أم الفضل تزوجها العباس أبن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم
- وبنت يُقال لها لُبابة الصغرى تزوجها الوليد بن المغيرة وأنجب منها خالد بن الوليد ولذلك خالد كان يدخل على النبي صلى الله عليه وسلم على بيت ميمونة لأنها خالته.
 هؤلاء كم ؟ ثلاثة .
 تزوجت رجلا من خثعم - وخثعم قبيلة معروفة سامقة - تزوجت رجلا من خثعم أنجبت منه:
- أسماء، من تزوج أسماء ؟ جعفر ثم أبو بكر ثم علي هذه أسماء بنت عميس من أمها ؟ هند .
- وأنجبت بنتا اسمها أروى، من تزوجها ؟ حمزة بن عبدالمطلب رضي الله تعالى عنه وأرضاه
 فأنت تتصور أم يأتيها المتزوجون لبناتها إحداهن يأتي خالد إبن الوليد والعباس بن عبدالمطلب وحمزة بن عبدالمطلب وجعفر بن أبي طالب وأعلى من هؤلاء كلهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
 يُقال - يعني تاريخيا - فلا يُعرف امرأة أكرم أصهارا من هذه المرأة وهذا ظاهر أنه حق لأنه بالاستقراء واضح يدل عليه.
/ نعود لقول الله عزوجل : { هَٰذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ } وتحدثنا عن السبعة الذين شهدوا بدرا وعن هذه المرأة المقابلة لها التي كانت أكثر الناس أصهارا.
 ثم لما ذكر الله قال : { هَٰذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ ۖ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ} وذكر عذابهم ثم ذكر جل وعلا مآل أهل الجنة {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} وقال في نهاية الآيات : { وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ } والمراد: أن الله عزوجل كما ذكر في أول اﻵية إجمالاً في التفريق بين هذين الخصمين كان التفصيل بأن هؤلاء يدخلون النار { وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ * كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ } ذكر تفصيل عذاب أهل النار ثم ذكر تفصيل نعيم أهل الجنة ليُبين جل وعلا الحُكم في هذين الخصمين.
 لكن ينبغي أن يُعلم أن الخصومة العقدية لها موطنان : موطن حرب وموطن سِلم، ومن الخطأ أن يجعل اﻹنسان موطن الحرب مقام السِلم أو مقام السِلم مقام الحرب والأدلة على هذا ظاهرة من سيرته صلى الله عليه وسلم فنبينا عليه الصلاة والسلام في ميادين المعركة كان يُحرِّض على القتال ويسبق الجيش والناس يفرون إليه صلوات الله وسلامه عليه ويقول يوم حُنين أن النبي لا كذب أنا ابن عبدالمطلب، وعندما يعطي اﻷمان عليه الصلاة والسلام للناس ولمن خالفه دينا وقبِل عليه الصلاة والسلام أن يعيش هذا معهم فإن ذلكم التحريض وذلكم رفع السيف ينتفي، ينتفي ويؤول الأمر إلى ما يُعرف بالتعايش إن كان هؤلاء أهل ذمة قبِلوا أن يعيشوا في بلاد الإسلام أو كان بيننا وبينهم صلح،  وأظهر الأدلة على هذا أن النبي عليه الصلاة والسلام - وهذا مرّ معنا كثيرا - تقول أم المؤمنين الطاهرة المطهرة عائشة رضي الله تعالى عنها وأرضاها : إن النبي عليه الصلاة والسلام يوم مات ودرعه مرهونة عند يهودي في إكالة من شعير . وهذا اليهودي أين كان يسكن المدينة وكان له متجر يبيع فيه شعير فلم يكن أحد من أهل المدينة يُقاطعه ويُمانعه وإلا ما بقي فيها لأنه لن يُرزق لكنه كان باقيا في متجره يبيع ويشتري وممن كان يأتي إليه ويعرف أنه يبيع شعيراً وأنه يُقرِض رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس هذا في أول الإسلام وضعفه إنما هذا في أُخريات حياته صلوات الله وسلامه عليه بعد أن استقر الأمر ولم يعد هناك مجال للنسخ فكان عليه الصلاة والسلام يأتيه فلما أتاه يشتري منه شعيرا كان النبي عليه السلام لما شعر بدنو أجله لم يبقِ شيئا من الدنانير في البيت كان عنده تسعة دنانير تصدق بها فلم يكن في يديه شيء من المال وأهله لهم حق يريدون أن يطعموا ولا يمكن لنبينا عليه الصلاة والسلام أن يوصينا بأهلنا خيراً وهو يضيع أهله حاشاه، فجاء يشتري شعيرا واليهودي يتعامل معه على أنه تاجر فأعطاه كيلة من شعير ورسول الله لا يملك قيمتها - ثمنها - فأعطاه النبي عليه الصلاة والسلام دِرعاً عنده، تبقى الدرع هذه رهن حتى يرد له المال فيرد له اليهودي الدرع .. واضح ؟ هذا كله في مجتمع مدني فيه تُجار كرام صفوة عظام مثل أبي بكر مثل عثمان مثل غيرهما رضوان الله تعالى عليهم أجمعين لكن المقصود: أن ثمة أشياء فيها نوع من التعايش جاء به اﻹسلام ولا يأتين أحد يريد أن يُظهر من الورع ما يصادم به سنة النبي صلى الله عليه وسلم نحن جميعا معشر المسلمين هوانا المفترض شرعاً أنه تبع لمن ؟ لرسولنا صلى الله عليه وسلم ، واﻹنسان عندما يسير بثقة في دينه لا يمكن أن - إذا كان على عِلم - أن يُغيره نزعات أو كلمات أو أشياء يسمعها من هنا وهناك . أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه سار من المدينة إلى الشام ليستلم بيت المقدس فلما دخل بيت المقدس وجد الصخرة التي تعظمها اليهود وعليها شيء من قمامة فجاء كعب اﻷحبار وأرشد عمر..دل عمر..نصح عمر أن يُصلي مستقبلا الصخرة فقال عمر رضي الله تعالى عنه وأرضاه : غلبتك يهوديتك ، مع أن كعباً مسلم لكن يقول له يعني في الحاله هذي في نُصحك هذي عرق اليهودية فيك غلب -غلبتك يهوديتك- ولم يقبل أن يجعل الصخرة أمامه وتقدم حتى يجعل الصخرة خلفه لكنه في الوقت نفسه لما رأى أن هذه الصخرة تُعظمها يهود جاء وحمل القمامة عنها وأخذ يُحسِّنها - ينظفها - فأصاب رضي الله عنه وأرضاه وهو عمر أصاب أمرين:
 الأمر الأول : أنه لم يقبل أن يُقدِّم في معتقده أحد على معتقده
 والأمر الثاني : لم يرد وهو لتوه يستلم بيت المقدس أن ينازع الناس في معتقدات يعظمونها فيتألب الناس ويتكالبون على الاسلام ويشغِّبوا عليه فلما رأى أن هذا أمرا كانت اﻷنبياء من قبل تفعله أقام القمامة وأزاحها عن الصخره لكنه لم يجعل الصخرة قبلة لأن الله جعل مكة قبلة وهو إن كان بالإمكان أن يستقبل الصخرة والمدينة ومكة في آن واحد وهذا الذي أراده كعب لكنه نفرض لو أن هذه الصخرة وهنا الكعبة لو وقف هنا فهو مستقبل الكعبة ولو كانت الصخرة بينه وبين الكعبة لكن عمر وقف هاهنا جعل الصخرة وراء ظهره والقبلة أمامه .. ظاهر هذا ؟ لايريد أن يعظّم الصخرة التي كانت تعظمها اليهود تعظيماً شرعيا لكن تأدبا معهم جاء رضي الله تعالى عنه وأرضاه ومسح الأذى عنها والمقصود: أن العاقل يعلم الطريقة المُثلى لبيان عظمة هذا الدين وكيف نشرَه الكبار الأوائل من الأئمة الأجلاء في مقدمتهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في اﻷرض .
 لما تُقرأ سيرة عمر رضوان الله تعالى عليه ينبغي أن تُقرأ بما فيها من جلال وكمال آتاه الله عزوجل إياه وقد مر معنا النبي عليه الصلاة والسلام قال : (فلم أرِ عبقريا يفري فريه) رضوان الله تعالى عليه، وكون الإسان يعطى قدرة على سياسة الناس يحمي حوزة الدين يُرزق هيبه - يهابه أهل الكفر - وفي الوقت نفسه يستطيع أن يستجلب العامة هذا عطاء عظيم لا يعطاه كل أحد، وأحيان تجد على الضد من يستجلِب الكبار ويخسر العامة مع أنك إذا كنت تريد أن تتحدث باسم الإسلام العظيم فينبغي أن لا تجعل لأحدٍ طريقاً على الإسلام لكن الأحكام الشرعية الفقهية لا يجوز لأحد أن يغير شيئاً فيها البتة ولو قال لمصلحة الدعوة - هذا سيأتي إن شاء الله في درس مستقل - لايجوز لأحدٍ كائناً من كان أن يغير فيها بحجة أن ذلك فيه مصلحة مصلحة للدعوة والمقصود عظمة الإسلام، لكن هذا الإسلام حمله إلينا رجال عظام فمهمة من يُدرِّس ويُعلِّم ويُربي في الجامعات والمدارس والأروقة والمساجد أن ينشئ جيلاً عظيما يفقه الإسلام حقا كما فقهه السابقون حتى يحمله إلى الناس . هذا ما تيسر إراده وتهيأ إعداده وأعان الله على قوله والحمدلله رب العالمين .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق