الحمد لله وإن كان يقل مع حق جلاله حمد الحامدين والصلاة والسلام على رسوله المبعوث رحمة للعالمين وبعد ..
وقول الله عز وجل في سورة النبأ : { إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا } إلى أن قال ربنا : { جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا } فنتعرض لعطاء في النبأ وعطاء التي في الإسراء وما قبلهن ، ما بعدهن من آيات -بإذن الله تعالى- كما قلت سلفاً في لقائين متتابعين.
/ أما قول العلي الكبير : { وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ } الأصل أن نوحاً هو أول الرسل فقبل نوح لم تكن هناك أمم مُكذِّبة فلما لم تكن هناك أمم مُكذِّبة لم يكن هناك إهلاك بعذاب لماذا ؟ لا يكون هناك عذاب استئصال وإنما يكون هناك موت طبعي مما جرت به عادة الله أن يقبض به الأرواح وقوله جل ذكره : { وَكَمْ } هذه تسمى كم الخبرية كناية عن الكثرة.
{ وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ } من الأمم { مِنْ بَعْدِ نُوحٍ } أما قبل نوح فلم يكن هناك إهلاك لم يبدأ الإهلاك إلا مع قوم نوح عليه السلام لأن نوحاً عليه السلام أول رسل الله إلى الأرض، ربنا يقول : { كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً } أي على دين واحد ثم لما كان الأنبياء والمرسلون قد بُعِثوا بُعثوا بعد نوح عليه الصلة والسلام { وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ ۗ وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا}.
ثم ذكر الله عز وجل أن الناس في طريقهم إلى ربهم، في حياتهم، في غدوهم ورواحهم هم أحد اثنين:
قال في الأول : { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا }
{ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ } المراد أنه أحد هذين الاثنين لا هم له في الآخرة إما لعدم إيمانه بها أصلاً أو لضعف إيمانه بها لكن الأصل أن الحديث ينصرف إلى الكفار غير المؤمنين بالله واليوم الآخر فقال ربنا : { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ } أي يريد الدنيا فهي مبلغ علمه ومنتهى همِه وغاية مطلبِه، { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ } ما صنيعنا معه { عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ } فالتقييد هنا ينطبق على من؟ على اثنين، من هم الاثنان ؟ { عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ } من الأشياء فليس كل مطلوب طلبه نُعطيه إياه إذاًً هنا القيد حاصل على المطلوب لا على الطالب.
ثم قال ربنا : { عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ } { لِمَنْ نُرِيدُ } هنا قيد على من ؟ على الطالب.
والمعنى - حتى يظهر لك - الكفار مثلاً بعضهم - غير اليهود والنصارى - اليهود والنصارى يؤمنون بلقاء الله يؤمنون باليوم الآخر {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَىٰ } لكن فلنأتي لرجل لا دين له، لا يؤمن بالآخرة أو يهودي ونصراني تبعٌ لا يؤمن بالله ولقائه - يهودية محرفة أو نصرانية محرفة بالغة التحريف - المقصود هذا الرجل الكافر يقول : لا أريد شيئاً من الآخرة ولي مطالب دنيوية فيوجد جمّ غفير من الناس هذا حالهم فالآية ماذا تقول ؟ تقول : هذا الجم الغفير من الناس ليس كلهم نعطيهم ما يريدون وليس كل من اصطفيناهم..اخترناهم ارتضينا أن نعطيهم نعطيهم كل ما يريدون .. واضح ؟ فلا نعطيهم كل ما يريدون ولا نعطي كل أحد ولكن مع ذلك لا يُمنَع من فضل الله أحد لا كافر ولا مؤمن لكن هذا ينزل بقدر .
قال ربنا : { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ } نحن { لِمَنْ نُرِيدُ } نحن ، كلها تعود على رب العزة رب العظمة والجلال فقال جل وعلا : { مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ } أي بعد تلك العاجلة { جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا } فأخبر جل وعلا أنه وإن أوتي شيئاً من الحظ والنعيم الذي طلبه في الدنيا إلا أنه ليس له عند الله يوم القيامة شيء أبداً فيُوفى كل أحد عمل عملاً حظه في الدنيا من أهل الكفر قال ربنا : { ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا } { مَذْمُومًا ً} بفعله { مَدْحُورًا } بصنيعه وكل ذلك عائد إلى شِركه وكفره بربه تبارك اسمه وجل ثناؤه .
/ إذاًً صدر الآيات يتحدث عن حال أهل الإشراك لما تحدث الله عن حال أهل الإشراك قابلهم بالحديث عن حال أهل الإيمان فقال جل ذكره : { وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ } فذكر عز وجل كم شرطا ؟ شرطين:
الشرط الأول وهو مؤخر : أن يكون مؤمناً إذ لا يقبل الله من كافر عملاً
والشرط الذي يليه بعد الإيمان : أن يسعى للآخرة سعيها فلا بد من سعي ولا بد أن يكون هذا السعي متابعة لنبينا وسيدنا وحبيبنا محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الإيمان الذي جعله الله جل وعلا شرطاً في قبول العمل ذُكِر كثيراً في القرآن ربنا عز وجل يقول : { وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ } كما قال هنا : { وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَٰئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا } ومعنى { مَشْكُورًا } أن الله يغفر لهم السيئات ويضاعف لهم الحسنات .
ثم أخبر عز وجل عن حال الفريقين فأتى بالتنوين المسمى تنوين عِوض قال : { كُلًّا } من أهل العاجلة وأهل الآجلة { كلاً نمد } من الذي يُمِدهم ؟ رب العزة ، أين ؟ في الحياة الدنيا - الآن لا يتكلم ربنا عن الآخرة سيأتي الحديث عنها تفصيلاً -
قال : { كُلًّا نُمِدُّ هَٰؤُلَاءِ وَهَٰؤُلَاءِ } فـ (هؤلاء) الأولى عائدة على من قال عنهم يريدون العاجلة ، و(هؤلاء) الثانية عائدة على من يقال عنهم ومن أراد الآخرة .. واضح ؟
{ كُلًّا نُمِدُّ هَٰؤُلَاءِ وَهَٰؤُلَاءِ }.. من أين ؟ من عطاء ربك والله يقول عن خزائنه:
{ مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ ۖ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ }
وقال: { وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ }
وقال وهو أصدق القائلين: { قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ ۚ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا } وهذا حررناه في دروس سلفت في العام الماضي .
نبقى هنا قال ربنا: { كُلًّا نُمِدُّ هَٰؤُلَاءِ وَهَٰؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ ۚ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا } "ما" هذه نافية تخبر أن الأصل أن الله عز وجل يعطي ولا ريب أنه لا أحد يعطي أعظم من الله بل كل أحد يعطي إنما يعطي أصلاً بعطاء الله عز وجل له.
وقد جرت سنة الله في خلقه أنه عوّد أقواماً على عطايا يُعطيها إياهم وجعل في قلوبهم عادة أنهم يعطون بعض من حولهم فإذا قطعوا عن من حولهم ما عوّدوهم إياه قطع الله عنهم عادته ولذلك عظُم في القرآن ذم البخل والشح الله يقول : { وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } ويقول : { وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ } والعرب لم تذم شيئاً كما ذمت قبض اليد والبخل والشح يقول قائلهم عن ناس عُرفوا بالبخل - تعرفون كلمة يفاع يعني مكان مرتفع يفاع ما معناها ؟ مكان مرتفع والديدبان ما الديدبان ؟ الديدبان من يأتي على المكان المرتفع فيراقب يراقب من يمر.. من يأتي هذا يسمى في اللغة ديدبان يعني حارس - فهذا رجل يذكر قوماً وبخلهم قال :
أقاموا الديدبان على يفاعٍ **وقالوا لا تنم للديدبان
ثم ذكر بيتاً لا يحسن قوله ثم قال :
تراهم خشية الأضياف خُرساً ** يصلون الصلاة بلا أذان
والمعنى أنهم لا يريدون أن يُحدثوا أصواتاً حتى لا يأتيهم الضيف ، على الضد العرب تمدح من كانت كلابهم أصبحت لا تهِر من كثرة ما ترى من الضِيفان أعتادت عليهم يقول حسّان :
لله در عصابة نادمتهم يوماً ** بجُلق بالزمان الأول
أولاد جفنة حول قبر أبيهم ** وقبر مارية كريم المِفضل
يُغشون حتى ما تهِر كلابهم - لم تعد كلابهم من كثرة الأضياف تعرف من هم أهل الدار حتى تنبح على الغريب فلم تعد تهر على أحد لأن الناس كلهم أصبحوا أهل الدار-
ُيغشون حتى ما تهِر كلابهم ** لا يسألون عن السواد المُقبل
بيض الوجوه كريمة أحسابهم ** شُم الأنوف من الطراز الأول
وكثر فيهم مدح الكرماء وذم البخلاء لأن هذه فطرة فالله عز وجل هنا يقول : { كُلًّا نُمِدُّ هَٰؤُلَاءِ وَهَٰؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ ۚ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا } ونبينا صلى الله عليه وسلم يقول لبلال : ( انفق بلال ولا تخش من ذي العرش إقلالاً) حثاً له على الكرم والجود، وهذا أمر بُعث به صلوات الله وسلامه عليه .
هذا الكلِم لقول الله عز وجل من (مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ) وقد مضت سنة الله في خلقه ربنا يقول : { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ } لكن إن كان كافر متى يراه ؟ في الدنيا أو حتى في برزخه، لكن إذا قام الأشهاد وحُشر العباد لم يبقَ رد صنيع لكافر اللهم إلا ما نعلمه من حالة واحدة أن النبي صلى الله عليه وسلم يشفع لعمه أبي طالب فهو أهون أهل النار عذاباً لأنه كان ينصر النبي صلى الله عليه وسلم ولا نعلم شيئاً يُوازيه أو يشابهه أو يماثله فيما بلغنا من السنة وإن كانت ليست السنة كلها قد بلغتنا .
فنعود فنقول ربنا يقول : (كُلًّا نُمِدُّ هَٰؤُلَاءِ وَهَٰؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ) قال (وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا) ثم قال (انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ) التفضيل أيها المبارك قسمان : تفضيل قدري وتفضيل شرعي
التفضيل القدري لا يدل على قُرب من الله ولا بُعد ويدل عليه قول الله عز وجل :{ فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ } فليس السِعة في الرزق ولا الضيق في الرزق دلالة على المنزلة عند الله فيوجد مؤمنون أثرياء ومؤمنون فقراء، ويوجد كفار مُلحدون أثرياء، وكفار مُلحدون فقراء، فليس التفضيل القدري يدل على القُرب من الله عز وجل وبُعده. بقي التفضيل الشرعي.
التفضيل الشرعي يأتي على الناس..يأتي على الحالة..يأتي على المكان..يأتي على الزمان لكنه لا يرتبط بالذوات يرتبط بما تلبّس به من عمل صالح بما تلبّسوا به من عمل صالح لا يتلبّس بالذوات مثلاً ليلة القدر -وقد مر معنا- ربنا يقول : { لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ } لكن قول الله : { لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ } ليس المقصود أنها عظُمت أو فضُلت لطولها أو عرضها أو حرها أو بردها لأننا نعلم جميعاً أن رمضان يرتبط بالشهور الشمية أو القمرية ؟ بالقمرية، مادام يرتبط بالشهور القمرية يأتي في جميع الأحوال يأتي في الخريف والصيف والشتاء والربيع فيأتي رمضان في عام ما أقصر ليله، ويأتي رمضان في عام ما أطول ليله، ويأتي رمضان في ليلة شديدة البرودة، ويأتي في ليلة شديدة الحرارة، ولا يتعلق كلها ليلة قدر لو فرضنا جدلاً أن ليلة القدر ليلة سبعة وعشرين فتأتي في بعض الأعوام طويلة في ليالي الشتاء، وتأتي في ليالي الصيف قصيرة، وتأتي حارة وتأتي باردة، وتأتي جافة وتأتي ممطرة فلا علاقة بها ذاتياً إنما العلاقة بما تحويه من أعمال، عدا أن أعجب ما يمكن أن تسمع وهذا حديث غير شهير أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ألا أنبئكم بليلة خير من ليلة القدر حارس حرس في ليلة خوف يظن أن لا يرجع إلى أهله ) ( ألا أنبئكم بليلة خير من ليلة القدر حارس حرس) يعني في سبيل الله، يعني من يحرس ويقبل أن يقع في الحراسة غالب ظنه أنه لا ينجو فقبِل فبات يحرس (في ليلة خوف يظن أن لا يرجع إلى أهله ) الحديث عند الحاكم في المستدرك صححه الذهبي صححه الألباني عن حديث ابن عمر فقال عليه الصلاة والسلام : إن هذا الرجل بالنسبة له هذه الليلة عند الله خير من ليلة القدر، خير من ماذا ؟ خير من ليلة القدر.
هذه واحدة من أمور التفضيل وسيأتي إن شاء الله تعالى الحديث عن بقايا التفضيل في مواطن أخر قلنا هذا تفضيل يتعلق بالليالي وما تحويه من كريم الأعمال وسيأتي التفضيل في اللقاء الثاني إن شاء الله والحديث عن قوله الله جل وعلا : { إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا * حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا * وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا } وصلى الله على محمد وآله والحمد لله رب العالمين .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق