الثلاثاء، 26 يناير 2016

الحلقــ الرابعة والعشرون ـــة/ ::هذان خصمان :: ١


 الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن سيدنا ونبينا محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع هديه بإحسان إلى يوم الدين  أما بعد ..

فبحمد الله وبفضله نستأنف دروسنا في هذا المسجد المبارك ودرس اليوم عنوانه { هَٰذَانِ خَصْمَانِ } وهو ظاهر أنه مبدأ آية كريمة في سورة الحج وربما مرت علينا في غير هذه الدروس وطرقناها طرقاً إيمانياً في الغالب لكننا اليوم إن شاء الله تعالى سنعرض لها من باب تاريخي وتربوي قدر الإمكان ذلك أن القرآن عظيم يمكن تناول آياته من طرائق عدة وما يزال الناس رغم ما أوتوا من حظ وعلم وبلاغة وبيان واطلاع يبقى أحدنا قاصر في إدراك كل ما ضُمِّن من معنى الآية الكريمة.
/ قال العلي الكبير : { هَٰذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ } وهذه الآية قلنا انها في سورة الحج واختلف العلماء رحمهم الله في بيان معناها لكننا قلنا سنطرق طرقاً تاريخياً نبدأه بالطرق اللغوي { هَٰذَانِ } مثنى هذا ، و"هذا" من أسماء الإشارة وأسماء الإشارة الأصل أنها إحدى المبنيات فالاسم ينقسم من حيث الإعراب والبناء إلى كم قسم؟ إلى قسمين : أسماء معربة وأسماء مبنية ويقصد النُحاة بالأسماء المبنية هي ما تُلازم حالاً واحدة يقال : مبني على كذا ، لكن اسم الإشارة وهو أحد الأسماء المبنية ما ثُني منه يخرج من حالة البناء إلى حالة الإعراب فيُعامل معاملة المُثنى فيرفع بالألف وينصب ويجر بالياء، وما يقال عن المثنى في أسماء الإشارة يُقال عن المثنى في الأسماء الموصولة، وطبعاً ربما أكثركم أو بعضكم أو فريق منكم لا يحب هذا النوع من الكلِم أو هذا النوع من الشرح لعدم عنايته به لكننا نخاطب الجميع فنحاول أن نعطي كل أحد حاضراً حظا من العلم لعله يوافق مُبتغاه وهذا من بعض حقوقكم علينا .
/  قال ربنا : { هَٰذَانِ خَصْمَانِ } و(خصمان) مثنى (خصم) وهذا الاسم أو هذا المصدر بأفعاله المضارعة والماضي جاءت في القرآن كثيراً قال ربنا :
{ قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ }
وقال ربنا جل وعلا في سورة ص : { إِنَّ ذَٰلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ }
وقال جل وعلا عن أهل النار كذلك في الشعراء : { قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ * تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ }
وقال ربنا جل وعلا في الزخرف : { أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} والحديث هنا عن النساء وهذا في مُجمله {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ } يدل على أن الأصل في زينة النساء الإباحة لكن ليس المقصود في الحديث، هذا عرضاً لكن نحن نتكلم عن لفظ (خصم)
 وقال جل وعلا في خبر نبيه المبارك داوود : { وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَىٰ دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ } وإلى غير ذلك من لفظ (خصم) .
 هنا قال جل وعلا: { هَٰذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ } للعلماء رحمهم الله تعالى أقوال في بيان معنى صدر هذه الآية الكريمة :
- قيل : إن المختصمَيَن هم اليهود والمؤمنون قالت اليهود نحن أولى بالله منكم كتابنا قبل كتابكم ونبينا قبل نبيكم فنحن أولى بالله منكم ، وقال المؤمنون : بل نحن أحق بالله منكم فإننا آمنا بنبينا ونبيكم وبكتابنا وبكتابكم وأنتم كفرتم بكتابنا وبنبينا حسداً. هذا أحد أقوال أهل العلم في هذه المسألة ويُنسب هذا القول إلى عكرمة تلميذ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما .. ظاهر.
- قال فريق آخر من العلماء أن قول الله عز رجل { هَٰذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا } إنها في الجنة والنار، قالوا إن الجنة قالت : خلقني لرحمته والنار قالت : خلقني لغضبه ، وأصحاب هذا القول يؤيدوا قولهم ما ثبت في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( احتجت النار والجنة فقالت : النار يدخلني المتكبرون والجبارون وقالت الجنة : يدخلني الضعفاء والمساكين ) فقال الله عز وجل لهما -أي للجنة والنار- قال للنار : (أنت عذابي أصيب به من أشاء وقال للجنة : أنت رحمتي أصيب بها من أشاء ولكل منكما عليا ملؤها -نسأل الله أن يجعلنا من أهل الجنة- قال : ولكل منكما عليّ ملؤها) وربنا يقول في صريح القرآن : { لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } هذا القول الثاني في بيان قول الله عز وجل :{ هَٰذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ } .
- وقال فريق آخر من العلماء إن هذه الخصومة مابين كل مؤمن وكافر أي أنها لا تتعلق فقط بأهل الكتاب لا تتعلق فقط بأهل الكتاب. القول الراجح عند أهل العلم ، عند جماهير أهل التفسير هو القول الرابع
 والقول الرابع يقول: إن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه وأرضاه قال : "إنني - يتحدث عن نفسه - لأول من يجثو للخصومة عند الله يوم القيامة" ما معنى الجثو ؟ الجلوس على الركبتين وربنا يقول : { وَتَرَىٰ كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً } والمعنى كل أمة في جلستها..وقفتها غير مطمئنة كما قال ابن قتيبة فسّره غيره بغير هذا ، المقصود يقول أمير المؤمنين عليه السلام : "إنني لأول من يجثو للخصومة يوم القيامة ثم تلا هذه الآية { هَٰذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ } ذلك أن علي رضي الله تعالى عنه وأرضاه كان أول من خرج للمُبارزة يوم بدر ، يوم بدر كان في السابع عشر من رمضان ووافق يوم جمعة وبعض الأيام في حياة نبيكم صلى الله عليه وسلم العِظام وافقت يوم جمعة فيوم بدر كان ضحى يوم جمعة، وحجة الوداع وقف النبي صلى الله عليه وسلم في يوم عرفة في يوم جمعة، فعلي رضي الله تعالى عنه وأرضاه يقول : "أنا أول من يجثو للخصومة" وجعل هذه الآية نازلة فيه، كيف أضحت نازلةً فيه ؟ لما ألتقى الفريقان أهل الإيمان وقريش في بدر - وهو اسم ماء في الأصل - غير بعيد عن المدينة في وادي الصَفرة - طريق معروف إلى مكة وجدة - لما ألتقى الفريقان خرج رهط من قريش عتبة وشيبة والوليد بن عتبة ، من يُعيد ؟ شيبة وعتبة والوليد بن عتبة ، وطلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم والجيش الذي معه المبارزة، والمبارزة في اللغة : الظهور لأن الأصل أنهم مشتبكون في الصف وأن الحرب تلاحم لكن لما خرج هؤلاء الثلاثة من الصف - من صف المشركين - وأضحوا عياناً ظاهرين في ساحة المعركة سُمي هذا بروز وقد جاء في القرآن كثيراً { وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ } فخرج لهم ثلاثة مُعوِّذ ومُعاذ ابنا عفراء ، وعبد الله بن رواحة عندما قلنا معاذ ومعوذ - في رواية عوف - هذان معاذ وعوف لما قلنا ابناء عفراء فهمت منها ماذا ؟ أنهما أخوان، وعبد الله بن رواحة غير أخ لهم. واضح هذا، فلما خرجوا سأل القرشيون خصومهم من أنتم؟ وهذا يدل على أن الحرب آنذاك حرب رجال شرفاء يعرفون أياً كانوا مؤمنين أو كفار قال عليه الصلاة والسلام بعد المعركة : ( أولائك الملأ من قريش ) فعرَّفوهم بأنفسهم أي الخارجون من صف المسلمين الذين آرادوا أن يبارزوا عرَّفوا الملأ من قريش بأسماءهم فقال القرشيون لهم : مالنا بكم حاجة إنما نريد أبناء عمنا ، لأن قريش يجمعها نسب واحد هم يريدون المهاجرين لا يريدون الأنصار فرجعوا فقال عليه الصلاة والسلام : ( فهمنا من هذا أن معاذا وعوفا وعبد الله بن رواحة خرجوا من قِبَل أنفسهم ) لأن النبي عليه الصلاة والسلام لم يرِد في الحديث أنه قال لهم اخرجوا لكن خروجهم وهو يرقُب ولم يرُدَّهم يدل على أنه كان راضياً عن خروجهم .. ظاهر ؟ قررنا أن نتعمد التفصيل التاريخي لأنه سيأتي عليها بيانات عِدة الآن . فرجعوا فقال عليه الصلاة والسلام : قم ياعبيدة قم يا حمزة قم ياعلي، أما عبيدة فهو عبيدة بن الحارث بن المطلب - ليس ابن عبدالمطلب - عبيدة بن الحارث بن المطلب بن عبد مناف .. واضح ؟ النبي عليه الصلاة والسلام اسمه محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف .. واضح ؟ إذاً عبيدة والنبي عليه الصلاة والسلام يلتقيان في مَن ؟ في عبد مناف إذاً كلاهما من بني عبد مناف يعني أبناء عمومة لأنهما يتصلان برجل واحد واضح الآن ، هذا عبيدة رضي الله تعالى عنه وأرضاه كان أسنّ رجل في جيش المسلمين لأنه كان أكبر من النبي عليه الصلاة والسلام سِناً بعشر سنين وكان رجلاً رغم أنه - عاد الآن تأتوني بعمره - على تلك السن إلا أنه أنه كان مريحاً عظيم جليل كبير المنزلة عند رسول الله عليه الصلاة والسلام ولذلك بدأ به قم يا عبيدة وقد كان سِنه يوم ذاك خمساً وستين سنة لأنه أكبر من النبي عليه الصلاة والسلام بعشر سنين والنبي عليه السلام كان يوم بدر عمره خمس وخمسون عاماً لأن النبي عليه الصلاة والسلام دخل المدينة وقد تمّ له من العمر ثلاثة وخمسين وبدر كانت بعد سنتين فعلى هذا كان عليه الصلاة والسلام يوم ذاك خمسا وخمسين عاماً وهذا أسنّ منه بعشر سنين يُصبح خمسة وستين عاماً .. واضح .
 وكان أسنّ رجل في الجيش، ثم حمزة وحمزة كم كان عمره ؟ خمسة وخمسين أربعة وخمسين قطعاً لأنه ربى مع النبي صلى الله عليه وسلم فهو من جيله - من سِنه - رغم أنه عمه رضي الله عنه وأرضاه، وقال : قم يا علي وكان صغيراً لا أظنه قد بلغ العشرين رضي الله تعالى عنه وأرضاه لم يكن قد بلغ العشرين، فخرجوا الثلاثة مقابل شيبة والوليد وعتبة فلما تبارزوا حمزة وعلي غلبا من قابلهما يعني لم يطل الأمر معهما، وأما شيبة وعبيدة فقد طال النزاع بينهما فكل منهما ضرب الآخر في مقتل فأعان حمزة وعلي عبيدة على خصمه وقتلوه ثم رجعوا جميعاً لكن حمزة وعليا رجعا يمشيان - سالمين - وأما عبيدة رضي الله عنه فرجع محمولاً لأنه طُعن فلما طُعن وضع رأسه رضي الله عنه وهو في الخامسة والستين على فخذ النبي صلى الله عليه وسلم وذكر أبياتاً من الشعر قالها أبو طالب في أن بني هاشم قالوا للنبي عليه الصلاة والسلام لن يدعوه للناس
 ... ونذهل عن أبناءنا والحلائل
هذا قول أبو طالب يخبر قريش أن بني هاشم كافرهم ومؤمنهم مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا واحداً من هو ؟ أبو لهب ولهذا ذمّه الله فعبيدة رضي الله عنه تمثّل بهذا البيت وقال يارسول الله : لو كان أبو طالب حي لعلم أنني أحقّ بهذا يعني أنا فعلت ما كان أبو طالب يردده ، ثم أنه حُمِل رضي الله عنه وأرضاه وهم في الطريق بعد الغزوة إلى المدينة فاضت روحة فدُفن في الطريق. إذاً المقبرة التي فيها شهداء بدر اليوم كم مدفون فيها ؟ ثلاثة عشر والشهداء كانوا كم ؟ أربعة عشر ، فثلاثة عشر دفنوا في أرض المعركة وواحد دفن في الطريق وهو عبيدة بن الحارث رضي الله تعالى عنه وأرضاه. وتلحظ - كما سأكمل في اللقاء القادم - ستلحظ أن الثلاثة من قرابة النبي صلى الله عليه وسلم قال علي رضي الله عنه وأرضاه : "إن نبي الله كان إذا اشتد البأس وأحجم الناس قدَّم أهله" إن نبي الله كان إذا اشتد البأس وأحجم الناس قدّم من ؟ قدَّم أهله ، فعبيدة وعلي وحمزة من أهله صلوات الله وسلامه عليه كلهم من بني هاشم وبنو عبد مناف . في اللقاء القادم سنُتِم العرض التاريخي إن شاء الله تعالى والعلم عند الله. وصلى الله على محمد وآله والحمد لله رب العالمين .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق