الأربعاء، 13 يناير 2016

الحلـقـ التاسعة والعشرون ـة / { وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ }


سلام الله عليكم ورحمته وبركاته .
 الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين ..
{ فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ } ألا تلاحظون أن هناك من آتاهم الله من المال المليارات وأصبحوا لا يملكون شيئاً - وبخاصة هذه الأيام بعد ما يُسمى بانهيار الأسهم - أُناس دخلوا السجون كانوا يملكون المليارات وهم في السجون أيضاً عليهم مئات الملايين أو المليارات هو نوع من زوال النعمة والله سبحانه وتعالى له الحُكم وله الخِيِرة ، آخرون قد تبقى أموالهم لكن والله إنهم يعيشون الضنك والبؤس يتمنى الواحد منهم لو أنه كسائقه أو كخادمه يلاحظ أن إبتسامة صاحبة أو سائقه أو خادمه أو موظف صغير عنده إبتسامة حقيقية

وهو إبتسامته متكلفة لما يعيش من الهموم، لديه المليارات لديه الملايين لكن سلبها الله جل وعلا أصبحت وبالاً عليه ، بعضهم يموت وقد خلف مئات الملايين وماهي إلا فترة يسيرة وإذا المال قد ضاع من أولاده فرطوا فيه .. لماذا ؟ لأنه لم يبتغ في هذا المال الدار الآخرة ونسيَ نصيبه من الآخرة هذه حقائق أمام أعيننا فلنعتبر.
/ بعد ذلك يقول الله جل وعلا : { وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ } سبحان الله أمس يقولوا : { يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ } واليوم يقولون : {وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ } { لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا } إذاً يا أخي قد تدعوا الله جل وعلا بشيء ولا يُحققه لك قد يكون من الخير أن لا يحققه فإن من عبادي - كما ورد في بعض الأحاديث - من لا يُصلحه إلا الفقر ولو أغنيته لأفسدته أو كما ورد في الحديث ، إذاً قد تجتهد وتدعوا الله جل وعلا لكن الله يعلم له الخيرة أن الخير فيما يقضيه الله أو يصرف عنك من السوء أو يدّخِره لك في الآخرة { لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا }.
تأملوا هذه اللفتة { وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ } الأمس القريب { يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ } أمس قريب جداً انظروا ضعف البشر، انظروا ضعف الإنسان، لا يدري أين الخِيرة قد يتمنى الإنسان الولد ويكون الخير أن لا يأتيه الولد كما حدث وقتل الخضِر الغلام لماذا ؟ { وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا } قد يُرزَق البنات دون الأولاد، يُرزق الأولاد دون البنات، قد يعطيك الله المال، قد تُحرَم من بعض النِّعم، اعلم أن الله هو مالك الملك وتأمل من هذه القصة { لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا ۖ وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ } وللعلماء كلام في (وي) وتركيبها وأقوال ليس هذا مكانها.
 إذاً تأتي النتيجة { تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا ۚ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ * مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا ۖ وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } هذه مقاييس الآخرة أيها الأحباب .
/ أقف أيضاً عند قوله تعالى : { عُلُوًّا فِي الْأَرْض } لأنني أرى مظاهر فيها إشكال، أنصح بقراءة مقال ابحثوا عنه في محرك البحث بعنوان (رجُل الساقة) لأخي الدكتور عمر المقبل الأستاذ في جامعة القصيم مقال جميل مختصر جداً (١) ذكر فيه حديث النبي صلى الله عليه وسلم وهو في البخاري (طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله أشعث أغبر مُغبرة قدماه إن كان في الحراسة كان في الحراسة وإن كان في الساقة كان في الساقة إن استأذن لم يُؤذن له وإن شفع لن يُشَّفع ) الشاهد ( إن كان في الحراسة كان في الحراسة وإن كان في الساقة فهو في الساقة ) لا يبحث عن شيء خامل الذكر كل منا يطبق هذا على نفسه .
جيء لعمر رضي الله تعالى عنه وقيل له إنه قُتِل فلان وفلان في معركة من المعارك وبدأوا يعدون عليه وأناس لا تعرفهم فبكى عمر وما يضره أن عمر لا يعرفه، لماذا البعض منا يتخلى عن أخوانه لأنه إذا كان في مسؤولية ثم أعفوه لمصلحة العمل غضب وقال : هذا انتقاص من قدري وهذا وهذا ، لا يا أخي الكريم عندك هذا الحديث الصحيح في صحيح بخاري ( طوبى ) شجرة عظيمة في الجنة انظر إلى وصفها كما ورد عند شراح الأحاديث (طوبى) جعلني الله وإياك من أهل هذه الشجرة طوبى، في الساقة .. في الحراسة ألزموك في المُقدمة { اجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَائِنِ الْأَرْضِ } ليس لنفسه إنما لمصلحة العمل ، فرق، وربك يعلم مافي قلبك ، علواً في الأرض أي علو، أي علو هذا فساد والعاقبة لمن ؟ { لِلْمُتَّقِينَ } ( التقوى هاهنا ) كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لكن تظهر على التصرفات على الأعمال..على الأفعال هذه كلها معاني -أيها الأخ- تجعلك تعيش مع هذه الآيات وهذه الدلالات فلنعش مع هذه القصة ولنطبقها على أنفسنا ولنتسابق للخير وأحسن كما أحسن الله إليك.
 قلت لكم عندما قال الله جل وعلا : { وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَىٰ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا ۚ وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ } أنت تُحسن يا أخي الكريم في هذه الشهر الكريم تُحسن لإخوانك المجاهدين لإخوانك الضعفاء لأقاربك، كيف نعرف بعض التجار أقاربهم يسألون الناس وقريبهم لا يُحسن إليهم، أحسن إلى جيرانك إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول لأبي ذر : ( إذا طبخت مرقة فزدها ماء ) ما قال تزدها طحين أو براً ( زدها ماءً وتعاهد جيرانك ) ماذا يضيرك الإحسان إلى الناس البُعد عن الفساد ، قصة قارون قصة مليئة بالعِبر ونهايتها كنهاية { فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ } صاحب القوة السياسية، صاحب قوة الوزارة كهامان، صاحب قوة المال كقارون في سورة العنكبوت { فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ ۖ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا } وأمثالهم هذه نتيجتهم نعم { وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ } لا تستعجلوا يا اخواني ، كم حكم فرعون ؟ مئات السنين -كما قيل والله أعلم- لكنه قطعاً حكم طويلاً ، كم بقي قارون ؟ الله أعلم حتى كانت عنده هذه الثروة لكن النهاية { وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ } لماذا لا نتفاءل بوعد الله جل وعلا؟ يا اخي ما تلاحظون أول القصة فرعون وآخرها عن قارون والنهاية واحدة كلهم عملهم واحد طغيان وتجبر وتكبر والنهاية واحدة ذاك يُغرَق وهذا يخسف به، اطمئنوا نراه بأعيننا أمثالهم لاحقون بهم إلا من معه قوة الإيمان من معه قوة الإيمان الحقيقية { أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا } قوة الإلتزام هنا له العاقبة وهنا لا يضيره المال ولا غيره .. لماذا ؟ لأنه يستخدم المال في طاعة الله في دعم المجاهدين في الدفاع عن الأمة في إحياء البلاد في إعطاء الناس حقوقهم ، كم يحزن الناس عندما يرون المال من بين أيديهم ومن خلفهم وهم لا يجدون ما يأكلون وهو حق لهم اعطوا الناس حقوقهم، أعطي العاملين معك حقوقهم يا أخي الكريم وإلا قد تأتيك العقوبة، قد يُدعَى عليك وتكون نهايتك كنهاية قارون.
 كثير من الناس يبخس الناس حقوقهم العجيب من يبخسون ؟ هؤلاء الضعفاء المساكين أو تؤخذ عليهم هذه الضرائب والمُكوس التي تثقل كواهلهم، هم أصلا مساكين تغربوا من أجل أن يكسبوا لقمة العيش ومع ذلك هذا يأخذ نصيب وهذا يؤخر حقهم وهذا يأخذ منها ضريبة وهكذا.. وهكذا ثم مساكين، هنا قد يُعاقَبَون وتكون النهاية -على أي نوع كانت النهاية- وخيمة، فليتفقد أحدنا نفسه يتفقد أولاده أهل بيته ( خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي ) دون إسراف والحذر من الإسراف {وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ} والتكبر..الفساد.. الإسراف..الترف مُهلك تماماً إن الله لا يحب المسرفين { إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ } فلا نُسرف ولنعطي الناس حقوقهم ولنحمد الله ولنبتغي فيما آتانا الله في أي شيء الدار الآخرة، هنا أبشروا فالعاقبة للمتقين.
 جعلني الله وإياكم من المتقين وفي شهر الصوم لعلكم تتقون وبإذن الله غداً نكمل هذه السورة في تعقيبها الأخير والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
----------------------
١- د.عمر المقبل
 جمعني لقاء بأحد العاملين في الجهات الخيرية، فأتى الحديثُ على عمله في مهمة لا تناسب مقامه الحالي بتوجيه ممن يعلوه رتبةً في تلك الجهة، فقال لي بالحرف الواحد: أنا أعملُ حيثُ وُضِعْتُ، ولو كنت في المستودع! هنا تذكرتُ قوله صلى الله عليه وسلم: "طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله، أشعث رأسه، مغبرة قدماه، إن كان في الحراسة، كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في... الساقة، إن استأذن لم يؤذن له، وإن شفع لم يشفع". والشاهد منه قوله: "إن كان في الحراسة، كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة". ما أبهى هذا التعبير النبوي عن هذا النوع من الناس! البسيط في هيئته ولباسه. ولعلك ـ أخي القارئ ـ تشاركني جمال هذا التعبير الذي سطّره ابن الجوزي ـ رحمه الله ـ مبيناً صفة هذا الرجل المذكور، حيث قال: "خامل الذكر، لا يقصد السموّ، فأين اتفق له كان فيه" . كم نحن بحاجة إلى هذه النفوس الكبيرة في ميادين العمل لهذا الدين! تلك النفوس التي لا تعنيها التصنيفات الإدارية، ولا "الفلاشات" الإعلامية، ولا تُردّد أسمائها في الحفلات الخطابية، أو منصات التتويج، ولا يعنيها أن تكون في صدر المجلس أو طرفه، بل الأهم عندها أن تخدم دين الله، ولو كانت المصلحة تقتضي أن يكون في مكانٍ لا تتسلط عليه كاميرات الإعلام، ولا تلهج به الألسنة. يحدثنا التاريخ عن نماذج من رجال الساقة، منهم من عرفناه، والأكثرون لم نعرفهم، ولكنهم لا يخفون على الله تعالى، وفي الواقع من أمثالهم كثير. تأمل معي في قصة ذلك الرجل الذي نوّه النبي صلى الله عليه وسلم به بعد أن وَضعت الحربُ أوزارها في إحدى غزواته، فقال لأصحابه: «هل تفقدون من أحد؟» قالوا: نعم، فلاناً، وفلاناً، وفلاناً، ثم قال: «هل تفقدون من أحد؟» قالوا: نعم، فلاناً، وفلاناً، وفلاناً، ثم قال: «هل تفقدون من أحد؟» قالوا: لا، قال: «لكني أفقد جليبيبا، فاطلبوه» فطُلب في القتلى؛ فوجدوه إلى جنب سبعة قد قتلهم، ثم قتلوه، فأتى النبيُّ صلى الله عليه وسلم فوقفَ عليه، فقال: «قتل سبعة، ثم قتلوه هذا مني وأنا منه، هذا مني وأنا منه» قال: فوضعه على ساعديه، ليس له إلا ساعدا النبي صلى الله عليه وسلم، فحفر له ووُضع في قبره . وعَقِيْب فتح نهاوند (سنة 21هـ) ـ والتي يسمّيها المسلمون فتح الفتوح ـ جاء البشير إلى الفاروق رضي الله عنه فقال: أبشر يا أمير المؤمنين بفتح أعز الله به الإسلام وأهله، وأذل به الكفر وأهله؛ فحمد الله عز وجل، ثم قال: النعمان بعثك؟ قال: احتسِب النعمانَ يا أمير المؤمنين، قال: فبكى عمر واسترجع قال: ومن ويحك! قال: فلان وفلان، حتى عدّ له ناساً كثيرا، ثم قال: وآخرين يا أمير المؤمنين لا تعرفهم، فقال عمر وهو يبكي: لا يضرهم ألا يعرفهم عمر، ولكن الله يعرفهم. ويقول عمر بن عبدالملك الكناني: صحب ابنُ محيريز (169هـ) رجلاً في الساقة ـ في أرض الروم ـ فلما أردنا أن نفارقه قال له ابن محيريز: أوصني، قال: «إن استطعت أن تَعرف ولا تُعرف فافعل»)، وابن محيريز هذا، هو الذي سمعه بعضُهم يقول: "اللهم إني أسألك ذِكراً خاملاً". هذه نماذج لقصص اختلفت سياقاتها، واتحدت مقاصدُها، تُذَكّر أولئك الذين يشعر أحدُهم بالغبطة في العمل لدينه، ويتنفس السعادة وهو يتقرب إلى الله بنفع إخوانه، ثم تأتيه نفسُه في أحايين فيَشْرقُ ببعض حظوظها، حين تقتضي مصلحةُ العمل أن يقدَّم غيرُه عليه، أو أن يعمل في مكان لا تصله لواقط الصوت، ولا مذاييع الإعلام، ولا ألسنة المادحين.إن من توفيق الله لعبده ورحمته به أن تكون هِمّةُ نَفْسِه، وقِبْلَةُ قلبه ـ في عمله ـ أن يكون خالصاً لله، فلا يضيق صدرُه إذا لم يقدَّم، ولا تجزعُ نفسُه إذا لم يشتهر، بل إذا اقتضى الأمر أن يعمل بصمت؛ عمل ونفسه تتدفق سروراً، وقد يرحل بصمت، وهو يتذكر كلمةَ الفاروق: "لا يضرهم ألا يعرفهم عمر، ولكن الله يعرفهم"، وهو يطمع أن يَقْدُمَ على "طوبى" دار الطيبين المطيّبين، الصادقين المخلصين. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق