الاثنين، 28 ديسمبر 2015

الحلـقـ الثالثة والعشرون ـة / اتباع الهدى هو الذي يُحقِق الأمن


سلام الله عليكم ورحمته وبركاته
الحمد لله رب العالين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين .

 في هذه العشر المباركة وفي هذه الأيام المباركة يجدر بنا أن نتأمل ما قلته في الحلقة الماضية { سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ }، أن نعفو وأن نصفح، ألسنا نرفع أيدينا وفي سجودنا ونقول : اللهم إنك عفو تحب العفو فاعفو عنا، ألم يطلب الله جل وعلا منا أن نعفوا عن إخواننا { وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا ۗ أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ }
يا أخي الكريم وأنت ساجد تقول : اللهم إنك عفو تحب العفو فاعفو عني هل أنت هيأت قلبك وعفوت عن كل مسلم آذاك ؟
يا أخي يا محب لا يأتيك الشيطان ويقول من حقك أن لا تعفو أقول لك : أيضاً ومن حق الله أن لا يعفو عنك لأن الإنسان إذا وقع في معاصي يوم القيامة تحت المشيئة إن شاء الله جل وعلا عفا عنه وإن شاء عذبه بقدر ذنوبه ثم الموحدون يخرجون إلى الجنة ، فيا أخي لا يليق وأنت ساجد وأنت رافع يديك وتقول : اللهم إنك عفو تحب العفو فاعفو عني في هذه الأيام المباركة تنتظر ليلة القدر والله يريد منك أن تعفو عن عباده ولا تعفو ، أما تخشى أن تُرد دعوتك، اعفِ يا أخي الكريم عن نفسك عن أهلك عن أقاربك فرِّغ قلبك تماماً ثم بعد ذلك قل، هيء المكان -التصفية- التخلية ثم التحلية اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني فأبشر هنا { وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا ۗ أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ } إي والله نحب أن يغفر لنا فلنُشهِد الله جل وعلا على العفو والصدق وبينك وبين الله تُشِهد الله وملائكته والكرام الكاتبين ليس مع الناس لعل الله أن يعفو عنا.
/ ثم تأتي هذه الآيات { إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ } كم هناك في هذه الآية من وقفة:
 يقال لمحمد صلى الله عليه وسلم { إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ } وسبب النزول في عمه أبي طالب لما جلس النبي صلى الله عليه وسلم عند رأسه وهو قبل موته يدعوه ( قل لا إله الله كلمة أحاجّ لك بها عند الله ) وعنده شياطين الإنس والجن أبو جهل ومن معه "أترغب عن ملة عبد المطلب" حاول النبي معه صلى الله عليه وسلم وهؤلاء يحاولون ثم -والعياذ بالله- مات على ملة عبد المطلب نسأل الله السلامة والعافية.
 قد يقول القائل : ألم يكن أبو طالب من ينصر النبي صلى الله عليه وسلم ألم يكن يدافع عنه؟
نعم، لكن كان ينصُره ويدافع عنه حمية -عصبية- ليس ديناً ولذلك كانت النهاية لم يُسلِم، حَكم الله عليه بهذا وهذا قدرُ الله جل وعلا وسأل العباس رضي الله عنه النبي صلى الله عليه وسلم كان عمك أبو طالب يدافع عنك ويحامي عنك هل أنت نافعه يوم القيامة ؟ قال: ( نعم إنه في ضحضاح من النار ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار ) (١) يعني قدماه في النار يغلي منها دماغه -والعياذ بالله- لأن الله حكم عليه، مات على الكفر في النار، تأثّر النبي صلى الله عليه وسلم تمنى أن عمّه قد أسلم كما أسلم حمزة وأسلم العباس فيما بعد وغير ذلك فينزل قوله تعالى : { إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ }.
هنا سؤال : هل الإنسان يمكن أن يحب الكافر؟ هل يحب النبي صلى الله عليه وسلم عمه وهو كافر ؟
أجاب العلماء عن ذلك بأجوبة ومنهم جواب لشيخنا العلامة الشيخ ابن عثيمين رحمه الله قال -وهذا قال به كثير من المفسرين-
 وهو الراجح : { إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ } (هدايته) المفعول مُقدَّر (من أحببت هدايته) والتقدير وارد في اللغة العربية وفي القرآن
 { وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا } أي أهل القرية لا يسأل القرية ذاتها ولا العير إنما أهل القرية ومن مع العير، فالتقدير والحذف موجود في اللغة العربية والقرآن بلسان عربي مبين. إنك لا تهدي من أحببت هدايته.
/ وهناك قول آخر له وجه : أن محبة النبي صلى الله عليه وسلم لأبي طالب محبة طبيعية لأنه عمه لا لأنه كافر فقد يجتمع في الإنسان جانبان بُغض ما هو عليه من دين وبغضه لدينه الكافر لكن يحبه من وجه آخر لأنه والده أو أمه أوغير ذلك فهذا قول من أقوال المفسرين ولكن القضية هنا أن المحبة هنا هي من أحببت هدايته ولذلك الذين يستدلون بهذه الآية على جواز محبة الكفار أخطأوا، إنما نحب الهداية للكفار، إنما نحرص على هدايتهم أما محبتهم { إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّىٰ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ } قبلها { قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ } لا..لا مساومة مع الكفار إذاً هذا معنى مهم جداً في هذه الآية .
/ بعد ذلك الهداية { إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ }
الهداية على نوعين: هداية توفيق وهداية دلالة وإرشاد لأن الله قال للنبي صلى الله عليه وسلم : { وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } كيف نجمع بين هذه الآية { وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } وبين { إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ }؟
 هداية التوفيق لله جل وعلا لا نملكها ولا يملكها نبي ولا رسول ولا ولي ولكن الله يهدي من يشاء هذه هداية التوفيق، أما هداية الدلالة والإرشاد فما أنزل الله الكتب وبعث الرسل إلا من أجل الدلالة والإرشاد { وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } إذاً اتفق الأمران ومهمتنا أن ندعوا الناس ونهديهم إلى الحق أما استجابتهم فليست لنا { إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ } .
 بعد ذلك نجد الاعتدال في طلب الهداية، أحياناً قد تحرص على هداية إنسان لكن قد تتجاوز الحد، القرآن يرسم لنا منهجاً عظيماً في هذا الباب مع الحرص على هداية الناس والرحمة بهم والإنذار لكن ما نتعدى حدودنا وهي هداية دلالة وإرشاد ونتخذ الوسائل لعل الله أن يوفقه، نسأل الله جل وعلا أن يهديه ولذلك عاتب الله جل وعلا نوح عليه السلام { إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ ۖ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ } ثم يكون في آخر الآيات { إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ } ، ويُقال لمحمد كما في سورة الأنعام : { قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ ۖ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَٰكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ } { وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَىٰ مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا } فتختم الآية { فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ } ، { فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَىٰ آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَٰذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا } يجب أن نعتدل حتى في موضع أبنائنا وأقاربنا نسعى ونحاول ونجتهد لكن لا نخرج عن الحد وعن الجانب المنهجي الشرعي في هذا الجانب.
/ ثم بعد ذلك انظر إلى العلل الباطلة { وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَىٰ مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا } سبحان الله لماذا لا تؤمنون ؟
 والله نخشى من الروم، نخشى من الفرس، نحن ضعفاء { وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَىٰ مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا } انظر كيف الرد يقول الله جل وعلا : { أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَىٰ إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ }
ويتكرر المشهد مرة أخرى، لماذا لا تستجيبون ؟ نفس المنطق تجده في كثير من الدول عصت الله جل وعلا ولم تُحكِّم شريعة الله فتقول لماذا لا تُحكِّمون شريعة الله ؟ يقولون والله نخشى من الغرب، نخشى من أمريكا، نخشى من الشرق من روسيا، من الصين، ونحن ما نقدر{ وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَىٰ مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا } انظر إلى الرد { حَرَمًا آمِنًا } .
ألم ينظروا إلى هذه الحقائق -سبحان الله- هذا المنطق يتكرر مرة أخرى بدعوى الضغوط من الدول.
 يأتي الجواب: الصحيح أن اتباع الهدى هو الذي يُحقِق الأمن، هو الذي يحقق الحماية من الأعداء { أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا } وهذا ما كان، لما آمنت قريش التي كان كفارهم يقولون هذه الدعوى يخشون أن نتخطف من أرضنا انظروا كيف كانت مكانتهم، سادوا على الأرض بهذه الشريعة العظيمة الشريعة هي التي تُحقق الأمن ليست القوة المادية ليس الظلم { الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَٰئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ } الأمن الشامل أمن العقيدة، الأمن الاجتماعي، الأمن في الرزق، كلها هذا هو الأمن أما دعوى الأمن من حماية الغرب أو غيرهم لا { لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ } هؤلاء الذين يريدون لأمريكا أن تحميهم هم الجنود الآن لأمريكا كما كان يقول الكفار لماذا تعبدون الأصنام ؟ يقولون والله حتى تحمينا ليرد الله عليهم في سورة يس { لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ } من يمس الصنم يأتي قريش كفار قريش يُقاتلون ويُحامون وإلا هو صنم لكن لما تختل العقيدة ويضعُف مفهوم الولاء والبراء، ويضعُف مفهوم التوحيد الحقيقي والإيمان بالله، الإيمان والأمان بهذه العقيدة { وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ }.
سنقف مع هذه الآية في الحلقة القادمة في قوله تعالى : { وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا } إمتداداً لعدم إيمانهم، لتعلّقهم بالآخرين تأتي الحقائق هذا موعدها غداً بإذن الله. أسأل الله أن يتقبل مني ومنكم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
----------------------
١- روى مسلم وغيره عن العباس بن عبد المطلب أنه قال: يا رسول الله، هل نفعت أبا طالب بشيء فإنه كان يحوطك ويغضب لك؟ قال: نعم، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق