السبت، 6 يونيو 2015

تفسير سورة الفتح ( ٨-٢٣) / د.رقية المحارب

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه ثم الصلاة والسلام على محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه أما بعد:
نستأنف اليوم المجلس الثاني من تفسير سورة الفتح من اﻵية الثامنة قول الله جل وعلا (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا)
يقول الله سبحانه وتعالى قبل هذه اﻵية (وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا) وهذه توطئة بين يدي قول الله تعالى (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا) فإن النبي ﷺ شاهد على تبليغ رسول الله ﷺ الناس التوحيد والشريعة التي أمر الله سبحانه وتعالى أن يبلغها الناس وهو شاهد عليهم، ومُبشر أيضا للمؤمنين الذين يتبعون النبي ﷺ ويصدقون به ويؤمنون به، وكذلك هو نذير للذين يُكذبون به، فهو يبشر المؤمنين وينذر الكافرين.
 وﻻشك أن من كان هذا شأنه فإنه محتاج لجُند يعينونه ويحفظونه ويُسددونه والله جل وعلا كفى نبيه ﷺ الذي بعثه بالرسالة قال (إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) [النحل:95] وقال الله جل وعلا (فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ) [البقرة:١٣٧] والله سبحانه وتعالى كفى نبيه ﷺ بكفاية من عنده من الملائكة الذين يحفظونه من بين يديه ومن خلفه، وقد كان ﷺ يتخذ الحرس ثم بعد كفاية الله جل وعلا ووعده له بالكفاية لم يتخذ بعد ذلك الحرس.
وكذلك من بلّغ رسالة الله جل وعلا فإن الله سبحانه وتعالى يكفيه وهو حسيبه ويبعث له جُندا من عنده يكفونه ﻷنه إنما يدعو إلى الله جل وعلا  ولذلك جاء في سورة اﻷحزاب (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ ۗ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ حَسِيبًا ) [الأحزاب:٣٩] فهؤﻻء يبلغون كما يُبلِّغ رسول الله ﷺ فناسب أن يكون قبل هذه اﻵية قول الله جل وعلا (وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا* إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ) يعني ما جاء به النبي ﷺ وما شهد به والبشارة والنذارة جاء بها ﻷجل أن يؤمن الناس بالله ورسوله، وﻻشك أن الناس ﻻ يؤمنون إلا بالحق والحُجج والبراهين وقد جاءت الحُجج والبراهين مع رسول الله ﷺ بجميع أصنافها، جاءت في الخبر الماضي والخبر القادم، وجاءت بالتنظيم وإحكام التشريع، كما جاءت أيضا بالمُعجزات الظاهرات البيّنات، وجاءت بالتأييد الذي وجده في قلوب المسلمين الذين أسلموا وآمنوا به فوجد منهم التأييد والنُصرة، ووجد منهم المحبة والقبول، وكل ذلك مِنّة من الله جل وعلا، وكل من سار على طريق محمد ﷺ ونهج نهجه فإن الله جل وعلا يؤتيه من القبول ومن التأييد ما تنشرح به الصدور وتأمن به النفوس وتستكين إلى صاحب الحق المُبشِّر به الحامل له.
وقد جاء في الحديث -أيضا- ما يدل على ذلك وهو أن هذا العلم وهذا الدين وهذه الدعوة يحملها من كل خلفٍ عدوله، فهؤلاء العُدول يحملون هذا الدين ويحملون هذه الرسالة وهذا العِلم ويجعل الله لهم القبول في اﻷرض، وهؤﻻء الذين يحبهم الله فينادي جبريل إني أحب فلانا فأحِبه، فيُحبه وينادي أهل السماء ثم ينادي أهل السماء أهل اﻷرض فيضع الله له القبول في اﻷرض، ومن لم يقبل هذا الذي أرسل بالحق أو هُدي الناس عليه بالحق الذي دعا إليه فإنه ﻻ يعني ذلك أن هذا اﻹنسان ليس له قبول وإنما المُعوَل في القبول على المؤمنين الذين تنشرح صدوروهم بالحق ويؤمنون به وإلا فإنه كان في عصر رسول الله ﷺ من ردّ الحق الذي مع رسول الله ﷺ  بل وضع أصبعيه في أذنيه واستغشى ثيابه ونكص وتكبر وعاند، ومنهم من نافق ومنهم من عاند وكل ذلك جاء خبره في كتاب الله جل وعلا.
/ قال الله جل وعلا (لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ) قال ابن عباس : قال غير واحد تعظموه، تعزروه يعني تعظموه
 (وَتُوَقِّرُوهُ) من التوقير والتوقير معناه اﻻحترام واﻹجلال والإعظام
(وَتُسَبِّحُوهُ) أي تسبحون الله وتنزهونه.
قال (بُكْرَةً وَأَصِيلا) ليدل على أن أوفق اﻷوقات لذكر الله جل وعلا تسبيحا وتحميدا وتهليلا وتكبيرا هو فترة البكرة واﻷصيل .. الغدو والرواح هذا هو وقت الذِّكر وليس معنى ذلك أنه ﻻ ذكر إلا في هذا الوقت وما سواه ﻻ يكون فيه ذكر، ولكن لعله -كما قال بعض أهل التفسير- لعله دلّ بالبداية والنهاية على أن التسبيح والتهليل والذِّكر يكون في سائر الوقت كأنه أحاط بالوقت كله إذا ذكر طرفيه. أنت تقوسين الكلام إذا وضعتي قوسا في أوله وقوسا في آخره يدل على أن هذا الكلام جميعا داخل في هذا المعنى. وكذلك من سبح بكرة وسبح أصيلا فإنه يُوشك أن يسبح خلال ذلك.
/ قال الله جل وعلا (إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ) والله جل وعلا قال في مثل هذا (مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ) [النساء:٨٠].  (إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ) يا محمد والبيعة كانت تحت الشجرة وكذلك كل بيعة كانت لرسول الله ﷺ كانت بيعة مع الله جل وعلا وعقد مع الله جل وعلا ومُفاوضة مع الله جل وعلا ومِيثاق مع الله جل وعلا، والله جلّ وعلا أمر بالوفاء بالعقود حيث قال (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) وهذه البيعة وهذه العقود كلها ﻻزمة في ذمة العبد متى أعطى البيعة، والبيعة تكون بصفحة اليد وتكون بنطق اللسان والقبول، وكُني عنها باليد ﻷنهم كانوا يأخذون بأيدي بعضهم البعض إذا تعاهدوا وتواثقوا.
/ قال الله جل وعلا (إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) فهو جل وعلا إذا بُويع رسوله فكأنما بُويع الله جل وعلا ﻷنهم إنما يُعطون لله وبالله.
  / جاء في قول الله جل وعلا  (إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ) أقوال للمفسرين من سلف اﻷمة من الصحابة والتابعين.
ذكر البغوي في تفسيره في قول الله جل وعلا (يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) قال: قال ابن عباس رضي الله عنهما : يد الله بالوفاء بما وعدهم من الخير فوق أيديهم.
قال السدي: كانوا يأخذون بيد رسول الله ﷺ ويُبايعونه ويد الله فوق أيديهم في المبايعة.
قال الكلبي : نعمة الله عليهم في الهداية فوق ما صنعوا من البيعة. والميل إلى إيراده دون تأويله أولى.
/ قال الله جل وعلا  (فَمَن نَّكَثَ) يعني نقض البيعة (فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ) عليه وباله، (وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ) يعني من ثبت على البيعة (فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا) واﻷجر هو الجنة.
/ يقول سبحانه (وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ) يعني جعل البيعة والمعاهدة لله جل وعلا مع أنه في اﻷول قال (إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ) ولم يقل ومن أوفى بما عاهد عليه الرسول مع أنه قال جل وعلا (إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ) لماذا؟
لتثبيت هذا الحق ﻷنه كما بايع الله ولذلك لم يُعدِ الله جل وعلا أو لم يكرر ذلك في العهد دلالة على أن تلك الصورة المُصوّرة لهم، المترائية في أذهانهم الله جل وعلا جعلها فوق ما يحلمون به وما يتوقعونه وأنه بيعة مع الله وعقد مع الله جل وعلا ولذلك لما جاء تكراره مرة أخرى جاء بالمعاهدة لله سبحانه وتعالى ولم يجيء المعاهدة لرسوله ﷺ لأن المعاهدة لرسول الله كأنما هي المعاهدة لله جل وعلا ولذا أقام هذا مقاما واحدا دون أن يُقيمه مقامين.
/ يقول الله سبحانه وتعالى (سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الأَعْرَابِ) يذكر الله لنبيه ﷺ شأنا لم يقع بعدُ أنه سيكون من اﻷعراب مِمن تخلَّف عنك في خروجك لمكة، وتعلمون أن النبي ﷺ خرج لمكة بالبُدن مُشعرة وأراد أن يعتمر فلِمَ لم يخرج معه العدد الكثير أو الكل لم لم يخرجوا معه كما خرجوا معه -مثلا - في الحج؟ خرج مع رسول الله ﷺ من خرج وبعض اﻷعراب لم يخرجوا مع رسول الله ﷺ ﻷنهم كانوا يرون أو يظنون أنه يُصدّ أو أنه يقع بينه وبينهم قتال فخشوا القتال ولذلك اعتذروا إليه، بم اعتذروا؟ قالوا (شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا) متى سيقولون هذا الكلام؟ حين يرجع رسول الله ﷺ مُنتصِرا أو حين يرجع آمنا وحين يرجع قويا.
وﻻشك أن النبي ﷺ رجع بعد هذا آمنا قويا -وقد ذكرت هذا في اﻷسبوع الماضي- أن النبي ﷺ رجع بعد الصلح -صلح الحديبية- رجع أقوى مما كان فأمِن الناس الذين في مكة على أنفسهم وخرجوا، وأمِن الناس الذين في المدينة ورأوا أن النبي ﷺ عاد كندٍ لقريش تفاوضه وتهادنه وهذا ليس شأن الضعفاء إنما شأن اﻷقوياء، فاﻷقوياء يهادنون والضعفاء يردون دون مهادنة.
إذا قال الله جل وعلا مُخبرا لرسوله ﷺ بما يعتذر به المخلفون من اﻷعراب الذين اختاروا المقام في أهليهم وتركوا المسير مع رسول الله ﷺ ﻻ على سبيل الاعتقاد بل على وجه التُقية والمصانعة ولهذا قال الله تعالى (يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا) فهم يُصانعون بذلك وليس ذلك على وجه الحقيقة، وهم ما كانت تردهم أموالهم ولا تَشغلُهم أموالهم ولا أهلوهم بل كانوا ﻻ يثقون بأنه يرجع ويظنون أنه أو أن قريشا تُهلِكه ولذا قالوا (فَاسْتَغْفِرْ لَنَا) .
قال الله جل وعلا  (يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئًا) إن كنتم ظننتم أن لن أرجع أو خِفتم على أنفسكم الموت فمن الذي يمنع منكم الموت إن أراده الله جل وعلا بكم ولو كنتم في أوطانكم بل لو كنتم في فُرُشِكم من الله جل وعلا إن أراد بكم ضرا أو أراد بكم نفعا حين تأتون مع رسول الله ﷺ وتُحصِّلُون ما حصّل.
 مالذي حصله من كان مع رسول الله ﷺ؟
حصلوا أولا : في الدنيا الشرف فأصحاب البيعة وأصحاب الشجرة رضي الله تعالى عنهم، وأيضاً وعدهم مغانم كثيرة يأخذونها في الدنيا فكان لهم شرف الدنيا بأن لهم مغانم خيبر، بينما الذين لم يخرجوا مع رسول الله ﷺ لم يكن لهم شرك في غنائم خيبر ولو كانوا يُبدون اﻹيمان على ما كانوا عليه فإنه ليس لمن لم يحضر صلح الحديبية شيء من غنائم خيبر.
ولم يحضر عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه وذلك أنه كان مرسوﻻ لمكة وقد أراد رسول الله ﷺ أن يرسل رسوﻻ فاختار في أول من اختار عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، اختار النبي ﷺ عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، وكان عمر حينما نَدَبه رسول الله ﷺ لهذه المُهمة اعتذر بعُذر قَبِلَه رسول الله ﷺ قال: يا رسول الله إنه ما بقي من آل عدي أحد -ما بقي أحد في مكة- وإن قريشا تكرهني وتعلمُ بُغضهم لي فإن ذهبت إليهم قتلوني فابعث إلى عثمان فإن عثمان منهم وفيهم -يعني أقرب إليهم- وله أهل يمنعونه، ما يزال بنو عمومته وأعمامه وأقرابه هناك يمنعونه.
ثم إن عمر -كما تعلمون- كان شديدا وكان قويا وبالتالي كثير من الناس يحقدون عليه -من المشركين- فكانوا يتمنون تلك الساعة التي يجدونه مُفردا فيقضون عليه، بينما عثمان كان لينا وقلّت أعداؤه حينئذ ولذلك لما ذهب قَبِلُوه ولكنه مع ذلك ما أمِن على نفسه واتخذ احتياطه، فلما قدِم على المدينة لقي أحد أقاربه (نسيت اسمه) فدخل مكة كان ردِفا لبعض أقاربه وكان يختبئ خلفه، فلما دخل أخذ له اﻷمان فلما أخذ له الأمان قال لقريش اسمعوا منه، فجاءهم بأن محمد ﷺ بأن رسول الله ومن معه ما جاءوا لقتال وإنما جاءوا للعمرة وجاءوا بالبُدن مُشعرة، فقام بعض المشركين وقال له: إن كنت تريد أن تطوف بالبيت فطُفْ به -سمحوا له بالطواف- قالوا طف بالبيت، قال::ﻻ أطوَّفُ به قبل أن يطوف به رسول الله ﷺ، فلما قال ذلك حبسوه ﻷن في هذا إظهارا لقوة رسول الله ﷺ وحُبّ أصحابه له فأبوا ذلك وما أرادوه، فلما فعلوا ذلك شاعت شائعة أن قريشا قتلت عثمان فحزُن لذلك رسول الله ﷺ حتى علم أن الخبر باطل وأنه غير صحيح.
 فكان قيل أنه لما بلغ النبي ﷺ أن عثمان قُتّل بايع الناس حينئذ، قالوا إنه بايع الناس ﻷجل ذلك، قالوا -كما ورد عن ابن جريج- قال أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابرا يسأل كم كانوا يوم الحديبية؟ قال : كنا أربع عشرة مئة فبايعناه وعمر آخذ بيده تحت الشجرة وهي سَمُرة، فبايعناه غير جِدّ بن قيس اﻷنصاري اختبأ تحت بطن بعيره. ما كان يريد أن يبايع. واختلف في عدد اﻷصحاب في الشجرة منهم من قال خمس عشرة مئة، منهم من قال ألف وثلاثمائة ومنهم من قال أربعة عشرة مئة يعني ألف وأربعمائة أو ألف وخمسمائة أو ألف وثلاثمائة. هذا قول.
وقيل : إن سبب هذه البيعة على ما ذكره محمد بن إسحاق عن أهل العلم أن رسول الله ﷺ دعا خِراش بن أمية الخُزاعي حين نزل الحديبية فبعثه إلى قريش بمكة وحمله على جمل له يقال له الثعلب ليُبلغ أشرافهم عنه ما جاء له من العمرة فعقروا به جمل رسول الله ﷺ وأرادوا قتله فمنعته اﻷحابيش فخلوا سبيله حتى أتى رسول الله ﷺ فدعا رسول الله ﷺ عمر بن الخطاب ليبعثه إلى مكة، فقال: يا رسول الله إن أخاف قريشا على نفسي وليس بمكة من بني عدي بن كعب أحد يمنعني وقد عَرفت قريش عداوتي إياها وغلظتي إياها، ولكن أدلك على رجل هو أعزّ بها مني، عثمان بن عفان، فدعا رسول الله ﷺ عثمان فبعثه إلى أبي سفيان وأشراف قريش يخبرهم أنه لم يأتِ لحرب وإنما جاء زائرا لهذا البيت مُعظِّما لحرمته، فخرج عثمان إلى مكة فلقيه أبان بن سعد بن العاص حين دخل مكة أو قبل أن يدخلها فنزل عن دابته وحمله بين يديه ثم أردفه وأجاره حتى بلّغ رسالة رسول الله ﷺ، فقال أبو سفيان وعظماء قريش لعثمان حين فرغ من رسالة رسول الله ﷺ : إن شئت أن تطوف بالبيت فطُف به، قال : ما كنت ﻷفعل حتى يطوف به رسول الله ﷺ فاحتبسته قريش عندها، فبلغ رسول الله ﷺ والمسلمين أن عثمان قد قُتل، فقال رسول الله ﷺ: ﻻ نبرح حتى نناجز القوم ودعا الناس إلى البيعة فكانت بيعة الرضوان تحت الشجرة وكان الناس يقولون؛: بايعهم رسول الله ﷺ على الموت. قال بُكير اﻷشجّ: بايعوه على الموت فقال رسول الله ﷺ: بل على ما استطعتم. وقال جابر بن عبدالله ومِعقل بن يسار لم نبايعه على الموت ولكن بايعناه على ألا نفِر.
فكان أول من بايع بيعة الرضوان رجل من بني أسلم يقال له أبو سنان بن وهب ولم يتخلف عنه أحد من المسلمين حضرها إلا جِدّ بن قيس أخو بني سلمة. قال جابر: لكأني أنظر إليه لاصقا بإبط ناقته مُستترا بها من الناس حتى أتى رسولَ الله ﷺ إن الذي ذُكر من أمر عثمان باطل.
ومن شرف من بايع هذه البيعة أنه ﻻ يدخل أحد بايع هذه البيعة النار، جاء في حديث جابر عن رسول الله ﷺ أنه قال ( ﻻ يدخل النار أحد مِمن بايع تحت الشجرة ) وهذا لعلم الله جل وعلا صدق نفوسهم، وهذا اﻻختبار والتمحيص وإظهار من كان يخاف أو من كان آمن خِيفة أو أسلَم رغبة أو أسلم رهبة، من كان على هذا الحال فإنها تكشِفُه تلك المواقف القاسية والشديدة فيظهرُ منه ما يظهر ولذلك من بايع على تلك الحال سواء كان الموت أو أﻻّ يفر فإنه ﻻ يمكن أن يفعل ذلك إلا واﻹيمان قد استمّكَن من قلبه.
/ قال الله جل وعلا (بَلْ ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا) أي الذي منع أولئك من اﻷعراب الذي منعهم أنهم ظنوا أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبدا (وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنتُمْ قَوْمًا بُورًا) أي اعتقدتم أنهم يُقتلون وتُستأصل شأفتهم وأنها تُباد خضراؤهم ولا يرجع منهم مُخبر.
 (وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ) يعني أن الله ﻻ ينصر عباده
(وَكُنتُمْ قَوْمًا بُورًا) أي هلكا هلاك الرِّدة أو هلاك السخط من الله جل وعلا أو هلاك فُقدان أو خسارة ذاك الفضل الذي ربِحه غيركم.
وﻻشك أن هذا أمر مشين منهم والله جل وعلا رُغم ذلك فتح لهم الباب للتوبة مرة أخرى.
قال ابن عباس ومجاهد وقال قتادة في قول الله جل وعلا (وَكُنتُمْ قَوْمًا بُورًا) أي كنتم فاسدين.
/ ثم قال تعالى (وَمَن لَّمْ يُؤْمِن بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا) يعني من كان من أولئك لم يرحل مع رسول الله ولم يختر طريق رسول الله ﷺ ولم يكن في معيته آنذاك من أجل أنه يظن هذا الظن وليس له العُذر الذي منعه من اتباع رسول الله ﷺ ويكون عُذرا مقبوﻻ فإن الله سبحانه وتعالى توعّده بالسعير، وهذا السعير إنما هو للكافرين الذين لم يُخلصوا العمل في الظاهر والباطن لله جل وعلا فأراد الله أن يكشفهم وأن يُبيّن عَوَرهم.
/ قال سبحانه (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ) بعد هذا أعقبها الله جل وعلا بأن ذلك الوعد أو التوَعُّد من الله جل وعلا هو لله ومن الله وبما أنه من الله ولله فلله مُلك السموات والأرض ﻻ مُعقب لحكمه ولا رادّ لقضائه وهو الذي يغفر لمن يشاء و يهديه، وهو الذى يُعذِّب من يشاء ويُضِلُّه (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء) فمن جاء تائبا لله سبحانه وتعالى مما كان منه ومما حصل منه فإن الله سبحانه وتعالى يغفر له ويتوب عليه.
/ يقول جل وعلا (سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ) "المخلفون" قال أول مرة (سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الأَعْرَابِ) لما جاءت المرة اﻷخرى قال (سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ) ولم يقل من اﻷعراب ﻷنها قد مرت من قبل.
س: هل اﻷعراب هم المنافقون؟
ج: ﻻشك أن اﻷعراب الذين تخلفوا عن رسول الله ﷺ من المنافقين، وهذا شأن اﻷعراب -في الغالب- أنهم يتابعون ﻷجل المصلحة ولذلك قال الله جل وعلا (الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ) [التوبة:٩٧] لكن من اﻷعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر، فمنهم ومنهم لكن اﻷكثر والعام والغالب أنهم إنما يسيرون حسب مصالحهم مثلهم مثل حياتهم، اعتادوا على ذلك هم يبحثون عن القطر في البوادي ﻻ يعرفون لهم مستقرا، فطبيعتهم هذه أثّرت عليهم حتى في اختيار مبادئهم وقِيمهم وأعرافهم وأخلاقهم فكانت ذات أثر عليهم ولذلك نهى النبي ﷺ عن العيش في البادية ﻷن البادية تؤثر على اﻹنسان من هذا الجانب، ما يصبح عنده مبادئ إلا في حين أن الحاضرة تكون أسوأ من البادية فحينئذ يصح التعرُّب في الفتن ويصبح خيرا من المدينة.
اﻷعراب الرُّحل ليس العرب، أهل البادية يعني وليس بدو القبائل، المقصود من يعيش في البادية .
س: ألا يكون لها وجه آخر بمعنى أنهم منافقون مستوطنون في المدينة سيقولون كما يقول الأعراب؟
ج: هذا الغالب عليهم أنهم من المنافقين الأعراب الذين ذُكرواهنا. واختُلف فيهم من يكونونلكن هذا لا يهُم كثيرا وإذا أُبطِن تسمية لأعراب أو لأُناس معينين فالأولى ألاّ يُبحث فيهم لأنها أحيانا تضُرّ أو تؤثِر في أنفُس التالين ولا تنفع المتقدمين. يعني أحيانا -مثلا- قد يقول إنسان الأعراب البدو فيظن ظانّ أن المقصود بالبدو القبائل -أصول البدو- أكثر الناس أصولها بدو، يعني أصولها قبائل. المقصود بذلك هم أهل البادية ولو كانوا من أتباعهم. اﻷعراب هؤﻻء كما وصفهم الله سبحانه وتعالى يتخذون ما ينفقون مغرما ويتربصون الدوائر وﻻ يؤمنون إلا رغبا ورهبا.
نعم .
 / يقول الله جل وعلا (سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ) هؤﻻء اﻷعراب يقول فيهم الله سبحانه وتعالى حينما ترجعون مُنتصرين أو ترجعون بالصُلح والمُهادنة مع قريش إذا ذهب النبي ﷺ إلى خيبر ليفتحها، تعلمون أن الله جل وعلا وعد نبيه ﷺ بخيبر قبل أن يرجع من صلح الحديبية، وعدهُم الله سبحانه وتعالى وأخبرهم أنهم سيقولون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها ذرونا نتبعكم سيقولون دعونا نشرك معكم في الغنائم ونحن مسلمين معكم ، مؤمنين معكم فالله جل وعلا قال (يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ) يغيرون كلام الله يبدلونه قال مجاهد وقتادة : هو الوَعد الذي وعد به أهل الحديبية، فالله جل وعلا وعد أهل الحديبية فقط فلا يبدل كلامه ولا يُعطى سواهم، لا يُعطون من الغنيمة.
عثمان لم يحضر والنبي ﷺ ضرب بكفه على كفه اﻷخرى وقال هذه لعثمان فكان لعثمان كذلك نصيب ولو لم يحضر الحديبية لبيعة رسول الله ﷺ له. وﻻشك أن بيعة رسول الله ﷺ لعثمان خير من بيعة الناس بعضهم لرسول الله ﷺ وفي هذا قال الله سبحانه وتعالى (فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَىٰ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا ۖ إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ) [التوبة:٨٣] وهذا طبعا ﻻشك أنه قديكون في مقام آخر ولكن كل من نُدب إلى شأن من الشؤون وشكّ فيه واعتذر بغير عُذر فإنه ﻻ يقبل منه.
 وهنا لنا وقفة : وهي أنه ﻻ يستوي من اجتهد ومن لم يجتهد حتى عند المعلمات. يعني ما تأتي واحدة بعمل كامل وأخرى لم تعمل نفس العمل الكامل ثم تعطونهما نفس الدرجة ﻷن هذا فيه ظُلم وإن لم يكن فيه بخس لِحقِ اﻷول فإن إِلحاق التالي باﻷول من غير ما صنيعة ظُلم له وهذا الظُلم ﻻ يُرتضى ولا يُقبل وهو يُحبط أصحاب الهمم ولا يصبح عند اﻹنسان رغبة في التنافس ولذلك فإن كثير من الشفاعات التي تمنع الناس حقوقهم أو أصحاب السبق إلى معالي اﻷمور هذه ﻻشك أنها ظُلم وإجحاف ومصيبة عظيمة للمجتمع والأمة في الاقتصاد والنهضة والتطور. يُصبح عند الناس انتكاسة وﻻ يُصبحون أصحاب هِمم عالية يبحثون عن التفوق.
س: هل هي الواسطة؟
ج: الواسطة التي تحرم صاحب الحق من حقه.
س: قد يتوسط لي أحدهم ولكني لا أعلم إن كان سيحرِّم آخر من حقه؟
ج: إذا علمتي أنه سيأخذها من مستحقها ويعطيك إياها فلا يجوز.
من هو الذي تُقبل شفاعته؟
 الشفاعة تُقبل إذا كانت ﻻ تحرم صاحب حق من حقه، مثلا كل الناس مستحقين أنهم يدخلون المستشفى-مثلا- يُعالجون ، هذه مسؤولية لكل واحد عايش في هذا البلد أن يتعالج لكنه -مثلا- ﻻ يستطيع أن يدخل ﻷن اﻹجراءت تطول، فتعرفين طبيب أو مدير مستشفى وكذا فتعطينه أوراقك ويفتح لك ملف. هذه شفاعة حسنة ﻻ بأس فيها ، ما حرمتي أحدا من حقه.
س: تقريب موعد؟
ج: ﻻ بأس.
لكن واحد -مثلا- يأتي لوظيفة مُقدِّم عليها مئة ومطلوب خمس موظفات. والعادة في الوظائف دائما أن تكون للمفاضلة يعني اﻷول الثاني الثالث بحسب عدد من اﻷمور تضعها الدائرة أو تضعها الجهات. يأتي -مثلا- شخص له علاقة بهذا المدير أو بهذا الوزير أو بأي موظف من الموظفين ويقول هذا ابن عمي أو ابن أخي ، وهذه بنت أختي أو كذا فقدموها واجعلوها هي تأخذ الوظيفة فيضعونها في الوظيفة ويحرِمون اﻷخرى اﻷقدم واﻷولى فلاشك إن هذا ظلم ﻻ يُجيزه الشرع وهذه وساطة فاسدة آثم الوسيط والمتوسط له.
س: إذا غلب على صاحبها أنه يعلم؟
ج: إذا علِم أو غلب عليه أنه يعلم أو فرَّط في العِلم فيقول ﻻ تحرم أحدا صاحب حق من حقه. لكن شخص -مثلا- يعطيك شيء أو يعجل لك أمر يقدمه لك أو يسهِّل لك أمور فلا بأس فيه.
/ قال الله جل وعلا (يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ) يعني من حيث العِدَة التي وعدها ﻷصحاب الشجرة والبيعة أنه وعدهم مغانم كثيرة يأخذونها، قال (قُل لَّن تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِن قَبْلُ) لماذا قال (كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ) ؟
 ﻷنه يصعُب على النفس أن ترُدّ خاصة لمِثل مقام رسول الله ﷺ المُتعود على الرحمة والحنان والسماحة والرِفق والعفو، ما تعود على أنه يرد الناس، فالله جل وعلا قوّاه بأن أرجع اﻷمر إليه قال (كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِن قَبْلُ) حتى أولا: تنفون عن أنفسكم تهمة.
ثانيا: ﻻ يصبح بينكم وبينهم غِلّ وﻻ حسد وﻻ حقد.
ثالثا: تُزال الرحمة التي في النفوس -في العادة- التي جُبِلت عليها كأمثال رسول  الله ﷺ . والله جل وعلا يقضي ما يشاء، يعني الله سبحانه وتعالى يعلم أشياء ﻻ نعلمها حينما -مثلا- تزني الزانية ويزني الزاني ويكون عليهم عقوبة فيأمر الله سبحانه وتعالى بأن تُشهد (وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) [النور:٢] قد يقول قائل: لماذا ﻻ يُحدُّون لوحدهم؟ لماذا أمام الناس؟  فيُرد عليهم: أنتم أرحم أم الله سبحانه وتعالى؟ الله أرحم سبحانه وتعالى لكن الله جل وعلا حينما قضى هذا الأمر إنما قضاه لحِكمة وهذه الحكمة هي أﻻّ يقع الناس في هذا اﻷمر وأن يستصعبوه وأن يستهجنوه فلا يقعون فيه مستقبلا.
 كذلك هنا قال (قُل لَّن تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِن قَبْلُ) فأرجع القول إلى الله جل وعلا لشيء علِمه الله سبحانه وتعالى.
 (فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا) وهذا الذي علِمه الله من قبل وهو الذي سيقولونه بالفِعل وقع قالوا تحسدوننا أن نشرك في الغنائم من خيبر.
 (بَلْ كَانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلا) أي ليس اﻷمر كما زعموا ولكنهم ﻻ يفهمون وﻻ يفقهون إلا قليلا.
/ ثم يرشد الله جل وعلا نبيه ﷺ أن يقول للمخلفين من اﻷعراب قال، هنا عاد قال (قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأَعْرَابِ) وجاءت مرة أخرى (مِنَ الأَعْرَابِ) ﻷن الخطاب هنا خطاب جديد .. أمر آخر- وهو أن من كان مُعتذِر بانشغاله بالمال واﻷهل فإن الله جل وعلا يعطيه فرصة ولكن هذه الفرصة أشدّ من اﻷولى، لم؟ ﻷنه هنا ادّعى دعوى ولابد أن يُثبت دعواه، هذه الدعوى هي أنه شُغِل اﻵن هذه الفرصة أمامك إذا كنت مشغوﻻ حقا فهذه فرصة أمامك.
 (قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ) من هم هؤﻻء القوم الذين هم أولوا بأس شديد؟
قيل: إنهم فارس وقيل: إنهم الروم وقيل: فارس والروم وقيل: هوازن، قاله سعيد بن جبير وعكرمة، وقيل: ثقيف قاله الضحّاك، وقيل: بنو حنيفة قاله جويبر وذُكر مثله عن سعيد وعِكرمة أيضا، وقيل -كما ذكرت- أهل فارس قاله ابن عباس ومجاهد، وقال كعب الأحبار هم الروم، وقال عطاء والحسن هم فارس والروم، وقال مجاهد: هم أهل الأوثان.
قال ابن أبي حاتم عن الزُهري: في قوله تعالى (سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ) قال: لم يأتِ أولئك بعد. يعني هؤلاء نُمهلكم لقوم لم يأتوا من بعدُ أصحاب بأس شديد تُقاتلونهم أو يُسلمون حتى يعلم الله جل وعلا أو يُظهِر الله جل وعلا صِدقهم من كذبهم .
وهل هم -كما مال إليه بعض أهل التفسير وهو بعيد- قالوا: بل هم قوم لم يأتوا من بعدُ وهم الذين جاؤا في حديث أبي هريرة عن النبي ﷺ قال (لا تقوم الساعة حتى تُقاتلوا قوما صِغارا الأعين ذُلف الأنوف كأن وجوههم المِجان المطرقة) . وهذا لاشك أنه بعيد لأن الخطاب للمخلفين من الأعراب وهذه تكون في آخر الزمان، فلاشك أن هذا مُستبعد وأنه أقرب لما ذكره أهل التفسير من قبل .
/ قال (تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ) أي: تقاتلونهم فيكتب الله سبحانه وتعالى ما يكتب لكم النصر أو الشهادة ، أو أنهم يُسلِمون ويدخلون في دينكم بلا قتال بل باختيارهم وتُكفون حينئذ، لكن أهل الإيمان يمكن أن يُعطوا على ذلك وتُآتي نفوسهم أما أهل النفاق فإنهم لا يُقبلون عليه ولو كان هناك نسبة من الموت ونسبة من الحياة فإنهم يعتذرون لأنهم يخافون الموت لضعف إيمانهم أو لقلة إيمانهم بالموعود ولا يقين عندهم فيه.
/ قال الله جل وعلا (فَإِن تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا) إن تُطيعوا لما دُعيتم إليه من نفرة للجهاد ومقاتلة هؤلاء الذين نُدبتم إلى قتالهم فإن الله جل وعلا يغفر لكم ما سلف من تخلفِكم عن رسول الله ﷺ ويؤتكم أجرا حسنا.
(وَإِن تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُم مِّن قَبْلُ) وهذا يدلك على أن الخطاب عن أقوام في زمن رسول الله ﷺ وليس الذين يأتون من بَعد الذين هم التُرك الذين وجوههم كالمجان المُطرقة وأن هذا بعيد.
قال (وَإِن تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُم مِّن قَبْلُ) يعني زمن الحديبية حيث دُعيتم فتخلفتم عنه فإن الله جل وعلا (يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا) كما توعّدكم من قبل بل يزيد العذاب عذابا لتتباع كُفركم وتكذيبكم.
/  ثم ذكر الله سبحانه وتعالى أهل الزمانة من المُعذّرين، أهل الزمانة يعني: أهل العيوب المُزمنة مثل الأعمى والمشلول والأعرج ، أهل الأعذار المريض.
قال الله جل وعلا (لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ ) المقصود بالأعرج العُرجة التي تمنعه من القتال وقد كان أحد الصحابة وهو عبدالله أو جابر وقد كان أعرجا وكان يقول إني لأطمع أن أطأ بعرجتي الجنة، فكان له ذلك وقُتل في سبيل الله جل وعلا. وقد أعذر الله سبحانه وتعالى أهل الزمانة هؤلاء من القتال وهم فقط أصحاب الأعذار أما من عنده عارض ليس مُزمنا لكنه لا يقوى على النفرة أو على النفير زمن النفير فإنه معذور بذلك كالمريض بالحمى وأمثاله الذين يمرضون أياما ثم يزول مرضهم فهم في حال المرض يُرفع عنهم أو لا يُكلفون بالنفير إلى الجهاد.
/ قال الله (وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَن يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا) وجاء هنا قول الله هنا (وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) بعد ذكر الأعذار لِمَ؟ لأن الاستطاعة من الذي يُقدِرها؟ أصحابها، إذا قلت -مثلا- للمُصلي قُم على قدر الطاقة، -مثلا- القيام مع القدرة من الذي يُقدِر القُدرة؟ المُصلي هو الذي يُقدِر القدرة . أحيانا تأتيك واحدة وتقول لك -مثلا- أنا إذالاصليت يُصيبني دوار أو كذا فهل أجلس أو لا أجلس؟ هل أقوم أو لا أقوم؟ فيُقال لها أنتِ أعرف، إذا كان القيام يُعجِزكِ ، أما أحيانا بعض الناس -أنا أرى شبابا- أحيانا تستطيع أنها تقف لكن ما تستطيع -مثلا- أنها تركع فتجدينها تُصلي وهي جالسة ولا تقف ولا تسجد ولا شيء، فعلى المريض أن يُقدِّر الشيء الذي لا يستطيعه من العمل، الذي لا يستطيعه من العمل يدعُه والذي يستطيعه من العمل يفعله، لا أحد يغصبك على شيء، الله جل وعلا الذي يعلم قدرتك من عجزك، ومن بذل جُهده في العمل فإن الله سبحانه وتعالى يُقويه ويمُده بِمدد من عنده، ولكن لا يبنبغي للعبد أن يُكره نفسه على العمل حتى يشقى به لأن الله جل وعلا قال (طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2) إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى) فالإنسان إذا كان يشقى بتكليف نفسه بهذا فإنه يُرفع عنه والشيء إذا ضاق اتسع والأمور تُقدّر بقدرها والله جعل للناس طاقة على قدرهم ولا يُكلف الله نفسا إلا وسعها ولا يُكلِّف الله نفسا إلا ما آتاها، والله سبحانه وتعالى عليم بكل شيء ولذلك جاء بعد ذِكر الأعذار (وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَن يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا) يعني القضية ليست قضية أعذار وإنما هي قضية طاعة.
/ بعدها يقول الله سبحانه وتعالى (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ) هذا الذي بشّر الله سبحانه وتعالى نبيه ﷺ والمؤمنين به. وتلاحظون جاءت هذه القضية أكثر من مرة، جاءت مرة أخرى (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا) فهؤلاء الذين بايعوك رضي الله عنهم ، وكانوا بايعوا تحت الشجرة وتقدم قبل قليل أنهم كانوا ألفا وأربعمائة وأن الشجرة كانت سَمُرة بأرض الحديبية .
روى البخاري عن عبد الرحمن رضي الله عنه قال: انطلقت حاجّا فمررت بقوم يصلون قلت ما هذا المسجد ؟ قالوا هذه الشجرة حيث بايع رسول الله ﷺ بيعة الرضوان فأتيت سعيد بن المسيب فأخبرته فقال سعيد حدثني أبي أنه كان فيمن بايع رسول الله ﷺ تحت الشجرة قال فلما خرجنا من العام المقبل نسيناها فلم نقدر عليها فقال سعيد إن أصحاب محمد ﷺ لم يعلموها وعلمتموها أنتم فأنتم أعلم؟
وجاء أيضا في الحديث أن رسول الله ﷺ لما عاد مرة أخرى وسلك المسلك ذاته قال: أين الشجرة التي تبايعنا تحتها؟ فأخذ القوم يقولون هذه .. هذه - كل واحد يقول هذه والثاني يقول هذه - فاختلفوا فيها فقال رسول الله ﷺ ذهبت ) أي ليس لها شأن ، جاء قوم وبنوا مسجدا وقالوا هذا المسجد عند الشجرة حتى يضعوا عندها مَعْلَم . فأراد النبي ﷺ أن يُذهِب هذا المِعْلَم حتى لا يُتخذ عنده تعظيم أو يكون لأحد تعظيم. ولعل النبي ﷺ لو أراد أن يُثبت لها فضلا أخبر عنها ولكنه أراد أن يُخبر أن هذه الأمور ليس لها شأن وأن الشعائر المُعظّمة عند الله هي التي عظّمها الله وأن ما لم يُعظِّمه الله جل وعلا ولو كان له شأن كشجرة أو عمود أو نخلة -كالجذع الذي حنّ لرسول اللهﷺ- هل سمعتم أن أحدا جعل له شأن؟ لا. فأصحاب رسول ﷺ لم يعتنوا بمثل هذه الآثار وإن كانت لصيقة أو لها شأن في التاريخ، ولا جبل النور ولا غار حراء ولا شيء من هذا ما كان له شأن إنما الشأن لما اختصّه الله سبحانه وتعالى كالبيت الحرام والصفاء والمروة وأُحُد ولكن أُحد ليس كمشعر وإنما محبة أحبّه رسول الله ﷺ لكن لا يُقام عنده شيء من الشعائر  أما عرفة فيُقام عندها شعائر، فهذه التي أُقيمت عندها شعائر -أقامها رسول الله ﷺ- يُقام عندها شعائر ، التي أحبّها رسول الله ﷺ ولم يُقِم عندها شعائر نُحبها كما أحبّها ولا نُقيم عندها شعائر ، والتي كان لها شأن عند رسول الله ﷺ - شأن حدث ليس شأن كرامة ولا محبة ولا شيء من هذا- وإنما شأن أحداث كالجذع والحجر والبئر والعين والمكان الذي صعده رسول الله والذي نزل منه والذي بات فيه وغيرها من المواطن هذه لا شأن لها لا بتعظيم ولا عبادة ولا تبرُك ولا شيء من هذا وإنما يفعل ذلك الجُهّال من أهل البدع . والله المستعان.
ولذلك -ما شاء الله- الحِرص على تطبيق السنّة في هذه البلاد ظاهر -ولله الحمد والمِنّة- كان يُذكر أو كان فيه معلَم من المعالم بيت الشيخ محمد بن عبد الوهاب مررت به مرة وقالوا هذا بيت الشيخ محمد بن عبد الوهاب، جئت بعدها بفترة سنتين أوثلاث وقالوا أنه أُزيل. فهذه يعني الحمد لله من (***) التي تُذكر في هذه البلاد وتُشكر.
- رفع أذان العشاء -
على كل حال ما لم يُذكر له تعظيم أو يُخصّ بشيء من عبادة فإنه لا يُذكر له عناية ولو كان مشهورا ومثال ما نُصّ عليه مقام إبراهيم (وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى) .
سائلة تسأل عن الاسطوانات الموجودة في مسجد رسول الله ﷺ كاسطوانة عائشة واسطوانة التوبة ، هذه -مثلا- اسطوانة أبي لُبابة التي هي اسطوانة التوبة رُبِط فيها أبو لُبابة ولما تيب عليه قامت عائشة تُبشِّره -هذا قبل الحجاب- فلما بشّرته قام الصحابة ليحُلُوا رباطه فقال لا تحُلُوه إلا أن يُطلِقني رسول الله ﷺ ما أريد إلا أن يُطلقني رسول الله ﷺ بيده لأنه هو الذي ربطه، أبو لُبابة كان بعثه رسول الله ﷺ إلى اليهود وكان بينه وبينهم صُحبة فبعثه لهم فسألوه قالوا ما ترى ؟ فأعطاهم إشارة (إنه الذبح) وما كان له أن يفعل ذلك فربطه رسول الله ﷺ حتى تاب وتاب الله عليه وتاب عليه رسول الله ﷺ . فهذه أشياء قد تكون في عهد مضى -مثلا- معروفة أو معلَم من المعالِم كمعلَم لكنها ليس لها شأن، يعني ممكن -مثلا- مع توسعة الحرم تُزال أو تُبعد أو تُغير أو كذا . من ذلك -مثلا- زمزم ، زمزم  ليس له عبادة يُتعبد عنده -مثلا- وكذا فلو حُرِّك أو غُيّر أو أُزيل أو كذا فلا إشكال في ذلك، لكن الناس الذين يتعلقون بالآثار ، تذكرون لما أُزيلت الآثار التركية -العثمانية- زعلوا الأتراك علينا، وكذلك القِباب التُركية، هذه ما لها قيمة في الشرع ، أي أمور تاريخية المصلحة تتطلب إزالتها تُزال. وإذا كانت المعالِم تُلبِس عند العوام يعني يُتعبّد عندها فتجب إزالتها وتغييرها أو إخفاؤها.
وهل تعلمون أن أحدا من الأنبياء -مثلا- عُرِف قبره؟ موسى أو إبراهيم أو إسماعيل أو يوسف أو كذا إلا ما كان من كلام في صحته نظر. حتى الأقدام الموجودة عند المقام يذكر الشيخ بن عثيمين -رحمه الله- أن في ثبوت أنها لإبراهيم وإسماعيل نظر يعني في ثبوت ذلك نظر ليس صحيحا ذلك لكنه مما توّرِث.
/ قال الله جل وعلا (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ) يعني من الإيمان (فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ) أنزل السكينة زادهم إيمانا مع إيمانهم كما أنهم خرجوا مُطيعين لله جل وعلا أعطاهم الله سبحانه وتعالى فوق طاعتهم وفوق إيمانهم وفوق يقينهم أعطاهم يقينا إلى يقينهم وإيمانا إلى إيمانهم وحبا للطاعة على حبهم للطاعة فكان ذلك حُبا يحبونه.
وأنا أرى -والله أعلم- أن الأمر يؤل إلى السكينة بعد المُجاهدة، أن الإنسان أول ما يبدأ في شأن الإيمان يبدأ مُجاهدا، يبدأ الأمر عليه  عسيرا صعبا فمخالفة الهوى تأتي في أول الشأن والأمر ثم يُنزِل الله سبحانه وتعالى حبّ تلك العبادة فيُعجن القلب عليها وينطبع في النفس حبّ هذه العبادة ويُصبح الإنسان يلهج بها ولا يطمئن إلا بها فتُصبح له سكينة ، حتى إن بعض الناس بعض أهل القرآن تجدينهم ينفرون -مثلا- من أصوات الغناء ولو كانت في الأعراس لأنهم خلاص انطبعت قلوبهم على القرآن والذِّكر وأصبحوا لا يُحبون، بل إنهم تجدينهم كانوا يُجاهدون أنفسهم -مثلا- على مجالس الذِّكر ثم يُصبحون بعد ذلك يأنسون بمجالس للذِّكر. يُجاهدون أنفسهم على ألاّ يذهبوا إلى الأسواق أو يُكثروا من الذهاب إلى الأسواق من غير حاجة ثم أصبحوا بعد ذلك إذا دخلوا الأسواق انقبضت نفوسهم واستوحشت حتى أصبحت لا تطمئن إلا في مجالس الذِّكر. فهؤلاء يبدؤن أول الخطوات مجاهدة ثم تصبح هذه الخطوات سكينة وطمأنينة وحُبا فيُكفَون مؤنة المجاهدة والمشقة برحمة الله سبحانه وتعالى. وهذه من أنواع السكينة التي يُنزلها الله سبحانه وتعالى عليهم.
أيضا من أنواع السكينة التي يُنزِلها الله جل وعلا على عباده المؤمنين أنهم يكون لهم -وهذا ذكرته في الأسبوع الماضي يمكن انتهى الدرس عليه - أنه يكون للعبد اطمئنان لقدر الله جل وعلا فيُصبح مطمئنا لقدره مطمئنا للأحداث لا يجد قلقا شديدا في نفسه لما يكون في مستقبله بل هو يقول آمنت بالله وتوكلت عليه واستقرّت نفسي إلى ما أمر الله سبحانه وتعالى وإلى ما قدر فتجدينه مطمئنا حتى أنه ينام يمكن في معامع الأحداث من الطمأنينة والسكينة. وأمثال هؤلاء ربما أحيان تُصيبهم أمراض لو كانت في غيرهم كان -سبحان الله- ما نام الليل ولا استلذّ بطعام ، ومع ذلك تجدين هؤلاء يُعلَمون بهذه الأمراض التي دهتهم والتي فيهم ومع ذلك -ما شاء الله- لا يتغيرون مستمرين في دروسهم ، مستمرين في حلقاتهم، مستمرين في عِلمهم ولا كأن شيئا كان. وهناك أمثلة رأيناها وشهدناها من أمثال الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله- والشيخ بن عثيمين -رحمه الله- كان الشيخ يخرج مع العناية المركزة إلى المسجد الحرام يقول أنا أريد أن أذهب ، أحضر ما عاد بقي إلا هذا اليوم .. ما عاد بقي إلا هذه الليلة، فهذا تجدينه حريصا على إدراك هذا وتطمئن نفسه. وحدثتني زوجته أنه في آخر يوم من أيام رمضان خرج من العناية المركزة ولما أفاق -وكان أُغمي عليه في الحرم - ثم ذهبوا به إلى جدة إلى العناية المركزة فلما أفاق قال: أين أنا؟ قالوا في جدة، قال: أعيدوني، فقالوا: ياشيخ أنت ما تستطيع وما تقدر وكذا، قال: إن لم تطلبوا لي سيارة سأطلب ليموزين،فلما رأوه مُصرا أعادوه ولما دخل إلى المسجد أخذه التعب وأغمي عليه وانتهت الصلاة وهو نائم، فكان أولاده أحدهم يقول نُوقظه  وأحدهم يقول لا نوقظه ، فقالت زوجته: هو لو استيقظ وأنتم ما أيقظتوه سيغضب فإنه لم يأتِ بكم من جدة إلا من أجل هذا، فلما أيقظوه وجلس وصلى ثم بدأ الدرس ألقى كلمة -وكانت مؤثرة جدا- ثم بدأ يُجيب الأسئلة ، تقول زوجته -أم عبد الله- أنه كان إذا سُئل يضع الكمامة على أنفه للتنفس ليسمع السؤال ثم إذا انتهى يرفعها ويتكلم ،فلما انتهى -عبارة ما نسيتها- تقول: قال الحمد لله ما أكثر ما فرطنا أو قصّرنا. والشيخ -رحمه الله- جلس يُدرِّس ويعطي المحاضرات أكثر من واحد وخمسين سنة وهو يقول بهذه العبارة التي قالتها، "ما وراء ما قصّرنا أو فرطنا" نسيت، يعني ما أكثر ما قصّرنا أو فرطنا.
 والشيخ -رحمه - له مُسجّل من دروسه وكلماته أكثر من ستة الآلاف ساعة . فانظري -سبحان الله- كيف هؤلاء أهل العلم يطمئنون، وبعدها توفي في شهر شوال أوائل شهر شوال وكان وزنه ربما لا يزيد عن خمسة وثلاثون كيلو من كثرت المعاناة مع المرض ومع ذلك كان صامدا إلى آخر لحظة. وأذكر أن الشيخ -رحمه الله- كان يُعطي درسا بعد الفجر ودرسا لطلبة العلم من الساعة العاشرة إلى الظهر ودرسا بعد صلاة التراويح وكان يُعطي في العشر الأواخر، كنا نحضر له تلك الدروس أذكر كانت عام ألف وأربعمائة واثنان، ثم بعد ذلك في العام الذي تُفي فيه وكان مجلسه الميكرفون في زاوية وهناك مشايخ آخرين في زوايا أخرى، في السنة التي تُفي فيها -رحمه الله- كان صوته في كل الحرم . فلعل الله سبحانه وتعالى كافأه بذلك على حِرصه وعلى نيته الصالحة الطيبة. رحمه الله رحمة واسعة وغفر له مغفرة من عنده وألحقنا به في الصالحين مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ووالدينا وأزواجنا وأهلنا وإخواننا وأقرابنا وذرياتنا وأحبابنا. آمين
/ قال الله جل وعلا (وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا) يعني المقصود بذلك فتح مكة، الفتح الأول هو الصُلح أما خيبر فهي المغانم التي وعدهم الله سبحانه وتعالى.
/ قال الله جل وعلا (وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا) 
روى ابن أبي حاتم عن إياس بن سلمة عن أبيه قال بينما نحن قائلون إذ نادى مُنادي رسول الله ﷺ البيعة..البيعة نزل روح القدس ، قال: فسرنا إلى رسول الله ﷺ وهو تحت شجرة سَمُرة فبايعنه فذلك قول الله تعالى (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ ) قال: فبايع رسول الله ﷺ لعثمان رضي الله عنه بإحدى يديه على الأخرى فقال الناس هنيئا لابن عفان يطوف بالبيت ونحن هاهنا فقال رسول الله ﷺ لو مكث كذا وكذا سنة ما طاف حتى أطوف يعني أن النبي ﷺ كان على ثقة بصنيع عثمان وكان كذلك عثمان رضي الله تعالى عنه.
/ قال الله جل وعلا (وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا) والمغانم هي المغانم التي أباحها الله جل وعلا للناس جميعا -للمؤمنين جميعا- لأنها من قبل كانت محرمة وبعد الإسلام كانت الغنائم حِلا لرسول الله ﷺ (وأُحِلّت لي الغنائم) كانوا في الأول يجمعون الغنائم ويضعونها تنزل نار من السماء تحرِقها لكنه بعد ذلك كانت لرسول الله ﷺ وللمؤمنين يأخذونها إلى اليوم.
 (فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ) يعني فتح خيبر، وروى العوفي عن ابن عباس "(فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ) يعني صُلح الحديبية (وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنكُمْ) أي لم ينلكم سوء مما كان أعداؤكم أضمروه لكم من المحاربة والقتال". تعرفون أنه لما رأت قريش أن النبي ﷺ جاء ومعه هذا العدد بدأت تجمع له وتتعاقد مع القبائل من أجل أن يُحاربوه حتى كان بينهم الصُلح فهذا الذي كفّ الله سبحانه وتعالى الناس عن رسول الله ﷺ.
قال: "وكذلك (وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنكُمْ) الذين خلّفتموهم وراء ظهوركم عن عيالكم وحريمكم" أيضا كفّ أيدي اليهود عن حريم الصحابة ووِلدانهم وإلا كان اليهود ممكن يميلون عليهم ميلة واحدة ويستأصلونهم لكن الله جل وعلا حماهم منهم.    
 (وَلِتَكُونَ آيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ) أي يعتبرون بذلك فإن الله تعالى هو الحافظ وهو الناصر على الأعداء جميعا مع قِلة عدد المؤمنين وليعلموا بصنيع الله جل وعلا هذا بهم أنه هو القادر على كل شيء وأنه أعلم بالعواقب وأن الخيرة فيما اختاره الله سبحانه وتعالى لعباده المؤمنين وإن كرهوه في الظاهر كما قال الله جل وعلا (وَعسَى أن تَكرَهُوا شَيْئًا وَهُو خيرٌ لَكُمْ).
 قال الله سبحانه وتعالى (وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا) والصراط المستقيم الذي هدى الله سبحانه وتعالى له أصحاب رسول الله ﷺ هو اتباعهم وانقيادهم لرسول الله ﷺ وموافقتهم لأمره واختيارهم لطاعته حتى رضي الله تعالى عنهم وعوّضهم عن ذلك الجنة ووعدهم النجاة من النار فكانت لهم عِدة بالجنة وعِدة بالنجاة من النار وذِكرا حسنا ومغفرة للذنوب ما بقوا لا يضرهم ذنب ما أذنبوا بعد ذلك.
/ قال (وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا) أي وغنيمة أخرى وفتحا آخر معيّنا لم تكونوا تقدروا عليه قد يسَّره الله عليكم وأحاط بها لكم فإنه تعالى يرزق عباده المتقين من حيث لا يحتسبون.
واختلف المفسرون في هذه الغنيمة ما المراد بها: 
قال ابن عباس: هي خيبر
وقال الضحّاك وقتادة: هي مكة ، واختاره ابن جرير
وقال الحسن البصري هي فارس والروم. هذه التي قد أحاط الله بها يعني كانت في عِلمه
وقال مجاهد: هي كل فتح وغنيمة إلى يوم القيامة .
/ قال الله جل وعلا (وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا) هم الآن ما قاتلوكم وصالحوكم ولو قاتلوكم فلا تهابوهم لو قاتلوكم لولّوا الأدبار. وهذه توطئة لما سيأتي من بعدُ من القتال مع الكافرين وليستشعِر المؤمن أن الكافر ضعيف وأنه يولي الدّبُر وأنه لا يمكث ولا يقدِر على مواجهة الحق. ولاشك أن المُؤمن مُقدِم  حين الجهاد على الجنة، والكافر مُقدِم على لا يقين ولا يدري عن شيء إلا الحمية والشجاعة والنخوة والتحدي والغضب وثورة الشيطان، أما أهل الإيمان فإنهم يُقدِمون يجدون ريح الجنة.
يقول عز وجل ذلك بشارة لعباده المؤمنين بأنه لو ناجزهم المشركون لنصر الله رسوله وعباده المؤمنين عليهم ولانهزم جيش الكفر فارّا مُدبِرا ولا يجدون وليّا ولا نصيرا.
قد يقول قائل: لكننا نرى أن الكافرين الآن مستأسدين وأنهم أهل إقدام وأنهم أهل حرب.
وهذه -الحقيقة- ترى غير صحيح ( لاَ يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَآءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ) وهؤلاء ترونهم الآن الواحد منهم مُدجج بكل شيء بينما أهل الإيمان -أحيانا- تجدهم  مجردين حتى من السلاح ومع ذلك مُقدِمين. فهذا كله لما ألقاه الله سبحانه وتعالى في قلوب أعداء الإسلام من الرعب والخوف وما أوجده الله جل وعلا في قلوب أهل الإيمان من الطمأنينة والسكينة والرغبة فيما عند الله جل وعلا.
/ قال الله جل وعلا (سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا) يعني هذا الذي تجدونه، الذي يجده أهل الإيمان من أصحاب رسول الله الذين مع رسول الله ﷺ هي كذلك سنة ماضية حتى فيمن يأتي بعدهم من أهل الإيمان الذين يقومون بالدفاع عن هذا الدين فهم منصورون بنصر الله جل وعلا عزيزون بعزة الله جل وعلا وهو وليهم وهو نصيرهم ونِعم النصير ونِعم المولى. وهذه السنة لن تجد لها تبديلا ولن تجد لها تحويلا ولا تغييرا، سنة الله أنّ الكفر إذا قابل الإيمان في أي موطن من المواطِن فإن الإيمان هو المُنتصِر وإن الكفر هو المُندحِر. وصلى الله وسلموعلى نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.        

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق