الثلاثاء، 23 يونيو 2015

وقفات مع آيات الصيام -1-

د. عويض العطوي 

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين نبينا محمد عليه وعلى آله أفضل الصلاة وأتم التسليم أما بعد. .
أيها الإخوة الكرام من المستمعين والمستمعات السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وأهلا ومرحبا بكم في هذا اللقاء في برنامجكم أفلا يتدبرون القرآن.
 وسنقف -بمشيئة الله تعالى - في هذا اللقاء مع آية الصيام وخصوصا اﻵية التي أوجب الله عزوجل فيها الصيام لنتأمل فيها ونقف مع بعض مدلولاتها.
يقول ربنا سبحانه وتعالى (ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة:١٨٣]
لا يشك شاك أن الصيام تكليف شاقّ ولذا لما أوجب الله سبحانه وتعالى علينا الصيام جاء ذلك على نظم مختلف كما في اﻵية الكريمة المذكورة ولا عجب في ذلك إذا علمنا أن الصوم قد فُرض على هذه اﻷمة في السنة الثانية من الهجرة أي قبل فرض الجهاد ومعلوم ما في الجهاد من المشقة وبذل النفس والمال وكأن التكليف بالصوم جاء ليُجهّز النفوس ويُربيها على تحمل ماهو أشقّ كالجهاد.
وقد اشتملت آية اﻹيجاب المذكورة وما بعدهاعلى ما يُشعِر بتيسير هذه الفريضة على اﻷمة وهذا ما يدل عليه قوله تعالى في شأن الصوم ( يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) ولبيان هذا اليُسر  سنذكر هذه اللطائف وهذه الدلالات على النحو التالي :
أولا: البدء بالنداء مع ذكر صفة اﻹيمان في قوله تعالى (ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) فيه فوق التنبيه شحذٌ للهِمة لتلقي مشقة هذا الفرض بكل صبر واحتساب وقوة مثل المُناداة في قوله تعالى (يا أهل الشجرة - يا أهل بيعة الرضوان ) ففي هذا من استنهاض الهِمم وتقوية العزائم ما لا يخفى.
ثانيا: مجيء الإيجاب بفعل الكتابة مع البناء للمجهول (كُتب) (ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ) دون قُضي أو حُكِم به -مثلا - لما في هذه الكتابة من دلالة الضبط المناسبة لطبيعة الصيام في وقته وما يهدِف إليه من ضبط السلوك القولي والفعلي إضافة إلى سلامة (كُتب) من ثقل (قُضي وحُكِم ) وما يشعر به من اﻹلزام العظيم.
ثالثا : مجيء الفعل مبني للمجهول (كُتب) مع أنه معلوم فاعله وهو الله سبحانه وتعالى وذلك لتخفيف مشقة التكليف ولهذا ما قال الله سبحانه وتعالى "يا أيها الذين آمنوا  كَتب الله عليكم الصيام " وذلك لما في لفظ الجلالة (الله) من التعظيم والمهابة.
رابعا : ذِكر أننا مسبوقون بهذا التكليف كما في قوله تعالى (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ) وجاء ذلك على صورة التشبيه وكل هذا من أجل التخفيف ﻷنه من طبع اﻹنسان أنه إذا عمل عملا شاركه فيه غيره سهُل عليه وإذا كُلّف بعمل وحده شقّ عليه فيكون اﻷمر أكثر سهولة أذا كان اﻹنسان مسبوقا بذلك التكليف، وهذا فيه أيضا تحفيز وتنشيط فإذا كان الذين من قبلكم قد صاموا فكونوا مثلهم أو أحسن منهم في تلقي هذا التكليف.
خامسا: ذكر النتيجة المرغوبة في قوله تعالى ( لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) فيه تهوين  للتكليف وتشويق إليه وذلك أنك إذا كلفت إنسانا بعمل شاقٍ ولكنك قلت له افعل كذا أو كذا لعلك تربح وتنجح تجده عند ذلك يتشجع ويتقدم. والتقوى أمر يسعى إليه كل مُؤمن لما لها من العواقب الحميدة في الدنيا والآخرة.
سادسا : التعبير عنه باﻷيام في أول ذِكره وتأخير ذكر الشهر المُشعِر بالطول مما يُسهّل صيام هذا الشهر فقد قال الله سبحانه وتعالى (أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ) إضافة إلى ما في جمع (أيام) على "أبعاد" من كونه دالا على القِلة.
سابعا : وصف اﻷيام بأنها معدودات (أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ) يدل أيضا على التخفيف والتسهيل ﻷن الشيء القليل يُعد والكثير يُحد أي يُعرّف فكان هذا الوصف مُشعِرا بأنها قليلة معدودة وهذا مما يخفف على النفس كلفة الصيام.
ثامنا: التخفيف عن المريض والمسافر في الصيام مع إيجاد فرصة مُوسعة للقضاء كما في قوله تعالى (وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) وهذا من التيسير والتسهيل.
تاسعا: في وصف أيام القضاء بـ "أُخر" في قوله تعالى (أَيَّامٍ أُخَرَ) تسهيل آخر يتمثل في توسيع مدة القضاء لأنها باختيار اﻹنسان ولو كان القضاء محدودا بأيام أو بأشهر أو بزمن لا يتعداه لشقّ ذلك على النفس يضاف إلى ذلك مجيء الإيجاب على التخيير مع الترغيب في الصوم في قوله تعالى (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ۖ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ ۚ وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ) كل ذلك يتناسب مع بدايات التكليف ونلحظ في بيان فدية كيف كانت باﻹفراد (طَعَامُ مِسْكِينٍ) ولم تكن مساكين بالجمع، ثم نلحظ قوة الحضّ والحث على الصوم بذكر الخيرية (خير) ثلاث مرات مع التعليق لحصول ذلك الخير بـعلمهم (إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ) كأنه قيل لو كنتم تعلمون حجم الخير في الصيام لصُمتم .
عاشرا : في قوله تعالى (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) نجد أن شهر القرآن ذُكر هنا بعد تأخره بعد ذكر اﻷيام أي بعدما تهيأت النفوس لتلقي هذا التكليف الشاقّ ومع هذا ذُكر معه ما يخفف ثُقل الزمن المُتمثل في  الشهر وهو نزول القرآن موصوفا بصفات الخير  (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ) وبعد هذا التهيئة التي بينا صورها يأتي التكليف بوضوح وقوة في قوله تعالى (فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ۖ) فهنا ذكرٌ للشهر وإيجاب صريح واضح باﻷمر (فَلْيَصُمْهُ) إلا من كان معذورا فما زال التسهيل ساريا معه كما في قوله تعالى (وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ۗ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) الأمر اختلف هنا، اﻵن فيه عزيمة للذي يشهد الشهر فعليه أن يصومه كما قال سبحانه وتعالى (فَلْيَصُمْهُ) أما من قبل فكان اﻷمر مختلفا كما رأينا في اللمحات الماضية. لاحظ معي أخي  المستمع كلمة "مريض أو على سفر" فما زالت على نفس اﻷمر ولم يقل الله عزوجل مريضا أو مسافرا فما زال التسهيل معه جاريا كما في قوله تعالى (وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ۗ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) نجد اﻷمر هنا قد اختلف فالعزيمة واضحة في قوله تعالى (فَلْيَصُمْهُ) أما ما يخصّ المريض فما يزال اﻷمر ميسرا ومسهلا معه وهذا دليل على أن العزيمة تعلقت بما لم يكن مريضا أو مسافرا أو معذورا وأما من كان مسافرا أو مريضا أو معذورا فقد استمر التيسير والتسهيل معه.
ومن هنا نلحظ كيف أن هذه التسهيلات التي أشرنا إليها جاءت مُلخصة في قوله تعالى في ختام هذه اﻵيات (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ). هذا ما تيسر بيانه في هذه اﻵية العظيمة.
 نسأل الله سبحانه وتعالى أن يُبصرنا وأن يوفقنا وأن يجعلنا ممن يتأمل في هذا القرآن ويستفيد من مواعظه وقوارعه إنه ولي ذلك والقادر عليه والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
------------------------------------
المادة الصوتية

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق