الثلاثاء، 12 مايو 2015

المسيح عيسى بن مريم

د.عويض العطوي

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وبعد ..
أيها الإخوة الكرام .. المستمعين والمستمعات السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ..
وأهلا ومرحبا بكم في برنامجكم أفلا يتدبون القرآن .. سنقف هذا اليوم - بمشيئة الله تعالى- مع قول الحق -تبارك وتعالى- في شأن عيسى عليه السلام (إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46)) [آل عمران] . سنقف مع هذه الآية العظيمة التي فيها إشادة عظيمة بعيسى عليه السلام من خلال هذه الوقفات:
أولا: بدأت الآية بنداء مريم ( يَا مَرْيَمُ) من قِبل الملائكة وهذا فيه شرف عظيم لأم عيسى عليه السلام وكما هو معلوم فإن النداء يُسهم في لفت النظر لما يليه من كلام وعادة ما يكون الكلام الذي وراءه مهما.
ثانيا: أن المُبشر لمريم بعيسى عليه السلام هو الله سبحانه وتعالى كما في قوله ( إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِوفي بدء الجملة بـ "إن" تأكيد لمضمونها إضافة إلى إظهار لفظ الجلالة "الله" وما فيه من القوة والمهابة.
ثالثا : ذكر المُبشر به وهو ( بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ) وبيان أنها من الله وأنِعم ببشارة هذا شأنها.
رابعا: أن الذي تولى تسمية عيسى عليه السلام هو الله سبحانه وتعالى حيث قال (اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى) سواء كان ذلك من الله مباشرة أو بأمره للملائكة الكرام.
 خامسا : مجيء الحال من عيسى عليه السلام في قوله تعالى (وَجِيهًا) باﻻسم دون أن يُقال من الوجهاء ﻷن الوجاهة خُلة ثابتة وصِيغت على "فعيل" ﻷنها صيغة مبالغة مما منه الوجاهة.
وقيل: هي صفة مشبهه. وعلى كل حال فالصيغة محتملة، وهي دالة على أن تلك الصفة مستقرة فيه ثابتة له وذلك أمدح له ولتذيبل أطراف المدح قيل في الدنيا والآخرة (وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ) وكونه وجيها في الدنيا قد يُشركه فيه غيره لكن السؤدد والشرف أن يكون وجيها في اﻵخرة.
سادسا : جاءت الحال (وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) بالجار والمجرور دون اﻻسم "مقربا" مثل "وجيها" التي قبلها ﻷن هذا اﻷسلوب "من الفاعلين" كثير في القرآن وهو أبلغ من ذكر الموصوف منفردا ﻷن إثبات الوصف والموصوف بعنوان كون الموصوف واحد من جماعة (وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) تُثبت لهم ذلك الوصف أدل على شدة تمكّن الوصف مما لو أثبت للمدوح أو للموصوف وحده. وهذا التركيب كثير في القرآن وهو يحتاج إلى بحث وتتبع. وقد جاءت الحال (وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) هنا على هذا المنهاج فهو عليه السلام من جملة الذين هذا وصفهم فيكون ذلك أكثر تأكيدا وطمأنة وثناء عليه ﻷنه يدل على رسوخه فيما وُصِف به.
وقد بين الرازي مدلول هذا الترتيب (وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) وجعله في وجوه ثلاثة:
أولها: أنه جعل له ذلك كالمدح العظيم للملائكة فألحقه بمثل منازلهم ودرجاتهم بمثل هذه الصفة.
وثانيها: أن هذا الوصف كان في التنبيه على رفعه للسماء ومصاحبته للملائكة فيكون معهم من المقربين.
وثالثها: أنه ليس كل وجيه في اﻵخرة يكون مُقربا ﻷن أهل الجنة منازل كما قال الله عز وجل (وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً) [الواقعة] ثم قال عن صنف واحد منهم (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (١٠) أُولَٰئِكَ الْمُقَرَّبُونَ) [الواقعة] وقد جاءت الحال (وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) هنا على هذا المِنهاج فهو من جملة الذين هذا وصفهم ﻷن ذلك أكثر تأكيدا وطمأنة له وثناء عليه ﻷنه يدل على رسوخه فيما وُصِف به.
ولهذا الوصف (وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) بعض الدﻻﻻت:
أوﻻ : أن فيه مدحا لعيسى عليه السلام بهذه الصفة وهي كونُه من المقربين وفيها إلماح إلى رفعه إلى السماء ﻷن الرفع نوع من التقريب، وأيضا فيه بيان أنه عظيم المنزلة عند الله في الجنة ﻷن أهل الجنة منازل كما قال الله عز وجل (وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً) وقال عن صنف واحد منهم (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (١٠) أُولَٰئِكَ الْمُقَرَّبُونَ).
سابعا: جاءت الحالة الثالثة وهي (وَيُكَلِّمُ النَّاسَ) جاءت جملة ، وهي جملة مضارعية ﻷن الفعل يُشعِر بالتجدد كما أن اﻹسم يُشعِر بالثبوت، ويبدو أن سر مجيء الحال هنا فعلا مضارعا عائد إلى طبيعة المدح والصفة الممدوح بها فالكلام هنا مذكور في سياق المدح والمضارع هو الذي ينقل الصورة الحركية المصورة للواقع والكلام بطبيعته ينقطع ثم يُنشأ بعد حين فهو ليس في إجرائه صفة ثابتة مستمرة، وﻻ هو صفة تحدُث مرة ثم تنتهي فجمعا بين هذه الخصائص جيء بالفعل الدال على الحدوث وبصفة المضارع خصوصا للتدليل على استمرار التجدد في هذا المجال.
ثامنا: هناك حاﻻن آخران هما (فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا) والتقدير كأنه قيل طفلا وكهلا وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا ) كأنه قيل طفلا وكهلا.  وما يُِهمنا هنا هو إيضاح مدلول الجار والمجرور في قوله تعالى (فِي الْمَهْدِ) في هذا المقام وإيثاره على اﻻسم حيث لم يكن ( طفلا أو صغيرا ) بدلا من قوله (فِي الْمَهْدِ) وعن  الفعل أيضا فلم يكن ( وقد كان صغيرا) إن في ذكر الجار هنا واختيار كونه حرف الظرفية "في" ما يكشف المعنى ويُجليِّه أتم تجلية حتى يكون موافقا للمراد منه أكمل الموافقة وذلك ﻷن "في" تدل في أصلها على الظرفية وهو هنا المهد.  وفي اختياره أيضا دون الصغر "في الصغر" ما يُشعر بعظم المعجزة وخرقها للعادة ﻷن المهد هو مقر الصبي في رِضاعه وهو شبه الصندوق من خشب ﻻ غطاء له يمهّدُ فيه الصبي ويوضع فيه مضجع له مدة رضاعه، يوضع له ليحفظه من السقوط فهو دليل على أن الكلام حصل ممن ﻻ يُعهد منه الكلام عادة. ولو قيل ( في الصغر ) لما كان ذلك مُلزما لكونه تكلم قبل العادة. فلما كان المراد من سوق هذه اﻷحوال بيان شأن عيسى عليه السلام والثناء عليه وإعلام أمّه بما سيكون عليه من شأن كبير كان إظهار هذه الحال في صورة الجار والمجرور أعظم دﻻلة على خرق العادة الدال على عظيم القدرة وكبير الشأن ﻷن الجار والمجرور يحمل دﻻلتين إحداهما مجالها الحرف والثانية مجالها المجرور.
قال البقاعي عن شأن هذه البشارة : "ثم أتمّ لها البشارة بأوصاف جعلها أحوالا دالة على أنه يَظهر اختصاصه بها حال الوﻻدة تحقيقا لظهور أثر الكلمة عليه".
قوله تعالى (وَكَهْلًا) فليس هناك من فائدة أن تُذكر الظرفية فيه فيقال (في الكهولة) ﻷنه أمر معلوم واقع ليس فيه ما يتميز به عن غيره وإنما كان ذكره لتأكيد ما يُقابله من الكلام وأنه حصل في حالة الطفولة ﻷنها بضدها تتميز اﻷشياء، وعندما ذكرت الكهولة في مقابل المهد زادت المعنى تأكيدا وإيضاحا وإبعادا لكل احتمال والمراد أنه تكلم حال كونه في المهد وحال كونه كهلا على حد واحد وصفة واحدة وذلك وﻻشك غاية في المعجزة.
وقيل : بل خُصّت هذه السن في اﻵية دون سائر العُمر ﻷنها الحالة الوسطى في استحكام العقل وجودة الرأي.
وفي قوله تعالى (وَكَهْلًا) زيادة على ما مضى تبشير ﻷمّه بأنه سيعيش إلى سِن الكهولة.
وقيل : بل خُصّ تكليمه بهاتين الحالتين حال كونه في المهد وحال كونه كهلا مع أنه يتكلم فيما بين ذلك ﻷن لهاتين الحالتين مزيد اختصاص لتشريف الله إياه. فأما تكليمه الناس في المهد فلأنه خارق للعادة إرهاصا لنبوته وأما تكليمه كهلا فمُرادٌ به دعوته للناس إلى الشريعة أي كونه رسولا.
تاسعا: ومن اﻷحوال التي وردت عنه -عليه السلام- قوله تعالى وَمِنَ الصَّالِحِينَ) وهو حال معطوف على (وَجِيهًا) ويقال فيها من حيث المعنى ما قيل في قوله تعالى (وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) أي وصالحا من جملة الصالحين.
ولكن ربما نتساءل لماذا ختمت هذه اﻷوصاف التي وصف بها عيسى عليه السلام بهذا الوصف وهو قوله تعالى ( وَمِنَ الصَّالِحِينَ)؟
 لعل ذلك ﻷن الصلاح هو أعظم زينة يتزين بها المرء ﻷنه ﻻ يكون كذلك إلا ويكون في جميع اﻷفعال وما يترك، مُواظبا على النهج اﻷصلح والطريق اﻷكمل فلما ذكر الله عز وجل بعض التفاصيل أردفه بهذا الكلام الذي يدل على أرفع الدرجات أﻻ وهو الصلاح.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
------------------------------------
          

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق