الاثنين، 18 مايو 2015

تفسيرالمثل في قوله تعالى ( إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء..) / د. محمد بن عبد العزيز الخضيري



المثل الخامس في سورةِ يونُس:
 يقول الله عز وجل:
 ( إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٢٤) وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ)
هذا المَثل جعله الله عز وجل للحياة الدُنيا ليُبيِّن سرعةَ زوالِها وانقِضاء متاعِها وأنَّه لا يجوز لِعاقلٍ أن يغتر بها، لا يغتر أحدٌ بهذه الدُنيا إن كان عاقِلاً وقد جاءت هذه الآية بعد قوله ( فَلَمَّا أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُم مَّتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) أنتم تتركون العمل بالحق وكُلما وقعتم في مُلِمَّة أو مُصيبة دعوتم الله مُخلصين له الدين فإذا نجَّاكم .. صِرتُم في البر عُدتم إلى الشرك وأبيتُم أن تقبلوا التوحيد، اعلموا أنَّ الحياة قصيرة وأنه لا يجوز الركُون إليها ولا الاغترار بها ولا الانخِداع بمتاعِها الزائل الذي ما أسرع ما يزول وينقضي.
 ثُمَّ ضرب الله لِسُرعة تقضِي متاع الدُنيا بقوله  ( إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) أي في سُرعةِ تقضِّيه وذهابه وزواله وانقِضاءه ( كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء) أي كمطرٍ أنزلهُ الله من السماء (فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ) جعلهُ الله مُختلِطاً بنبات الأرض (مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ) 
 سواءً كان من كلأ البر الذي تأكُله الأنعام أو من الزُروع التي يزرعُها الناس من أجل أن يحصلوا على ثمرتها وما فيها من الرزق لهم قال (حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ) الأرض أخذت زُخرفها بالنبات فوصفها ربُنا سبحانه وتعالى إذا أزهت ورَبت ونمت وصار الشجر على أحسن ما يكون والثمر على أفضل ما يبغي الإنسان ويُريد من الجمال والكمال والنَضرة وهو الآن يترقَّب أن ينتفع بها بما فيها من الثمرة قال (حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ) تجمَّلت (وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا) يقولون غداً سنحصُد هذه الثمرة ، غداً سنبيع ثمر هذه الأشجار أو هذه الزُروع والثِمار فنحصُل على الخير الكثير قال (أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا) أي محصودةً (كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ) يعني كأن لم تكُن قائمةً بالأمس القريب.
 وهذا المشهد يعلمه الناس في حياتهم وواقعهم وهو أنَّ الإنسان يزرع الزرع وينتظِر خروج الثمرة وتستوي الثمرة إلا قليلاً فهو ينتظِر يوم أو يومين أو ثلاثة أو أسبوع لكي يحصُد هذه الثمرة فما يدري إلا وتأتي ريح بارِدة شديدة أو نار مُحرقة أو آفة سماوية فتُذهِبه كُله فكذلك الدُنيا لا يجوز لأحدٍ أن يغتر بما فيها من النِعمة وما فيها من اللذّة وما فيها من الزُخرف وما فيها من الزينة.
 أنت الآن عندك قوة .. عندك صِحة .. عندك زوجة .. عندك أولاد ..عندك بيت .. عندك وطن.. والله تُمسي تلك الليلة آمِناً في سِربك مُعافاً في بدنِك عندك ليس قوت يومِك وإنَّما قوت عامِك ولديك رصيد ولديك أولاد ولديك كُل خير تُصبح وقد تغير كُل شيء لأنَّ طبيعةَ الدُنيا هكذا لا يركَن إليها ولا يطمئن إلى مُتعِها ولذائذها إلا إنسانٌ جاهل خفيف العقل، الدُنيا غدَّارةٌ مكَّارة، الدُنيا لا قرار لها ولا طُمأنينة فيها ولا استقرار لهذه الحياة فكيف تأمنُها؟! كيف تطمئن إليها؟!
 أقول لكَ تصدَّق تقول لي بعدين، صلِ بعدين، صُم بعدين، آمِن أُفكر، أُكتب وصيتك اليوم أُفكر، أوقِف وقفاً من مالِك أُفكر وأنتظر تُفكر ماذا الدُنيا غدَّارة اليوم في صِحَّتك في سلامتِك في قُوتك في نشاطك في غِناك في أمنِك في وطنِك كُل هذا يذهب في لحظات وما زِلت أتذكر يا إخواني -وأنا ممن عاش هذِه اللحظات- حرب الخليج التي تقضَّى عليها الآن قُرابة خمس وعشرين عام راحت من أعمارِنا -نسأل الله سبحانه وتعالى أن تكون شاهِدة لنا لا علينا- إخوانُنا في الكويت أمسوا في دَعة وأمن وراحة ورَغَد من العيش ما يُفكرون في شيء وهم في بلادهم آمنون مُطمئنون وأصبحوا يا إخواني مُشرَّدين لا يدرون إلى أين يذهبون وماتَ جماعةٌ منهم في الصحراء من شدَّة ما أصابهم من الخوف لأنَّه نزل بهم عدوٌ ظالمٌ غاشم وأحاط بهم من كُل جانب
هل كانوا يُفكرون في هذا ؟ هل كانوا يُقدِّرون هذا ؟ هل كانوا يتوقعون هذا ؟
لا والله وقبل ثلاث سنوات وأربع سنوات كانت هُناك دُول قائمة كبيرة وعليها رؤساء وفي أيامٍ معدودة تنتهي رِئاستُهم وتذهب دولتُهم ولا يبقى لهم من مُلكهم شيء أحدُهم مُشرد والآخر سجين والثالث ذبيح وغير ذلك.
 أرأيتُم كيف الركون إلى الدُنيا والإغترار بها والاطمئنان إليها أنَّه من أعظم الجهل وأنَّه لا يفعل ذلك إلا إنسانٌ لا يعرِفُ حقيقتها مالذي نستفيدُه من هذا؟ 
نستفيد من هذا أنَّك تُبادر إلى الإيمان والعمل الصالِح والقِيام بالواجِبات وترك المُحرمات والمُسارعة في الخيرات قبل أن يذهب كُل هذا الذي بيدِك ، إن لم يذهب منك أمام عينيك فإنَّهُ قد تذهبُ أنت وتبقى هذه الدُنيا من بعدِك لِمن يأتي ويغترّ بها ويصير مصيرُه مثل مصيرك. الدُنيا هكذا شأنُها إن لم تذهب هي من بين يديك ذهبتَ أنت وتركتها في أحد يخرُج من هذين الصِنفين ؟ مافي أحد إمَّا أن تتركها أو تتركك فكيف تغتر بها ؟ ولا أحد يدري متى تتركك أو متى تترُكها
فعلامَ تغتر بها ؟
لماذا تُسوِف في التوبة ؟
لماذا تُسوِف في العمل الصالِح ؟
لماذا تقول غداً أتوب غداً أُصلح من حالي غداً أُغير من وضعي غداً بعدين أنا أُصلِّح الأوضاع ؟
لا أبدأ اليوم وغيّر الليلة قبل غدٍ ولذلِك قال الله عزَّ وجل في هذا المثل العجيب ( إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا ) ما بينَهم وبين قطفِ الثمرة إلا دقائق أو سويعات أو يوم أو أيام  (أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا) أي محصودةً (كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ) أي كألم تكُن قائمةً في الأمس القريب. (كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) طيب ياربَّنا ماذا نصنع ؟
قال الله (وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ) الدار التي فيها الأمن .. فيها السلامة .. فيها الخلود .. فيها الطُمأنينة .. لا يتغير شبابُها وليس فيها شيءٌ من الخوف والحُزن، هذا هو الذي يدعوك الله إليه ابحث عنه أُبذل كل الأسباب في الوصول إليه أُطرق الأبواب كُلها من أجل أن تُحصل أعلى الدرجات فيه (وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ).
 ثُم يُبيِّن أصناف المدعويِّن وأنَّهم صِنفان:
 الصنف الأول يقول ( لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى) وهي الجنَّة (وَزِيَادَةٌ) وهو النظر إلى وجه الله الكريم (وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ)
 لا يُصيبُهم في ذلك اليوم شيءٌ من الظُلمة لأنَّهُم باتوا في دُنياهُم عابدِين ساجدين مُطيعين مؤمنين (أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)
 ثُم جاء المثل الذي بعده للصِنف الثاني وهو قولُه (وَالَّذِينَ كَسَبُواْ السَّيِّئَاتِ) اختياراً منهم كسِبوها طواعيةً واختياراً (جَزَاء سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا)
 أي جعل الله جزاء السيِّئة بمثلها ولم يظلِمهُم بأن يزيد عليهم أو ينقُص منهم (جَزَاء سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ) أي يُصيبُهم في ذلك اليوم وتعلُوهم ذِلةٌ عظيمة بسبب أنَّهُم يعلمون أنَّهم مُقبلون على حكَمٍ عدل وأنَّهُم ليست لهُم في الآخرة حسنة بل ما عِندهُم يستقبِلهُم في الآخرة إلا السيئات -نسأل الله العافية والسلامة-
 قال (مَّا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ) لا يعصِمُهم من الله أحد ، ولا حِظوا كيف يؤكِد عدم عِصمةِ أحدٍ لهم دون الله فيقول (مَّا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ) لا يوجد أحد مهما كان لا مَلَك مُقرب ولا نبي مُرسل يعصِمهُم من الله عزَّ وجل فهُم في قبضتِه وتحت قهرِه وجبروتِه وملكوتِه.
 (كَأَنَّمَا) وهذا موطِن المثل (أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِّنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا) أُغشيت بمعنى أُلبست وجُعِلت لها غِشاوة ( قِطَعًاأي قطعة كقِطعة الثوب قِطعاً لكن ليس من الثياب وإنَّما من الليل لشِدَّة سوادِها .
(قِطَعًا مِّنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا) ولو كانوا في الدُنيا أحسن الناس وجوهاً وأضوأ الناس بشرةً فإنَّهُم يُبعثون يوم القيامة وجوهُهم مُسودة كما قال الله عزَّ وجل في سورة آل عمران التي كانت معنا قبل قليل (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ ۚ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ) وهُنا قال (كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ) أي أُلبِست (وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِّنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق